صناعة روت طيلة أربعين عاما قصة الأزمة

هذا ما يقوله سجّاد الحرب عن التاريخ الأفغاني...!

هذا ما يقوله سجّاد الحرب عن التاريخ الأفغاني...!

    دبابات وقنابل يدوية وصواريخ وطائرات دون طيار: في أفغانســـتان، ظلت صناعة “بساط الحرب”، المهددة اليوم، تنســـج منذ أربعــــين عامًا قصة الأزمـــة برســـائل مربكة في بعض الأحيان.
   يبدو من مسافة بعيدة وكأنه سجاد فارسي كلاسيكي.
لكن عند الاقتراب، يكشف عن زخارفه المدهشة: تم استبدال الزهور والحيوانات بطائرات مقاتلة أو دبابات، وشرائط البنادق تزين حواشيه. كانت الإيقونوغرافيا الخاصة بسجاد الصراع الأفغاني قد ظهرت مع وصول السوفيات عام 1979. ويعود تقليد النسيج الفارسي إلى فترة أطول: طور الشرق الأوسط وآسيا الوسطى هذا الفن على مدى الألفي سنة الماضية ويواصل: أفغانستان اليوم هي أكبر منتج للسجاد اليدوي في العالم.
   انحسرت موضته لفترة زمنية، ثم عادت هذه الخبرة الى آسيا الوسطى في خمسينات وستينات من القرن الماضي، حيث تم تصديره إلى الغرب، الذي استعاد ولعه به مجددا. لقد كان التركمان هم من جلبوا معهم مهارتهم الفريدة إلى أفغانستان المجاورة..
وأقاموا في شمال البلاد حيث أنتجوا سجاد خال محمدي، يمكن التعرّف عليه من خلال اختلاف درجات اللونين الأحمر والبني، والمصنوع من الصوف وشعر الماعز، ويوجد بشكل رئيسي في هرات وقندهار وكابول، حيث يبيعه العديد من التجار.
لكن، منذ انسحاب القوات الأمريكية، لم يعد بساط الحرب يجد من يشتريه. تشيكن ستريت، وهو شارع تسوق شهير في كابوليوت، مليء بأكشاك الحرف اليدوية المحلية الصغيرة، هجره روّاده. وسبق ان عبّر أحد تجاره عن مخاوفه عند الإعلان عن تخفيض كبير في القوات الأمريكية عام 2015، إلى الواشنطن بوست: “عندما يرحل الأمريكيون، لا أعرف ماذا سيحدث، ربما سيأتي تنظيم داعش، وسأضطر إلى نسج علمهم الأسود والأزياء الداكنة في سجادي «.

البزنس المربح
 «للفن الفقير»
   اكتشف الفنان الإيطالي أليغيرو بويتي، أحد نجوم حركة آرته بوفيرا “الفن الفقير”، أفغانستان في أوائل السبعينات، وكان قد هرب حينها من أجواء سنوات الرصاص التي دخلت فيها بلاده. وكانت كابول هي نقطة توقف للهيبيز في طريقهم إلى الهند. قرر فتح فندق، وهناك بدأ في صنع سلسلة مابا الشهيرة، السجاد المطرّز بالخرائط الجغرافية الذي يمكن أن يتجاوز الآن سقف 4 ملايين دولار في المزاد.
   صُنعت خرائط بويتي (السلسلة تمتد على عشرين عامًا) بأسلوب مابا موندي في العصور الوسطى، وهي تعرض ملامح البلدان مسطحة، وتحمل كل منها ألوان علمها. وغالبًا ما يمرر بويتي تعليقا سياسيا. فعندما كانت شبه جزيرة سيناء تحت الاحتلال الإسرائيلي احتفظ بألوان مصر، وعندما تفككت الكتلة اليوغوسلافية، ظهر العلم الروسي. ان المابا تحكي التطور الجيوسياسي للعالم، نسجته النساء الأفغانيات المعزولات عنه.
   أُغلق الفندق عام 1978 عندما أطاح الماركسيون بالحكومة. في العام التالي، غزت القوات السوفياتية البلاد. وأحد مفروشات بويتي في تلك الفترة، حمل عنوان التدفق السوفياتي مع الخشخاش، يصور فرار الأفغان إلى باكستان، ويصور دبابات الغزاة.
   غالبية الحرفيين (ما يصل إلى 500 امرأة عملن في أعمال بويتي) الذين عهد إليهم بإنجاز أعماله، وكان المقر الأول في كابول، سيلجؤون بعد ذلك إلى بيشاور، ليس بعيدًا عن الحدود الأفغانية.

