رئيس الدولة والرئيس المصري يبحثان العلاقات الأخوية والتطورات الإقليمية
بعد رحيل آخر جندي عن النيجر :
ماذا أعطت فرنسا لأفريقيا ...و ماذا أخذت ؟
إذا كانت نهاية «فرنسا الإفريقية « مؤلمة، فذلك لأنها كانت مزيجا من الأحلام والروابط الإنسانية والاقتصادية والسياسية. كوكتيل يمزج بين آمال التنمية في أفريقيا وأذرع القوة الفرنسية. بعد رحيل آخر جندي فرنسي عن النيجر ، الذي مثل طلاقا حاسما بين باريس و النظام العسكري الذي وصل الى السلطة عبر انقلاب في نيامي،و نهاية لانخراط فرنسا في القتال ، طيلة عشر سنوات ،ضد الجهاديين في منطقة الساحل ، يتناول جان باتيست نوي المؤرخ و مدير تحرير مجلة « نزاعات « الفرنسية تاريخ العلاقات الفرنسية الإفريقية منذ منتصف القرن الماضي و عبر السياسات التي انتهجها رؤساء فرنسا طوال هذه الحقبة مقدما وجهة نظر مختلفة عن مصالح فرنسا بالقارة السمراء و مكاسبها من وجودها بها و أسباب راجع نفوذها بها .
ما لا يقل عن ثمانية انقلابات في ثلاث سنوات شهدتها منطقة غرب أفريقيا، التي ظلت تحت النفوذ الفرنسي،بشكل متتابع، منذ شهر اغسطس من عام 2020 في مالي 2020ثم في شهر مايو 2021 ثم في التشاد في شهر ابريل عام 2021 و في غينيا في سبتمبر 2021،و في بوركينا فاسو في يناير ثم في سبتمبر 2022 ،وفي النيجر في يوليو 2023و في الجابون في أغسطس 2023 .
وإذا ما تعددت الأسباب لعمليات الانقلاب هذه ، وكان لكل بلد خصوصياته، فإنها قد أضعفت جميعها، بطريقة أو بأخرى، حضور فرنسا في القارة الإفريقية .ففي مالي، أجبرتها السلطة الجديدة على وضع حد في عام 2022 لعملية برخان التي شهدتها منذ عام 2014، وعلى حساب حياة 58 من جنودها، و التي جنبت انهيار الدولة وتوجيه ضربات حاسمة لقواعد تنظيم داعش في الصحراء. وفي النيجر كان السفير الفرنسي على حد تعبير رئيس الجمهورية، «رهينة» من قبل السلطة الجديدة. وفي كل مكان، تتزايد المظاهرات المناهضة لفرنسا؛و كان يجب على الجيش أن يغلق قواعده ويسحب رجاله، ويرى المواطنون الفرنسيون أن انعدام الأمن يتزايد الآن بالنسبة لهم. لقد أعيدت محاكمات الاستعمار الجديد، وظهر شبح أفريقيا الفرنسية. و طيلة ثلاث سنوات، أصبح الوجود الفرنسي في أفريقيا موضع تساؤل. ومعه تتم إعادة النظر في ستين عامًا من تاريخ إنهاء الاستعمار.
من الاستعمار إلى»
فرنسا الإفريقية»
لم يكن الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء سوى فترة وجيزة في تاريخ فرنسا وأفريقيا الطويل. ومع ذلك، إذا كانت هذه الظاهرة قد استمرت بالكاد مدة حياة الإنسان، بدءًا من ثمانينيات القرن التاسع عشر وانتهت في معظم البلدان في عام 1960، فإن الاستقلال السياسي لم يكن يعني النهاية الوحشية للوجود الفرنسي فقد تم إجراء أول عملية إعادة تنظيم إداري في عام 1946 مع إنشاء الاتحاد الفرنسي بموجب دستور الجمهورية الرابعة. ويهدف هذا الاتحاد إلى ربط فرنسا المركز وأقاليم ما وراء البحار والمستعمرات. و من الناحية النظرية، كان جميع أعضاء الاتحاد مواطنين و كان يمكن أن تتطور الحياة السياسية في أقاليم ما وراء البحار. والواقع أن المساواة القانونية لم يكن لها تعبير مباشر.
