الصين تحتفي بتأسيس حزبها

مائة عام من الرهان الشيوعي: كيف يُفسّر صموده...؟

مائة عام من الرهان الشيوعي: كيف يُفسّر صموده...؟

-- يقلد شي جين بينغ ماو في أساليبه، ويستخدم المقولات للتعبير عن أيديولوجيته
-- الأسرة هي العش الذي يحمي من التدخل المتفشـي للدولــة
-- يرغب العديد من الصينيين في النهوض اجتمـاعيًــا ولكنهــم محرومــون مــن ذلك
-- المجتمع اليوم مجمّد جزئيًا على المستوى الاجتماعي
-- لم تُحدث الثورة الشيوعية الصينية ثورة في القيم الاجتماعية «التقليدية» أو تغيّرها بالكامل


في الأول من يوليو، سيحتفل الحزب الشيوعي الصيني بالذكرى المئوية لتأسيسه. لقد تطلّب الأمر ثمانية وعشرين عامًا ليتولى السلطة، وبعد اثنين وسبعين عامًا، لا يزال في قمتها. ولئن لم يتجاوز الحزب الشيوعي الصيني بعد الـ 74 عامًا من حكم نظيره السوفياتي، فقد استخلص العبر والدروس من سقوط الاتحاد السوفياتي.    كيف نفسر مرونته ومقاومته؟ كيف يحكم الصين؟ ما مدى سلطة شي جين بينغ على الحزب والمجتمع اليوم؟ ناقش المعهد الفرنسي لأبحاث شرق آسيا ذلك خلال مؤتمر انتظم عن بعد في 18 مايو، كجزء من “اجتماعات الاثنين”، مع ثلاثة من أعضائه: كاثرين كابديفيل-زينغ، وشياو هونغ شياو-بلانيس، وغيبرغ ديلاموت.    كيف يتجلى صمود الحزب الشيوعي الصيني، وهذه القدرة على التكيف التي مكنته من بلوغ مائة عام اليوم؟    تم تأسيس الحزب الشيوعي الصيني من قبل الكومنترن: كان قسمًا من الكومنترن منذ فترة طويلة، يفتقر إلى الاستقلالية، يُذكّر شياو هونغ شياو بلانيس، عالم التاريخ الصيني المعاصر، وأستاذ جامعي مميّز في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية.

 سعى لإثارة الانتفاضات في المدن دون جدوى، ثم اتجه إلى الريف حيث نفذ عمليات حرب العصابات. لقد انتصر بفضل الحرب الصينية اليابانية: لولا هذه الحرب، ما كان من الممكن أن ينتصر.
   حصل ماو عام 1938 على دعم الكومنترن، وأكسب عقائده الماركسية اللينينية ثم الستالينية طابعا صينيا صرفا. بين 1942 و1944، نظم حملة “تصحيح أسلوب العمل” لإزالة آثار التكوين السوفياتي، الذي كان أكثر شهرة ورواجا. لقد مرر كتاباته على أنها أساس الماركسية اللينينية “على الطريقة الصينية”، وشن حملة ضد معارضي خطه، ورسّخ تفكيره في قوانين الحزب الشيوعي الصيني. فعل شي الرئيس الحالي حرفيا نفس الشيء.

   خلال الثورة الثقافية، أراد ماو تدمير الفريق القديم لاستعادة السلطة بعد الكارثة الإنسانية للقفزة العظيمة للأمام. عانى دنغ شياو بينغ من هذه الحملة. وفي وقت لاحق، عندما أصبح “القائد القصير”، الرجل القوي الجديد للحزب، اختار الكوادر الأصغر سنا، واحال كبار السن على التقاعد، ورفض الخلافات الإيديولوجية، ومارس الانفتاح.

   كان لأحداث ميدان تيانانمين عام 1989 أسباب عديدة. وُلدت صراعات كثيرة على وجه التحديد من الانفتاح الذي أثار حماس الشباب والمثقفين والطلاب. وكشف الإصلاح الاقتصادي عن أوجه التفاوت الاجتماعي والفساد. كما أنه خلق شكلاً من الذعر بسبب التضخم. لقد بدأ مجتمع مدني في الظهور، ثم ثار، ولكن النظام السياسي لم يتغيّر بشكل جذري.
   عام 1987، تم تبني مشروع إصلاح سياسي، لكنه لم ينفذ: تجاوزت الاحداث السلطة، ولجأت هذه الاخيرة للقمع. ومع ذلك، كانت تفكر في توزيع أفقي ورأسي للسلطة.

