قطع مع الرؤية الأصلية للساندينية:

نيكاراغوا: عندما يغيّر «الثائر» دانيال أورتيغا جلده...!

نيكاراغوا: عندما يغيّر «الثائر» دانيال أورتيغا جلده...!

   تمت إعادة انتخاب رئيس نيكاراغوا لولاية رابعة على التوالي أمس الأحد فيما يعتبره الملاحظون مهزلة انتخابية. بورتريه لرجل مستعد لفعل أي شيء للاحتفاظ بالسلطة.
   مساء أمس الأحد 7 نوفمبر، كانت شوارع ماناغوا هادئة بشكل خاص. وحدهم رجال الشرطة المدججون بالسلاح والميليشيات سيجوبون المدينة بأعداد كبيرة، إضافة إلى عدد قليل من أنصار الحزب الحاكم.
قد تجدد نيكاراغوا برلمانها وتنتخب رئيسها، لكن من الصعب تخيّل مشاهد ضخمة من الابتهاج عندما تظهر النتائج الأولى، لأن نتيجة الاقتراع معروفة مسبقًا: سيتم إعادة انتخاب دانييل أورتيغا لولاية رابعة على التوالي.
    من المستحيل أن يكون الأمر خلاف ذلك حين يكون كل المعارضين وراء القضبان أو في المنفى. في الأشهر الأخيرة، ألقى القُبض على سبعة مرشحين للرئاسة، وأُرسلوا إلى السجن أو الإقامة الجبرية. ويبدو ان أكثر من مائة معارض يقبعون في سجون السلطة في ظروف قاسية.
    لم يتم اختيار سوى عدد قليل من الأحزاب، جميعها قريبة من عشيرة أورتيغا، لخوض السباق والمنافسة. جميع مرشحيهم -غير معروفين لعامة الناس حتى لا يغطوا على الرئيس المنتهية ولايته -مُكلفون فقط بتمثيل دور في مسرحية معروف نتيجتها مسبقًا، وليس مهمّا إذا كان 78 بالمائة من السكان، وفقًا لاستطلاع حديث، لا يعترفون بشرعية هذه الانتخابات. أما بالنسبة للمراقبين الدوليين أو الصحفيين الأجانب، فلا داعي للبحث عنهم: فقد مُنعوا بكل بساطة من دخول البلاد.

رجل العناية الإلهية
   قبل بضعة عقود، حارب دانيال أورتيغا كل ما يعيد إنتاجه بدقّة اليوم. في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حارب مع الجبهة الساندينية للتحرير الوطني من أجل إسقاط سوموزا، وهي عائلة احتكرت السلطة دون تقاسمها منذ الثلاثينات. في يوليو 1979، بعد سنوات من القتال، استولى الثوار على ماناغوا وأسقطوا الديكتاتورية بدعم من الشعب وجزء من أرباب العمل. ومثلت الثورة في ذلك الوقت موجة أمل في أمريكا اللاتينية التي كانت لا تزال تحت سيطرة العديد من الأنظمة السلطوية.
    شارك أورتيغا حينها في الحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها، إلى جانب مناهضين للسوموزيين. سرعان ما احتل المقاتلون الساندينيستا موقعا مهمًا للغاية، وعندما جرت الانتخابات الأولى عام 1984، تم انتخاب دانييل أورتيغا رئيسًا.
   «في تلك المرحلة، بدا وكأنه القائد الوحيد الذي يمكنه تولي السلطة، توضّح مايا كولومبون، مديرة مركز الدراسات المكسيكية وأمريكا الوسطى في مكسيكو سيتي، والمتخصصة في نيكاراغوا، ففي ذلك الوقت كان قادرًا على إظهار نفسه على أنه رجل العناية الإلهية.
   ويقول العديد من المقرّبين منه السابقين، إنه كان يتمتع بأسلوب سلطوي في الحكم، وأنه لا يحب من يخالفه. لكن الفرق الكبير بين الأمس واليوم، هو أنه لم يكن يملك سلطة مطلقة، وأن العديد من الضوابط والتوازنات كانت موجودة داخل الجبهة الساندينية للتحرير الوطني».
   تحت قيادة الساندينيين، ظهرت العديد من السياسات الاجتماعية، وتحسنت الظروف المعيشية للنيكاراغويين. تم وضع تدابير محو الأمية على نطاق واسع، وتعزّز الوصول إلى الرعاية الصحية، والغيت عقوبة الإعدام، والمعارضة السياسية مقبولة، والصحافة تكتسب حريتها. ولكن في نفس الوقت، تم إطلاق ثورة مضادة في البلاد، بدعم من الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية التي لم تهضم الساندينية، وغرقت البلاد في حرب أهلية أدّت بحياة ما لا يقل عن 30 ألف قتيل. كانت الحكومة مجبرة على تنفيذ إجراءات غير شعبية، مثل إعادة الخدمة العسكرية، وتضاعف نقص المواد الاساسية، وحطم التضخم أرقاما قياسية، وعام 1990 هُزم أورتيغا أخيرًا في صناديق الاقتراع.