و لقد اختفى الاتحاد الفرنسي مع الدستور الجديد لعام 1958 وحلت محله المجموعة الفرنسية، المحددة في دستور الجمهورية الخامسة في العنوان الثاني عشر، في “ المجموعة ”: “في المجموعة التي أنشأها هذا الدستور، نقرأ في المادة 77،» تتمتع الدول بالاستقلال الذاتي؛ وتدير شؤونها الخاصة بشكل ديمقراطي وحر. هناك جنسية واحدة فقط للمجموعة. جميع المواطنين متساوون أمام القانون، بغض النظر عن أصلهم وعرقهم ودينهم. لديهم نفس الواجبات. « كما أصبح فرنك المستعمرات الفرنسية العملة الرسمية في أفريقيا و اليوم يُترجم الاختصار CFA على أنه المجموعة المالية الأفريقية، الفرنك الذي تم إنشاؤه في عام 1939، هو عملة هذه المجموعة. من الناحية النظرية، تتمتع الدول الأعضاء في المجتمع بدرجة كبيرة من الاستقلال الذاتي، ولكن في الواقع كان هذا مقيدًا بالمادة 78 التي حددت مدى مجالات الاختصاص التي تحتفظ بها فرنسا المركز ، وهي السياسة الخارجية والدفاع والعملة والمالية والمواد الخام. و هو السبب الذي كان وراء خيبة أمل بسرعة للاستقلاليين. لذلك طالب العديد من الناس بعد ذلك بالاستقلال، وتم منحه لمعظم بلدان أفريقيا السوداء في عام 1960 وبعد عامين فقط، أفسحت المجموعة المجال لنوع آخر من العلاقات، والذي يطلق عليه عادة «Françafrique» كما أن وزارة المستعمرات، التي أصبحت وزارة فرنسا ما وراء البحار عام 1946 ، خلفتها وزارة التعاون 1961 ، المسؤولة عن العلاقات الإقليمية والتنمية. وتستمر حتى اليوم باسمٍ ونطاقٍ شهدا تطورا ملحوظا. وبينما كان الاتحاد والمجموعة عبارة عن هياكل قانونية و تشريعية ، فإن» فرنسا إفريقيا « قامت على علاقات شخصية، مكونة من صداقات وتعاون وعلاقات بين الإدارات الفرنسية وإدارات الدول الإفريقية والسياسيين الفرنسيين ورؤساء الدول المستقلة حديثًا. وبالتالي فإن عدد البلدان الفرنسية الإفريقية يساوي عدد البلدان الأفريقية، خاصة وأن العلاقات تطورت مع مرور الزمن وتجدد الأجيال.
إلى هذا الإطار الفرنسي أضيفت حالة العلاقات الدولية. وبينما كنا في خضم الحرب الباردة، تم إبرام اتفاق ضمني مع الولايات المتحدة بموجبه تكون العناية لفرنسا بأراضيها الأفريقية السابقة، والتي بالكاد كانت تثير اهتمام الولايات المتحدة.فيما يكون مجال اهتمام هذه الاخيرة منصبا على أوروبا و آسيا و العلم العربي. وقد ترك عدم الاهتمام الأمريكي بأفريقيا المجال مفتوحًا أمام باريس لمواصلة علاقاتها وجعل أفريقيا رافعة للحفاظ على استقلالها وقوتها العالمية .
إن « فرنسا إفريقيا « هي أولا وقبل كل شيء وجوه معروفة، ورؤساء دول ومستشارون، وعشاق مجهولون. وقد درس العديد من الرؤساء الأفارقة ووزراءهم في فرنسا، وأرسلوا أبنائهم إلى هناك، وتلقوا العلاج هناك. ليوبولد سيدار سنغور»1906 -2001، من السنغال كان زميلَ جورج بومبيدو وعضو الأكاديمية الفرنسية،و فيليكس هوفويت بوانيي «1905-1993 من ساحل العاج، كان نائبا فرنسيا وعضو الحكومة قبل رئاسة ساحل العاج، وجان بيديل بوكاسا « «1921-1996 ،من أفريقيا الوسطى كان كابتن الجيش الفرنسي،و دينيس ساسو نجيسو ولد عام 1943،من الكونغو برازافيل، هو ضابط تدرب في فرنسا،و عمر بونغو»1935 -2009،من الجابون .هؤلاء هم أفضل الأمثلة على رؤساء الدول هؤلاء الذين تعاونت معهم باريس حافظت على روابط مميزة ومعقدة.