وخلال الأحداث التي وقعت في ميدان تيانانمين، كان يُنظر إلى القوى الاحتجاجية على أنها تخريبية، وتشدّد المحاربون القدامى المحيطون بدنغ شياو بينغ.
   ثم، في عام 1991، أدى سقوط جدار برلين وانهيار العالم السوفياتي إلى زيادة حذر النخب. باشر دينغ، بدعم من الجيش وجيانغ تسه مين، الذي تم تعيينه سكرتيرًا للحزب في 24 يونيو 1989، الانخراط في أنظمة دولية مختلفة. من جانبه، أعاد جيانغ إحياء الإصلاح الاقتصادي، وتم استبعاد الإصلاح السياسي، الا ان جيانغ فتح الحزب أمام طبقات اجتماعية أخرى، وخاصة الرأسماليين.

  أي سلطة رقابة وسيطرة تمارسها الدولة على المستوى المحلي؟ وماذا عن سيطرة الحكومة المركزية على السكان؟
   لفهم آليات السلطة، يجب العودة إلى عام 1949، وإلى روابط القرابة التي ظلت أساسية، تؤكد كاثرين كابديفيل-زينغ، أنثروبولوجية متخصصة في الصين وأستاذة جامعية في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية. في هذه المنطقة الشاسعة للغاية، لم تكن السلطة الإمبراطورية سلطة كاملة، بل كانت ضعيفة: كان هناك عدد قليل جدًا من ممثلي الإمبراطور في الريف. وكانت المحليات تُحكم من قبل أعيان محليين منظمين وفقًا لمجموعات القرابة والعشائر والنّسب، بحيث تمتّع الريف بقدر كبير من الاستقلال الذاتي.

   مع القرن العشرين، وصلت السلطة للعائلات والريف. وتحولت علاقات القرابة لتضعف سلطة هؤلاء الوجهاء المحليين. لكن علاقات القرابة استمرت تشتغل، حتى داخل الحزب. جمعت عبادة الأسلاف الناس في سلالة، ولا تزال هذه العلاقات مهمة في الريف اليوم. في بعض القرى يوجد تراكب بين القرية والقرابة.

   تبرز المحليات خصوصياتها فيما يتعلق ببعضها البعض؛ هناك نقاش وتفاوض بين المستويات. لكن هذه المفاوضات لا تظهر في الإعلام، فهي مغلقة ومبهمة في اجتماعات الحزب وكوادره. لا يعرف الكثير من كوادر الحزب ما هي الفسحة المتاحة أمامهم لتبني الإصلاحات، ومنذ شي جين بينغ، تقلصت هذه المساحات.

   الجانب المحلي مهم جدا، يضيف شياو هونغ شياو بلانيس. مع إصلاح دنغ، حدثت لامركزية كبيرة في السلطة، وتم تفويض قدر كبير من السلطة إلى المستوى المحلي.   وبالتالي، فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية استدعت تكييف السياسات محلياً. لكن مع شي جين بينغ، كان هناك توطيد للسلطة المركزية: العديد من الكوادر ينتظرون ويماطلون. وإذا كانت هناك إجراءات تفيد منطقتهم، فإنهم يطبقونها، وإلا فإنهم يؤخرون. إنهم يمنعون الناس من اتخاذ مبادرات لتجنب العقوبات.

   على المستوى المركزي، ركّز شي جين بينغ منذ عام 2017 وولايته الثانية، السلطة بشكل كبير في أيدي المتعاونين المقربين. جاء الرجل الاول في الصين إلى السلطة بفضل دعم فصيل جيانغ زيمين وساعده الأيمن تسنغ تشينغ هونغ. لكن شي قضى على بعض المتعاونين مع “فصيل الأمراء” –وهؤلاء هم أبناء قدامى المحاربين في زمن ماو، وبات يعتمد على من يثق بهم، ويسعى إلى تقوية سلطته الشخصية.

   لم تُحدث الثورة الشيوعية الصينية ثورة في القيم الاجتماعية “التقليدية” أو تغيّرها بالكامل، تشير كاثرين كابديفيل زينغ. ما ينظم العلاقات الاجتماعية في القاعدة هو علاقات المكانة، والأسرة تتوافق مع ذلك. لم يتحول هذا عند الناس، ولا تزال هناك اختلافات هائلة -بين كوادر الحزب والشعب، وبين المدينة والريف، والرجال والنساء، والشيوخ والشباب. التسلسل الهرمي لا يزال موجودا، ويرغب العديد من الصينيين في النهوض اجتماعيًا ولكنهم ممنوعون من ذلك.

