بعد انتخابات 2022:

هل أصبحت فرنسا دولة من دول أوروبا الشرقية...؟

 هل أصبحت فرنسا دولة من دول أوروبا الشرقية...؟

- المحللون السياسيون الذين يسعون إلى فهم فرنسا عليهم الأخذ في الاعتبار الدروس التي يقدمها تطور أوروبا الشرقية
- هذا الاختفاء للقوى التقليدية الفرنسية يتبع نمط دول أوروبا الشرقية، مثل المجر وبولندا وجمهورية التشيك
- مستقبل الجمعية الوطنية الفرنسية قد لا يكون على ضفاف نهر السين، وإنما على ضفاف نهر الدانوب
- يعدّ غياب الأغلبية المطلقة أمرًا جديدًا في فرنسا، في حين أنه سمة عادية للحياة السياسية في أوروبا الشرقية


   أنتجت الانتخابات التشريعية الفرنسية لعام 2022 جمعية وطنية بدون أغلبية مطلقة بينما كانت التحالفات العريضة، على اليسار وعلى اليمين الراديكالي، هي الفائز الرئيسي.   في مواجهة صعود هذه الأطراف السياسية وتشرذم المجلس، انتقد البعض فرنسا ووصفها بأنها غير قابلة للحكم. وما فشل هؤلاء المعلقون في ملاحظته هو أن فرنسا، وفقًا لملاحظاتنا، بدأت تبدو كدولة طبق الأصل من أوروبا الشرقية.   أكدت الانتخابات الرئاسية التراجع المستمر للأحزاب التقليدية الراسخة. تدحرج الحزب الاشتراكي والحزب الجمهوري -الحزبان اللذان هيمنا على الحياة السياسية طيلة الجمهورية الخامسة -إلى مكانة هامشية. انهار الحزب الاشتراكي. بعد نتيجة كارثية بلغت 1 فاصل 74 بالمائة للمرشحة الاشتراكية للرئاسية، وانضم إلى صفوف حزب الخضر واليسار الراديكالي في الانتخابات التشريعية.

ولئن احتل هذا التحالف اليساري العريض المرتبة الثانية وساعد في هزم الأغلبية البرلمانية للرئيس ماكرون، فان الحزب الاشتراكي اكتفى بالفوز بـ 28 نائباً فقط -أو 4 فاصل 6 بالمائة من 577 مقعداً. الجمهوريون، التجسيد الحالي ليمين الوسط الديغولي، عرفوا تقلصا انتخابيًا أقل حدة ولكنه مع ذلك هامًا، حيث تراجعوا من 100 إلى 61 مقعدًا، ومن المركز الثاني إلى المركز الرابع.

انحدار حزبي مشابه لدول أوروبا الشرقية
   هذا الاختفاء للقوى التقليدية يتبع نمط دول أوروبا الشرقية، مثل المجر وبولندا وجمهورية التشيك، حيث تميل حتى الأحزاب السياسية التاريخية والاجتماعية، مثل الديمقراطيين الاشتراكيين، إلى الاستسلام للوافدين الجدد. فقد خسر الاشتراكيون الديمقراطيون التشيكيون، على سبيل المثال، تمثيلهم البرلماني العام الماضي.
   في الحالة الفرنسية، القوة المدمرة ليست اليسار الراديكالي ولا اليمين الراديكالي، وانما الرئيس المنتخب عام 2017 -رجل أسّس حزبه قبل بضعة أشهر -اكتسب موطئ قدم في النظام الجمهوري والإدارة السابقة.

   مثل رجل أعمال سياسي (بمعنى مؤسس قوة سياسية جديدة) من أوروبا الشرقية بحثًا عن السلطة، قام إيمانويل ماكرون أولاً بنسف، ثم في النهاية، اغراق اليسار الاشتراكي بحملته الوسطية ولكن “المناهضة للنظام” عام 2017. خلال الفترة الرئاسية الأولى، أكد إيمانويل ماكرون انعطافه لصالح اليمين الاقتصادي، مما أدى إلى نزع أحشاء الجمهوريين ببطء، ودفعهم إلى التراجع نحو مزيد من المحافظة.

  أخيرًا، قام الرئيس ماكرون بتأجيج المنافسة السياسية حول القضايا الثقافية من خلال الترويج لليبرالية المؤيدة لأوروبا، بينما سمح لوزرائه بإثارة التوترات الثقافية من خلال شجب “الإسلامو-يسارية” (دعم غير مقبول للخصوصية العرقية) بين اليسار والشباب والأكاديميين. هذه الاستراتيجية ضيّقت المنافسة السياسية على المعارضة الثنائية بين ماكرون واليمين الراديكالي بزعامة مارين لوبان، والذي كان الرئيس المنتهية ولايته يدرك أن باستطاعته أن يفوز به.

   وجه فوزه في 2022 ضربة للاشتراكيين وترك الجمهوريين في حالة سيئة. وفي النهاية، فتح هذا الباب أمام استقطاب ثقافي عميق بين الطبقات الريفية والطبقات المتوسطة والدنيا والاوساط الحضرية المتعلمة. وهذا يذكّر بالانقسامات الثقافية العميقة في بلدان مثل بولندا أو المجر، حيث تنقسم نفس الأنواع من المواطنين بسبب قوميتهم ومحافظتهم الثقافية.