إلا أن المحور الأساسي هو جاك فوكار الأسطوري، الذي قام من الأمانة العامة للشؤون الأفريقية والملغاشية «1960-1974» بدعم القادة، وتنظيم الانقلابات بمساعدة الأجهزة السرية، وضمان حسن سير التعاون. ومن نجاحاته وضعُ عمر بونغو في المدار، حتى وصوله إلى رئاسة الغابون عام 1967، بعد أن قام بتعديل الدستور بحكمة، ودعم الانقلاب الذي سمح لبوكاسا بتولي قيادة جمهورية أفريقيا الوسطى «1966» لكن « فرنسا أفريقيا « هي أيضًا الآلاف من الأشخاص المجهولين المتحمسين لأفريقيا: الأطباء، والأطباء البيطريون، والأساتذة، والجغرافيون، وموظفو الخدمة المدنية الذين أمضوا كل أو جزء من حياتهم المهنية في المستعمرات السابقة. في عام 1965، غيّر بيير ميسمر، وزير القوات المسلحة آنذاك، طبيعة الخدمة العسكرية: فهي لم تعد «عسكرية» فحسب، بل أصبحت «وطنية» أيضًا. يتيح هذا التحول لآلاف الشباب أداء خدمتهم كمتطوعين في بلد أجنبي، في الواقع داخل الإمبراطورية الاستعمارية السابقة. إنها طريقة للحفاظ على العلاقات الإنسانية والمساهمة في تنمية البلدان الإفريقية السوداء. وفي الاتجاه المعاكس، يتم حجز المنح والأماكن للطلاب المستحقين للالتحاق بالصفوف التحضيرية أو المدارس الوطنية الفرنسية. أما المدارس العسكرية فتستمر في تدريب طلاب من المستعمرات السابقة. لكن اتهامات الأبوية والتدخل بدأت تقصف هذه العلاقة الخاصة في وقت مبكر جدًا، مما أدى إلى إعادة التفكير فيها وتحديثها.
فاليري جيسكار ديستان : القطيعة والمثابرة
رغبة منه في الانفصال عن الديغولية وعن فرنسا الإفريقية، وضع فاليري جيسكار ديستان حدًا لوظائف فوكار. و كان من المفهوم أن فرنسا يجب أن تقوم بتدخلات أقل مباشرة و أن تقدم المزيد من المساعدات التنموية. ولكن هذا لم يكن هذا الحال: فقد شهدت فترة ولاية جيسكار ديستان التي دامت سبع سنوات، على العكس من ذلك، تكثيف التدخلات العسكرية الفرنسية في أفريقيا، والتي لم تتوقف قط منذ ذلك الحين. و إذا ما كانت عملية كابان، «1979» التي أطاحت ببوكاسا ،استمرارًا للعمليات التي نظمها فوكار، فإن عملية بونيت «1978» كانت بمثابة قطيعة حقيقية. الجيش الفرنسي الرسمي، و بشكل رسمي، يتدخل بناء على طلب دولة أجنبية هي زائير وبالتنسيق مع دول أخرى هي بلجيكا،و المغرب،و زائير و يضمن معركة كولويزي، وهي عملية ناجحة قام بها مظليون من الفيلق الأجنبي،من أجل إطلاق سراح الرهائن الأفارقة والفرنسيين المحتجزين لدى انفصاليي كاتانغا. ولكنها في المقام الأول سمحت لجيش لا يزال يعاني من الصدمة بسبب إخفاقات الهند الصينية والسويس أن يرفع رأسه، الأمر الذي أثار الفخر المشروع في مختلف أنحاء البلاد. ومن بين العمليات الخارجية الخمس عشرة التي تم تنفيذها خلال فترة السبع سنوات، سيتم تنفيذ ثلاث عشرة عملية في أفريقيا، تتراوح بين الدعم اللوجستي والمساعدات لمرة واحدة لمصر وجيبوتي إلى التدخل العسكري الصريح في تشاد وأفريقيا الوسطى وزائير.
ميتران: الديمقراطية أولاً
أعلن فرانسوا ميتران، حتى قبل أن يتم انتخابه بعد، عن رغبته في وضع حد لفرنسا-أفريقيا، كما سيفعل كل خلفائه من بعده. في الواقع، بدأت القطيعة خلال خطابه في لا بول «1990» الذي أعلن فيه أن التصرفات التسلطية لرؤساء الدول الأفريقية سيتم قريبا وضع حد لها. إن ممارسات الحزب الواحد، وتكميم أفواه المعارضة، والسيطرة على الصحافة، ومصادرة الموارد، وسوء الإدارة السياسية، كل ذلك أضعف آمال الاستقلال. إن أفريقيا، التي كانت زراعتها تكتفيها ذاتيا عشية إنهاء الاستعمار، أصبحت الآن متخلفة في كل شيء: الطب، والتنمية، ونصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي. وتتفوق عليها إلى حد كبير آسيا، التي تشهد نمواً قوياً ومستداماً.