   من حيث العلاقات الاجتماعية، للناس الآن الحق في الزواج من أي شخص يريدونه نظريًا، وحق الاستهلاك. كانت إمكانية التقدم اجتماعيًا موجودة دائمًا من خلال الاختبارات الإمبراطورية أو من خلال التجارة، رغم أن هذا الاحتمال كان نظريًا أكثر منه حقيقيًا. ومع ذلك، فإن المجتمع اليوم مجمّد جزئيًا على المستوى الاجتماعي: لا يزال من الصعب جدًا على الفلاحين النهوض.

   ما هو نصيب الخوف؟ إلى متى سيستطيع شي جين بينغ البقاء في السلطة؟
   في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة، تعتبر العلاقات الإنسانية أساسية: فالجميع دائمًا تحت أنظار الآخرين، تذكّر كاثرين كابديفيل-زينغ. لا يمتلك الأفراد فكرة أن يكونوا مستقلين أو يتمتعون بالاكتفاء الذاتي. الفرد هو في الأساس كائن اجتماعي، والرقابة الاجتماعية موجودة -وكانت دائمًا كذلك. وتعزز التقنيات الجديدة هذه الظاهرة، غير ان الصينيين لا يرون أن هذه الكاميرات أكثر تدخلاً من الرقابة الاجتماعية التي يخضعون لها دائمًا. وفي هذا السياق، فإن الأسرة هي العش الذي يحمي من التدخل المتفشي للدولة الا ان مساحة المناورة للفرد لا تزال محدودة للغاية حتى اليوم.

   يقلد شي جين بينغ ماو في أساليبه، ويستخدم المقولات للتعبير عن أيديولوجيته، لكن الوصفات كلاسيكية، وتهدف دائمًا إلى تعزيز وسائل الخوف، وفقًا لتحليل وشياو هونغ شياو-بلانيس. يمارس السكان الرقابة الذاتية باستمرار. وفي الشبكات الاجتماعية، يتم الاحتفاء بمكافحة الفساد من خلال تكرار المعلومات الرسمية. إنه شكل من أشكال الإشارة التي تعطيها السلطات إلى السكان. العروض الناجحة والبرامج التلفزيونية تنال استحسان     العدد الأكبر من الجماهير، ولكن بالنسبة للجزء الأكثر ديناميكية من المجتمع، فإن الوضع صعب والمبادرة متقلصة. وهذا يتعارض مع الأهداف المعلنة: أن تصبح الصين نموذجًا عالميًا ...

   لا تبدو السلطة شرعية: ينفجر الاستياء الكامن في كل مرة ترتخي فيها قبضة النظام، تلاحظ كاثرين كابديفيل-زينغ. النظام الحالي لا يلبي انتظارات جزء كبير من السكان. كان الكثيرون يودون مواصلة الزخم الذي بدأ في بداية القرن الحادي والعشرين أو بعد ذلك مع حزب شيوعي متحرر. اليوم، أصبحت الصين تشكل تهديدًا في العالم، وليس هناك مساحة للمعارضة والصينيين غير راضين.
   نحن نشهد زيادة في اضطهاد الأقليات، يؤكد شياو هونغ شياو بلانيس، والذي يمكن تفسيره بالرغبة في السيطرة الكاملة. لا يمكن للحزب أن يقبل أيديولوجية مختلفة -الدين-. والحزب لا يثق في الكوادر، حتى الشيوعيين، من هذه الأقليات المسلمة أو التبتية.

   هناك طبقة وسطى متنامية، من 500 إلى 600 مليون شخص، ولكن يمكن أن يكون للسكان أيضًا تطلعات غير مادية. 70 بالمائة من الاقتصاد خاص، والدولة تسيطر على القطاعات الاستراتيجية دون غيرها. وليس كل رواد الأعمال سعداء بالسياسات الحكومية. القمع لا يرحم: العروض والإعلام والإبداع الثقافي لم يعد لها مساحة. قبل 10 سنوات، كان التعبير متاحا. ترتفع أصوات، لكنها بالتأكيد لا تعبّر مباشرة ضد شي جين بينغ. لا يبعد رجل الصين الأول، الذي برمج بقاءه في السلطة، عن سنّ 70 عامًا... فإلى متى سيكون قادرًا على الصمود؟
باحثة في المعهد الفرنسي لأبحاث شرق آسيا وأستاذة محاضرة في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية ومعهد العلوم السياسية بباريس