حكايات وأساطير
 «بساط الحرب»
   سينشر صانعو المعارض الفنية والقيمون على المتاحف وهواة الجمع، قصة أن أعمال الفنان الإيطالي هي التي ألهمت الآلاف من الأفغان وأنجبت بساط الحرب. بويتي نفسه هو مصدر هذه النسخة من الوقائع -وسيسعده تعديلها خلال المقابلات... إنها أسطورة ترضي نرجسية كل الأبطال: سمعة الفنان (رحل عام 1994) واستفاد منها ثمن بساط الحرب.    تبدو الحقيقة مختلفة نسبيا: بالنسبة لمؤرخ الفن نايجل ليندون، فإن خريطة العالم التي ظهرت على السجاد الأفغاني في الثمانينات، هي في الواقع نسخة طبق الاصل من تلك المعلقة على جدران الفصول الدراسية المحلية.

إيقونوغرافيا
محاربة والشريعة
   تدريجيًا، ادخلت سلسلة الرسوم التي تحد السجاد، الدبابات والأسلحة والمظلات والطائرات والصواريخ -إيقونوغرافيا الصراع المسلح، والمفردات الفنية للحياة اليومية للأفغان. شيئًا فشيئًا، تتفوق الرموز على الهوامش، وتتوسع وتتعايش مع خريطة أفغانستان، أو تصبح الموضوع الرئيسي. بعد عشر سنوات من الاحتلال السوفياتي، يروي بساط الحرب، الحرب الأهلية... ثم أصبحت الموضوعات أكثر تقييدًا ...
    في أواخر التسعينات، تحت سيطرة طالبان، تم حظر تصوير الكائنات الحية، وخاصة النساء. في الواقع، جميع أشكال الفن محظورة: أصبح بساط الحرب تقريبًا الوسيلة الوحيدة للتعبير الفني للأفغان، الذين أصبح بالنسبة لهم تطريز رسوم القنابل والانفجارات أقل خطورة من نسج الزهور أو الحيوانات. النساء، الأميات، ومن خلال تطبيق في غاية الصرامة للشريعة وفرض البرقع منهجيا، سحبت منهن الحرية الاجتماعية والاقتصادية الضئيلة التي كن يتمتعن بها. وسيتم نسج السجاد بشكل أساسي من قبل الرجال والأطفال.

عندما يصنع
الطلب العرض
   قد يستغرق صنع السجاد الواحد تسعة أشهر. ومع ارتفاع سعره، يعدّ منتجًا فاخرًا مُعدًا للتصدير، بدلاً من توجيهه إلى السوق المحلية. لقد كان الجنود السوفيات أولًا، والسائحون المارون، ثم الأمريكيون، هم من يشترونه. وسيؤدي الطلب المتزايد في النهاية إلى تغذية العرض: فالوسطاء، الذين تجتذبهم السوق المتخصصة الواعدة، ينقضّون على الفرصة ويبدؤون في تزويد الحرفيين بالموضوعات، مع علب كرتونية للدعم.    يسعد النساجون، ومعظمهم من الأميين ولا يستطيعون الوصول إلى المعلومات، بإمكانية تطوير إنتاجهم. عادت النساء للنسج مجددا مع وصول الأمريكيين عام 2001، وكانوا مصدر إلهام آخر: وثائق دعايتهم، التي تم إسقاطها بالطائرة فوق البلاد، انتشرت وصولا الى المقاطعات النائية. وسرعان ما تم تجسيم البرجين التوأمين المحترقين. وسيتم تقديم السجاد الأكثر قيمة في قاعات المعارض الفنية في نيويورك، والأبسط منها تباع على إتسي أو موقع ئي باي. ولهذه النوعية حجم أصغر، مشابه لسجاد الصلاة، صنعتها متواضعة وعلى عجل بعض الشيء -لكن جاذبية الرسوم والشخصيات تغري الجمهور.