وكان في ذهن ميتران ومستشاريه بالتالي، إن نهاية الديكتاتوريات فقط هي التي يمكن أن تؤدي إلى تنمية البلدان؛ وبالتالي فإن الديمقراطية هي الطريق الصحيح. لا مزيد من الدعم للانقلابات الداخلية والمرزابات الذين استولوا على ثروات بلادهم. ويؤيد ميتران طريق التحول الديمقراطي ويشترط مساعدات التنمية باحترام نظام التعددية الحزبية، وفق الفكرة التي طرحها وزير خارجيته رولان دوما « لا تنمية بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون تنمية.
هذه الفكرة سخية على الورق لكنها ستقلب التوازن الإفريقي إذ ستشهد الانتخابات الرئاسية في تلك الفترة مواجهة بين المرشحين الذين يحشدون قواعدهم العرقية، وهو ما يمنح السلطة آلياً لأكبر المجموعات على حساب النخب التقليدية، التي تنتمي غالباً إلى الأقليات العرقية. ومن هنا تأتي الانقلابات الجديدة، والمجازر، وعدم احترام حقوق الإنسان و الدساتير. على الرغم من أن القوة الاستعمارية السابقة أرادت فك الارتباط، ويتعين عليها أن تتدخل بشكل متزايد لضمان بقاء الدول الهشة. وتزايد التدخلات العسكرية في تشاد منذ عام 1983، وكذلك في خليج غينيا ورواندا «1994». وبالتالي فإن الإحباطات لا يمكن أن تتراكم إلا عندما يُنظر إلى فرنسا باعتبارها ضامناً للنظام القائم والأنظمة الفاسدة.
ولا تزال عملية الفيروز، رواندا 1994، تمثل ندبة في الذاكرة العسكرية الفرنسية اليوم. لقد بدأت هذه الحرب بموجب تفويض من الأمم المتحدة بهدف وضع حد للإبادة الجماعية المستمرة، ثم تم تقديمها بعد وقوعها من قبل منتقدي فرنسا باعتبارها دعماً لنظام الإبادة الجماعية. وفي هذه المناسبة، اكتشفت فرنسا بشكل مؤلم حقيقة الحرب المعلوماتية، التي قوضت جزءاً من سلطتها وأضرت بصورتها، كما تفعل، اليوم في منطقة الساحل لتسريع رحيل الفرنسيين. وفيما يتعلق بفرنسا الإفريقية، فقد طغت قضية «إلف» وتصرفات الشركة في الجابون عبر عشيرة البونجو على سنوات ميتران. وقد أظهر التحقيق الموسع فساد النخب الأفريقية والفرنسية، من خلال نظام الفواتير المزورة، والعمولات، وسوء المعاملة و أصول الشركات، ووظائف وهمية للعشيقات. وأدى ذلك إلى إدانة كبار قادة شركة « الف» والمسؤولين التنفيذيين في الحزب الاشتراكي. وبعيدًا عن خدمة مصالح الأفارقة والقوة الفرنسية، أصبحت فرنسا أفريقيا آلة لرأسمالية المحسوبية والإثراء الشخصي للسياسيين الأفارقة والفرنسيين.
مراجعة التنمية
انطلاقًا من التقليد القديم للإرساليات التبشيرية، الذي انضمت إليه في نهاية القرن التاسع عشر فكرة الإرسالية الحضارية لفرنسا الجمهورية، كانت المساعدات التنموية منذ البداية المبرر الأساسي للوجود الفرنسي في أفريقيا. تعتبر وكالة التنمية الفرنسية التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1941، الهيئة العامة الرئيسية لتوجيه وتخصيص المساعدات. وفي عام 2022، خصصت الوكالة الفرنسية للتنمية 12.3 مليار يورو لتمويل مشاريع مختلفة، تم إنفاق 50% من هذا المبلغ في أفريقيا. و يأتي جزء كبير من أموالها من الإعانات التي تمنحها الدولة، وبالتالي من الضرائب.
وفي أفريقيا، إما أن تعمل الوكالة الفرنسية للتنمية بشكل مباشر، أو تقوم بتمويل المنظمات غير الحكومية والجمعيات التي تنفذ مشاريع تقع ضمن الإطار الذي تحدده وزارة الخارجية .
وتشارك السلطات المحلية والمجتمعات المحلية أيضًا في التعاون من خلال تمويل مشاريعها الخاصة. وقد زاد التعاون على مر السنين، إلى حد جعل هذه السلطات المحلية لاعبين رئيسيين في التعاون.
وأثارت هذه المساعدة العديد من المناقشات. من حيث شرعيتها أي تخصيص الضريبة الفرنسية ومن حيث فائدتها أي أهمية التنمية.