بترو دولار لشراء الأصوات
    في ما تلى من سنوات، سينجح الثوري ذو الشوارب في التخلص تدريجيًا من كل شخصيات الجبهة الساندينية للتحرير الوطني التي تحجبه. تعبوا من الخط الذي فرضه دانيال أورتيغا على الحزب، تركه رفاقه السابقون لإنشاء فرع جديد من الساندينية، الى درجة أنه عندما استعاد السلطة عام 2007، لم يعد هناك أي صوت من الأصوات المعارضة داخل الجبهة الساندينية للتحرير الوطني.
   «من هنا، سيضمن دانيال أورتيغا أن جميع المنتمين لمشروع الساندينيستا، وليس القادة فقط، على خطه ونهجه. وقد ترسّخ هذا من خلال عديد المساعدات الاجتماعية المستهدفة، التي يوزعها نظام يقوم على الزبونية، ويتم تمويلها بوسائل هائلة بفضل أموال النفط التي يملكها الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز”، تحلّل مايا كولومبون. وبشكل ملموس، فإن الساندينيين يسقون كل من هم قريبون منهم أو موالون لهم، وفق معايير حزبية.
   رئيس نيكاراغوا وروزاريو موريللو، زوجته المؤثرة للغاية ونائب الرئيس منذ عام 2016، يقدمان بالتوازي عملاً بهلوانيا يتمثّل في البقاء قريبين من الأنظمة اليسارية في أمريكا اللاتينية، مع اتباع سياسة ليبرالية للغاية، بعيدًا عن الرؤية الأصلية للساندينية. والرمز الأكثر جنونًا لهذا الانفتاح على المستثمرين الدوليين: مشروع إنشاء قناة بطول 280 كم بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ بتمويل من ملياردير صيني من خلال نيكاراغوا... تعثّر المشروع في الأخير، ويبدو انه لم يعد في البرنامج اليوم.

«نحن بعيدون عن
 رومانسية الثورة»
   ولاية بعد اخرى، وانتخاب بعد انتخاب، عمل دانيال أورتيغا على تلغيم البلاد بشكل خاص من الداخل ليضمن له ولعشيرته بقاءً شبه دائم في السلطة. فبالإضافة إلى وضع بعض أقاربه على رأس جميع المؤسسات، وتبجيل الشرطة والجيش، أعاد صياغة الدستور في عدة مناسبات، أبرزها إزالة الحد الأقصى على فترات تولي المنصب المتتالية. “نحن بعيدون جدا عن رومانسية الثورة، كل الذين شاركوا فيها هم الآن في المعارضة ولديهم انطباع بأن معركتهم قد سُرقت منهم”، يلاحظ دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي. وهذا لا يمنع أورتيغا من ان يوزّع الخطاب الثوري في كل مرة يتحدث فيها.
   عام 2018، وبينما البلد هادئًا رغم الانتهاكات المتكررة للسلطة، جاء إصلاح الضمان الاجتماعي المطلوب من قبل عشيرة أورتيغا ليشعل الفتيل. النيكاراغويون من جميع الافاق، والطلاب في الصدارة، خرجوا إلى الشوارع بأعداد كبيرة اعتبارًا من أبريل. رصاص الشرطة والميليشيات القريبة من السلطة تمطر في تصعيد مرعب للعنف. في المجموع، قُتل ما لا يقل عن 328 متظاهرًا بالرصاص، وجُرح عدة آلاف، وفر ما لا يقل عن 100 ألف شخص من هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 6.5 مليون نسمة.
   «لقد كانت مذبحة، يتذكر شاب من نيكاراغوا كان موجودًا في المواكب في ذلك الوقت، اشترط عدم الكشف عن هويته، لم نكن مسلحين، ولم نتمكن من الدفاع عن أنفسنا، لم يكن بإمكاننا أبدًا أن نتخيل شيئًا عنيفًا بهذا الشكل في بلدنا «.
   ومنذئذ، وأكثر من أي وقت مضى، يبذل أورتيغا وأقاربه قصارى جهدهم للبقاء في السلطة. حتى لو كان ذلك يعني تنظيم انتخابات شكلية تحمل الاسم فقط، في سيناريو لا يزال بإمكانهم هم فقط تصديقه. “نحن نتعامل مع نظام يسعى إلى البقاء من خلال الارتكاز على انتصارات ثورية ماضية لم تعد موجودة اليوم، يقول باولو أبراو، الأمين العام للجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان بين 2016 و2020، إن أورتيغا يعيد إنتاج كل ما كان قد حاربه ذات يوم من اجل البقاء في السلطة، القمع والاضطهاد وتقليص الحريات وغياب الانتخابات الحرة».