ثلاثة أبراج توأم
   في أوائل عام 2010، انتشرت شعبية بساط الحرب (تناقلته وسائل الإعلام أو المتاحف). وكان لا بد من زيادة الانتاج دائمًا؛ وفي حال عدم وجود نماذج كرتونية، تقلد ورش العمل جيرانها ومنافسيها. كل موضوع له مائة إِبْدال، مضحك في بعض الأحيان. أصبح البرجان التوأمان ثلاثة! هنا مروحية تم استبدالها بدبابة، وهناك تظهر رسالة غالبًا ما يتم كتابتها بشكل خاطئ، وحتى نسجها بالمقلوب، كدليل على جهل أو عدم فهم الوضع من قبل الحرفيين الأفغان.
    شهد سوق السجاد القديم والنادر ارتفاعًا. وسجل السجاد القديم الكاذب ظهوره. وليس من السهل التفطن اليه لأنه ليس مؤرخا أو موقّعا. على سجاد ما، فإن وجود خريطة جغرافية تفرض التعايش بين زائير (1971-1997) والجمهورية السوفياتية الاشتراكية الروسية (المنحلة عام 1991) يجعل من الممكن تحديد تاريخ تقريبي لإنجازه. وتُستخدم الزخارف أحيانًا لقيمتها الجمالية البحتة، مثل تمرير طائرة بدون طيار في سجاد يستحضر فترة الاحتلال السوفياتي، أو الصواريخ المرسومة مثل الزهور الملونة.

امرأة الصاروخ
   إن الرسائل، المكتوبة أو المقترحة من خلال الإيقونوغرافيا، مشفرة. لا يتحدث الحرفيون عن حياتهم اليومية وعن عقود الحرب والصدمات العديدة: إنهم يحاولون إغواء الزبون، ويمدون المرآة للأبطال الأمريكيين. السجاد “11/9” موضوع بجانب العلمين الأمريكي والأفغاني مع حمامة بيضاء (تكون أحيانًا زرقاء وخضراء)، وتتضمن إشارة إلى الانتصار الأمريكي في معركة تورا بورا (قاعدة عسكرية مولتها وكالة المخابرات المركزية للمجاهدين الأفغان خلال الغزو السوفياتي، حيث لجأ بن لادن) في ديسمبر 2001، أو حتى نصب 11 سبتمبر الذي تم افتتاحه في نيويورك عام 2011.
   لا، هذه ليست قصتهم... لكن هناك فعلا رسائل خفية ومؤثرة في بعض التفاصيل التي تبدو بريئة، مثل تلك الصواريخ الحمراء الغريبة المزينة بمربعات خضراء صغيرة، والتي تخفي في الواقع شخصيات نسائية في الشادري (ملابس تقليدية، قريبة من البرقع). المرأة التي نسجت السجاد، متمردة، سرّبت توقيعها على شكل صورة ذاتية. وهي معرضة اليوم لخطر الإعدام.
   لقد كان تصدير السجاد اليدوي رابع أهم مصدر دخل للأفغان قبل بضع سنوات. فهل تستطيع هذه الصناعة الفنية العلمانية أن تنجو من نظام طالبان؟ وهل يصبح بساط الحرب أداة لدعاية طالبان كما كان يخشى تاجر تشيكن ستريت؟