في وقت مبكر من عام 1964، شكك النائب الاشتراكي من منطقة كوريز جان مونتالا في المساعدات المقدمة للمستعمرات السابقة، معتقدًا أنه يجب إعطاء الأولوية للمقاطعات الفرنسية المحتاجة. لقد ألقى أمام الجمعية عبارة لقيت استحسانا كبيرا، «كوريز بدلا من زامبيزي»، والتي لا تزال تثير المناقشات الجارية. خاصة وأن الفلسفة الفرنسية هي فلسفة «المساعدة غير المقيدة»، أي أن الدول التي تتلقى مساعدات من فرنسا غير ملزمة باستخدام المبالغ المتلقاة لإبرام عقود مع الشركات الفرنسية، على عكس العديد من الدول التي تمارس «المساعدات المقيدة»، وهذا يعني أن الدولة المدعومة يجب أن تنفق المساعدة على عقود مع شركات في الدولة الممولة. وبالتالي فإن المساعدات الفرنسية تفيد جزئياً الشركات الصينية الموجودة في أفريقيا اليوم. عندما نشر رينيه دومون، في عام 1962، ملاحظته لفشل الاستقلال في أفريقيا السوداء، أراد كثيرون أن يروا فيها فقط تنبؤات عراف كاذبة. وسبق للكاتب أن حذر من تفشي الفساد وإهدار المواد الأولية التي لم تستخدم كرافعة للتنمية. والواقع أن المقارنة بآسيا لا تصب في صالح أفريقيا. فبينما كان الناتج المحلي الإجمالي لبلدان غرب أفريقيا في عام 1960 أعلى من العديد من البلدان الآسيوية ، فيتنام وكوريا وتايلاند، فقد تجاوزتها آسيا في الثمانينيات وهي الآن متخلفة كثيراً عن الركب. . بعد ستين عاما من الاستقلال أفقر 21 دولة على هذا الكوكب، 20 منها تقع في أفريقيا. في عام 1962، كان الدخل القومي الإجمالي للفرد في ساحل العاج أعلى من نظيره في كوريا الجنوبية 160 دولارًا مقابل 120 دولارًا. واليوم، أصبحت الفجوة بين البلدين بلا شك لصالح كوريا. الملاحظة نفسها بالنسبة لإندونيسيا: 70 دولارًا في عام 1969، و4580 دولارًا في عام 2022 كما هو الحال بالنسبة لفيتنام، فبعد عقود من الحرب، تمكنت من القضاء على الفقر المدقع 220 ، دولارًا للفرد في عام 1989، و4010 دولارات في عام 2022 .
من شيراك إلى
ماكرون، تضاعف التدخلات
وبعد فرانسوا ميتران، أعلن جميع الرؤساء الفرنسيين نهاية فرنسا الإفريقية مع الحفاظ على هياكل التعاون والمساعدات المالية ومع وضع الإطار القانوني للقادة الأفارقة والأهداف المراد تحقيقها. وفي عام 2000، تم التصديق على الأهداف الإنمائية للألفية، الحد من الفقر، والمساواة بين الجنسين، وما إلى ذلك من خلال الأمم المتحدة. إذا كانت الأهداف المراد تحقيقها تتوافق مع توقعات النخب الغربية، فإن الفلسفة التي قامت عليها كانت موضع تقدير مختلف في أفريقيا حيث يتم تجربة مسألة التعددية الجنسية بشكل مختلف عنها في أوروبا. ثم رأى الكثيرون أنه شكل من أشكال الاستعمار الفكري والفلسفي الذي تم استنكاره بشكل متزايد من قبل الأساقفة ورؤساء الدول.
وقد ساهم هذا الاختلاف في تقدير المواضيع الأنثروبولوجية والمجتمعية في توسيع الفجوة بين الأفارقة وفرنسا.
وفي الوقت نفسه، واصلت فرنسا التدخل في مناسبات متعددة كقوة لحفظ السلام وتحقيق الاستقرار. ومن بين التدخلات الرئيسية، ساحل العاج ، 2002-2015»، ليبيا «2011»، منطقة الساحل « 2013 -2022 «. التدخلات تتم دائمًا تحت رعاية الأمم المتحدة أو بناءً على طلب الدول الإفريقية، وتسعى باريس إلى عدم الانفتاح على محاكمة «الاستعمار الجديد».
لأن وراء العلاقة الفرنسية الإفريقية يكمن شيء غير مدروس، ألا وهو القوة الفرنسية. وراء إيثار التنمية والإنسانية، اعتبرت فرنسا، مهما كانت حكوماتها، دائمًا وجودها الأفريقي بمثابة تعبير ورافعة لقوتها. إن الحفاظ على الوجود الفرنسي في أفريقيا يعني الحفاظ على القوة الفرنسية في العالم. ومع ذلك، عن بالنسبة لإفريقيا، هي قطعة صغيرة منها هي التي تم تحديدها: بشكل أساسي غرب أفريقيا وخليج غينيا.