أحزاب سياسية اسمية بحتة
   ثانيًا، مع انهيار الاشتراكيين والانحدار المتوقع للجمهوريين، تجد فرنسا، مثل أوروبا الشرقية، نفسها مع أحزاب سياسية اسمية بحتة. “الجمهورية الى الامام” لإيمانويل ماكرون، و “التجمع الوطني” لمارين لوبان، و “فرنسا المتمردة” بقيادة جان لوك ميلينشون -القوى الثلاث الرئيسية في الجمعية الجديدة -هي برامج انتخابية شخصية مصمّمة لدعم قادتها.
   الاسم الأصلي لحزب إيمانويل ماكرون “الى الامام”، الذي يقلد الأحرف الأولى من اسمه، يذكرنا بشكل مؤلم بالأحزاب السلوفينية التي سميت صراحة باسم قادتها، مثل حزب ميرو سيرار رئيس وزراء سلوفينيا بين 2014 و2018.

   من الصعب تخيل ان الحزب سيبقى بعد مؤسسه بمجرد انتهاء فترته الرئاسية الثانية. ومن المفارقات، أن أكثر الأحزاب المهيمنة رسوخًا هو التجمع الوطني، الذي يعود تاريخه إلى عام 1972. وبالطبع، فإن التجمع هو شركة عائلية تنتقل من الأب إلى الابنة، وهي سمة مميزة أخرى لأوروبا الشرقية. لنستحضر، على سبيل المثال، الثنائي كالاس وكالاس في إستونيا، ولاندسبيرجيس ولاندسبيرجيس في ليتوانيا، أو المحاولات الفاشلة للرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس لتأسيس حزب يميني راديكالي لابنه.

   مع هذه الأحزاب الثلاثة المهيمنة، فإن الصراع السياسي في الجمعية الوطنية الجديدة يشبه الصراع في بولندا -فجوة ثلاثية بين ليبراليي يمين الوسط (ماكرون -المنصة المدنية)، واليسار (ميلينشون -لويكا، إلخ) واليمين الراديكالي (لوبان -القانون والعدالة وكوروين الخ...)
  هذه المنافسة غير مستقرة إلى حد كبير لأن النزعة القومية المحافظة لليمين الراديكالي لا تزال معوقة للآخرين، في حين أن اليسار ويمين الوسط منقسمان بشدة حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية. ويمكن أن يؤدي هذا إما إلى عدم الاستقرار أو إلى الهيمنة النهائية لواحد من الثلاثة -في بولندا، هذه هي حال اليمين الراديكالي.

تجزئة على اليسار
   أخيرًا، كما هو الحال في بولندا أو المجر، فإن اليسار الفرنسي مجزأ. بعد فترة وجيزة من ظهور نتائج الانتخابات، اتضح أن تحالف اليسار، رغم نجاحه الانتخابي، سيظل تحالفًا انتخابيًا. تم رفض المجموعة البرلمانية الواحدة التي اقترحها جان لوك ميلينشون على الفور من قبل الاشتراكيين والخضر والشيوعيين.
   وعلى الرغم من تمثيله بـ 131 نائبًا، فقد انقسم التحالف إلى أربع كتل، سيكون أكبرها – حركة فرنسا المتمردة لجان لوك ميلينشون -84 مقعدًا، وستكون القوة الثالثة في المجلس. مع الاتفاق على عدد من السياسات الاجتماعية، من المرجح أن تختلف الأحزاب الأربعة حول عدد كبير من القضايا المهمة التي تمتد من التعامل مع اليورو إلى الرد على حرب روسيا في أوكرانيا.

   علاوة على ذلك، يخوض اليسار صراعًا عميقًا مع التجمع الوطني حول تمثيل الشرائح الاجتماعية الأضعف. مع معدلات مشاركة انتخابية بلغت 47 فاصل 5 و46 فاصل 2 بالمائة على التوالي في الجولتين الأولى والثانية، تظهر فرنسا مستويات من الامتناع عن التصويت أعلى بكثير مقارنة بالانتخابات التشريعية التشيكية أو المجرية، التي تتراوح بين 67 و69 بالمائة نسبة مشاركة. وحتى السباق الرئاسي الفرنسي، بنسبة مشاركة 72 بالمائة و73 بالمائة، يقترب.
   وأظهرت دراسة لمركز سيفيبوف بعد الانتخابات الرئاسية، أن التشكيلات المختلفة لليمين الراديكالي، ولا سيما التجمع الوطني، هي التي تتلقى أعلى نسبة دعم من “الطبقات الشعبية”. وتميل الطبقات “الوسطى” إلى الهيمنة بين الناخبين اليساريين. وتلقى جان لوك ميلينشون دعمًا متساويًا تقريبًا من قبل الطبقات “الشعبية” و”الوسطى”، وبالتالي فإن قدرة اليسار على أن يحل محل اليمين الراديكالي في الطبقات الاجتماعية الدنيا ضعيفة.

النظر إلى الشرق
  يعدّ غياب الأغلبية المطلقة أمرًا جديدًا في فرنسا، أو على الأقل غير عادي، في حين أنه سمة عادية للحياة السياسية في أوروبا الشرقية.
  إن التزام ماكرون بالتفاوض مع المعارضين من اليمين واليسار قد يضخ سياسات الأغلبية الفرنسية بجرعة صحية من الحوار والتسويات والحلول الوسط. ومع ذلك، بنظام سياسي اقتلعت جذوره، ومنافسة سياسية يمزقها الانقسام الثقافي العميق والمتأجج استراتيجيًا، وتهيمن عليه الأحزاب الشخصية التي من غير المرجح أن تعمّر بعد مؤسسيها (أو أحفادهم)، فان مستقبل الجمعية الوطنية الفرنسية قد لا يكون على ضفاف نهر السين، ولكن على ضفاف نهر الدانوب. إن المحللين السياسيين الذين يسعون إلى فهم فرنسا مطالبون بالأخذ في الاعتبار الدروس التي يقدمها تطور أوروبا الشرقية.

*أستاذ مشارك، مركز الدراسات الأوروبية والسياسية، معهد العلوم السياسية بباريس