ولذلك فإن أفريقيا تبدو أشبه بمرآة عمياء ومضللة، منعتنا من التفكير في قوة فرنسا و حضورها العالمي. وبالتالي، لم يتم بذل أي جهد لمحاولة الحفاظ على الروابط مع بلدان الهند الصينية السابقة، حيث حتى اللغة الفرنسية عي الآن في طور التبخر.
فإذا كان الجنرال ديغول قد ألقى خطابه الشهير في بنوم بنه «1966» هناك، وإذا كانت باريس هي مكان التوقيع على المعاهدة التي أنهت حرب فيتنام فإنه على نحو مماثل، لم يتم التفكير قط في أقاليم ما وراء البحار الفرنسية، جزر الهند الغربية، وجزر المحيط الهندي، وبولينيزيا ـإلا في سياق المشاكل الاجتماعية والاستجابات المالية لها. ليس هناك إسقاط أو تصميم كبير: والدليل على ذلك الاهتمام المحدود للغاية الذي أثارته الاستفتاءات حول مسألة استقلال كاليدونيا الجديدة، في حين أنها تلزم فرنسا ، ومن خلال المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يبلغ طولها 200 ميل، مجالها البحري. لقد كانت أفريقيا تصميماً عظيماً، ولكنه تصميم دفع جانباً كل شيء آخر، مثل الجلوكوما الجيوسياسية التي ضيقت رؤية فرنسا للعالم. وفي أفريقيا نفسها، كانت الطموحات متواضعة، نسبة إلى اتساع القارة. ولم تكن فرنسا مهتمة قط ،باستثناء اتفاقية أمنية بسيطة مع جنوب أفريقيا ، بالجنوب الإفريقي على الرغم من قربها من ممتلكاتها في المحيط الهندي؛ ولا إلى أفريقيا النيلية، بينما كانت الهالة الفرنسية عظيمة في مصر؛ ولا حتى منطقة البحيرات الكبرى، باستثناء التدخل في رواندا. ومن الناحية العسكرية، لم يكن لدى فرنسا الوسائل اللازمة للتدخل في أماكن أخرى من القارة، لذلك فقدت الاهتمام. ولا يوجد أي تصميم كبير سواء في منطقة المغرب العربي، الممزقة بين الشعور بالذنب الاستعماري تجاه الجزائر التي تعيش على دخل تذكاري الدائم والافتقار إلى الرؤية العالمية مع المغرب وتونس، وهما مع ذلك الشريكان التجاريان الرئيسيان لفرنسا في أفريقيا. وهنا يكمن جوهر المشكلة، كما كان الحال بالفعل خلال الحقبة الاستعمارية. تم الترويج للاستعمار من قبل جول فيري باعتباره أم الصناعة والقوة الدافعة للرأسمالية الفرنسية، وهو في الواقع يكلف أكثر بكثير مما جلبه وبصرف النظر عن عدد قليل من القطاعات المحددة للغاية وعدد قليل من الشركات التي ركزت على التجارة مع المستعمرات، كانت التجربة الاستعمارية بمثابة فشل اقتصادي. وينطبق الشيء نفسه على فترة ما بعد الاستعمار. وربما أكد لوران جباجبو، رئيس ساحل العاج آنذاك، أن فرنسا لن تكون شيئًا بدون أفريقيا.
يزعم الشعبويون الأفارقة أن فرنسا تنهب أفريقيا ومواردها وثرواتها وأموالها، من خلال الفرنك الأفريقي، لكن الواقع مختلف تمامًا: بالنسبة للاقتصاد الفرنسي، لا تزن أفريقيا شيئًا تقريبًا - على الأكثر 3%عام 2022، عندما تمثل المعاملات مع المملكة المتحدة 6% من التجارة الفرنسية. وفي عام 2021، بلغت الصادرات إلى أفريقيا «المغرب العربي وأفريقيا السوداء 23.5 مليار يورو، في حين ارتفعت الصادرات إلى بلجيكا وحدها إلى 37.2 مليار يورو.
كان أحد الرموز الكبرى لعدم الاهتمام الاقتصادي في أفريقيا هو بيع فينسنت بولوريه لأنشطته في الميناء في ديسمبر 2022 لمجموعة Msc، مما وضع حدًا لعدة عقود من الوجود في القارة.
كما كان الحال في فترة الاستعمار وباستثناء عدد قليل من القطاعات والشركات المحلية للغاية، فإن أفريقيا لا تحظى باهتمام رواد الأعمال الفرنسيين. فهي محفوفة بالمخاطر ومعقدة للغاية و هنالك العديد من مشاكل الفساد والامتيازات وانعدام الأمن والعنف. بالنسبة لشركة توتال إنيرجي، تعد أفريقيا قارة غير مهمة، إذ اضطرت المجموعة أيضًا إلى سحب مهندسيها المتمركزين في موزمبيق بعد الهجوم الإرهابي عام 2021. وتمثل حقول غاز كاشاجان في بحر قزوين، قبالة سواحل كازاخستان، وفي شرق البحر الأبيض المتوسط أهمية أكبر وأقل خطورة. النيجر، التي كانت ذات يوم دولة مهمة لإمدادات اليورانيوم، تتفوق عليها الآن كازاخستان وأوزبكستان.
شرف العَلم
إنه الجيش الذي وجد رافعة لقوته في أفريقيا. ليس لأنه دَفع إلى الحرب أو التدخل، بل لأنه كان أداة السياسيين للحفاظ على الوجود الفرنسي. بفضل قواعده في المقام الأول، نقاط الدعم الأساسية: في جيبوتي، النيجر، تشاد، الجابون، ساحل العاج، إلخ.
وبفضل عدد قليل من الرجال الملتزمين وموارد عسكرية محدودة، تمكن الجيش من الحفاظ على بعض التوازنات الأساسية، لحماية الأنظمة الهشة، مع خطر الظهور كجيش يدعم الديكتاتوريات، لمحاربة الجراثيم المزعزعة للاستقرار. لقد فقد رجالًا هناك، واكتسب معرفة وأحلامًا ومجدًا لا جدال فيه. كانت مداخلاته عبارة عن مزيج من الواقعية الباردة، التي يُنظر إليها على أنها وسيلة للتعبير عن القوة الفرنسية، والمثالية، مع الاقتناع بأنه من الممكن تغيير طبيعة الأشياء ووضع حد لبعض الصراعات القديمة. لقد كان يُنظر إلى الجيش منذ عام 1991 على أنه قطاع لتعديل الميزانية، وهو أمر أسهل في التعامل معه لأن المؤسسة العسكرية كانت تتمتع بسلطة كبيرة. و هو على غير الحال اليوم، حيث يجب أن يعتمد على دعم الولايات المتحدة في تدخلاته، وخاصة في مجال الخدمات اللوجستية ونقل المعدات والقوات. وبالتالي، فهو قوة غير مكتملة، لأنه لا يمكن تحقيق أي تقدم أفريقي واسع النطاق دون هذه المساعدة الأمريكية.
من مرحلة الحديقة
الخلفية إلى التفكك
ويبقى أنه إذا كان الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا يتسم باستمرارية ملحوظة طوال الأعوام 1990- 2020، وإذا كان قد سمح لفرنسا لفترة طويلة بالحفاظ على وضعها الاحتكاري هناك، فإن فرنسا الآن تنافس في أراضيها الأفريقية. لقد تقدمت تركيا في منطقة المغرب العربي وشرق أفريقيا، وخاصة في الصومال وإثيوبيا، من بين دول أخرى، لإقامة مصانع النسيج في المنطقة التي كانت تابعة للدولة العثمانية سابقًا. ثم جاء دور الصين المنبعثة من جديد، والتي أرادت أن تثبت للعالم أن زمن صين العالم الثالثية قد انتهى. منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تكثفت الاستثمارات في القارة الإفريقية، وخاصة في مجال البناء.
وارتبطت الموانئ الإفريقية في المحيط الهندي بالصين، وافتتحت بكين قاعدة عسكرية في جيبوتي، والتي أصبحت بالتالي وكرًا حقيقيًا للجواسيس،و تقدمت الشركات الصينية في جميع أنحاء القارة. وفي نظر رؤساء الدول، كان وصول الصين بمثابة هبة من السماء: فقد كان يُنظَر إلى الشريك الذي يجلب الأموال والاستثمارات دون أن يطلب في مقابل الولاء للاقتراع العام والديمقراطية بطريقة إيجابية تماما. المكاسب المالية غير المتوقعة، بدون الخطاب الأخلاقي اجتذب العديد من الشخصيات الإفريقية المرموقة. وفي كتابه الصادر عام 2009، قدم دامبيسا مويو الصين باعتبارها أحد اللاعبين المستقبليين في التنمية الإفريقية. فهل ستحل الصين الإفريقية محل فرنسا الإفريقية؟ ليس هناك ما هو أقل يقينا، والموضة تمر. إن الحماس للصين بدأ يجف، بما في ذلك بين النخب الإفريقية. وحتى على الجانب الصيني، فإن الاندفاع نحو أفريقيا محدود للغاية بشكل عام، إذ لا تكاد حصة أفريقيا من التجارة الخارجية الصينية تصل إلى 3.3%، وتبلغ الاستثمارات الصينية في أفريقيا 3%، وهي نسبة منخفضة للغاية مقارنة بالاستثمارات في آسيا، القارة الرئيسية للاستثمار في بكين. إن ما تشتريه الصين من أفريقيا هو في الأساس النفط والحديد والمنجنيز، مع شركاء تجاريين محدودين. من المؤكد أن الصين حاضرة في أفريقيا، لكن القارة ليست من أولوياتها. لأنها ليست الولايات المتحدة أيضًا. ولا شك أن الأمر نفسه ينطبق على روسيا، التي تعتبر تدخلات مرتزقة مجموعة فاغنر في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وغينيا بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة. ولا يزال من السابق لأوانه معرفة ما سيصبح عليه هذا التنظيم بعد وفاة بريجوجين، والأغلب أن العقود الأفريقية ستستمر مع شخص آخر على رأس التنظيم. لكن إذا كانت روسيا حاضرة من خلال هذه الشركة العسكرية التي ليست خاصة تماما منذ ذلك الحين اعتمادًا على وزارة الدفاع، في أفريقيا لا يوجد سوى عدد قليل من الرجال المنخرطين. رجال يمكنهم العمل كحرس رئاسي، لكن ليس لديهم الوسائل البشرية ولا اللوجستية للحفاظ على البلاد. وحتى أقل من تلك المواجهة المباشرة مع الجيش الفرنسي. وقادت روسيا حملة إعلامية مكثفة ضد فرنسا، ونشرت أخبارا كاذبة على شبكات التواصل الاجتماعي، وشوهت المشهد بحضور اعتبره كثيرون مبالغا فيه.
من المؤكد أن اتهامه بالمسؤولية الوحيدة عن إخلاء الفرنسيين هو أمر مريح، ولكنه خطأ. إن انسحاب فرنسا هو مزيج من عدة عوامل ويتم إنجازه على مدى فترة طويلة. أدى تدهور الأمن في غرب أفريقيا في البداية إلى جعل من المستحيل على الفرنسيين الاستقرار هناك. خريطة وزارة الخارجية التي توضح المناطق التي «لا يوصى رسميًا» بالذهاب إليها، استمرت في التوسع وتحولت إلى اللون الأحمر على مر السنين. مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وشمال ساحل العاج، وجمهورية أفريقيا الوسطى: الأماكن التي كان بوسع الفرنسيين الذهاب إليها بسهولة وحرية قبل عشر سنوات فقط أصبحت الآن خطيرة للغاية. لذلك لا مزيد من التعاون الإنساني، وإرسال الأطباء والأطباء البيطريين والمعلمين وإمكانية القيام بالأعمال التجارية. فالجنود فقط هم الذين يمكنهم الذهاب إلى هناك، في إطار الاتفاقيات الدولية. ومع تزايد صعوبة الوصول إلى أفريقيا بالنسبة للفرنسيين، فمن المنطقي أن يتقلص الوجود الفرنسي هناك. دعونا نضيف إلى ذلك أن الحكومات والسكان المحليين أصبحوا أقل دعمًا لوجود الجنود الأجانب، حيث يُنظر إليهم على أنه هجوم على سيادتهم وأن البرامج الأيديولوجية التي تفرضها بعض المنظمات غير الحكومية لا تستجيب لرؤية الإنسان التي يحملها الأفارقة. . وظلت منطقة غرب أفريقيا فقيرة، ومع تزايد الفقر، أصبح بوسع غرب أفريقيا أن تتهم فرنسا بهذه المسؤولية بسهولة أكبر من إلقاء اللوم على النخب المفترسة والعاجزة. يضاف إلى ذلك، في فرنسا، في الجامعات ومراكز الأبحاث المرتبطة بالوزارات، فقدان المعرفة الإفريقية. تم اختزالها في دراسات النوع الاجتماعي، وأفسدتها» الووكيية»،والدليل على ذلك هو عدم الفهم الذي يواجه عودة الشعوذة والروحانية، التي تستوعب المسيحية، وصعود السلطة - بما في ذلك في فرنسا - للأنظمة الإجرامية في نيجيريا، والتركيز على الإرهاب ، وهو تعبير يخفي حقيقة الاشتباكات التي تحدث الآن .
إن فرنسا تفقد مكانتها لأن غرب أفريقيا ينهار ويظل السياسيون الفرنسيون عالقين في برمجيات عقلية غير مناسبة وغير فعالة، وصناع القرار الفرنسيون لا يقدرون هذا التحول.