من أفغانستان إلى أوكرانيا:

هل هي ولادة جديدة لحلف شمال الأطلسي...؟

هل هي ولادة جديدة لحلف شمال الأطلسي...؟

- يشك بعض المتخصصين في قدرة الناتو الحقيقية على الرد كما يزعم رسميًا
- نشهد تحديثًا لمنطق العداوات حيث تختلط المنافسات القديمة بين الدول والمزيد من التصورات المتغيرة للمخاطر
- ستصبح الجغرافيا السياسية العسكرية لحلف الناتو، أكثر وضوحًا مع عودة العدو القديم وخطط الردع المصاحبة له
- بناء خطاب مشترك ومتماسك في إطار سياسة الردع ضد روسيا لا يزال يمثل تحديًا لحلف الناتو، بسبب الاختلاف في تصور هذا التهديد
- أعاد الغزو الروسي تنشيط الحلف بشكل واضح


   «تجدّد”، “استعاد حيويته”، “بعث”: لا تنقص النعوت لتوصيف عودة الناتو إلى الواجهة منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير 2022.
   تستمد فكرة إعادة احياء الناتو مصداقيتها من ملاحظة بسيطة. بعد عقدين من التّيه في المستنقع الأفغاني، يعيد الحلف اكتشاف مهمته التاريخية: ردع هجوم تقليدي من دولة ما -علاوة على ذلك من عدو سابق، روسيا -ضد أعضائه. من هنا، ستشكل الحرب في أوكرانيا قفزة جديدة في تاريخ الناتو، مثل نهاية الحرب الباردة أو 11 سبتمبر 2001. وستعطيه سببًا جديدًا للوجود، يجد ترجمته في تعزيز حضوره العسكري على الجانب الشرقي -أهم توطيد للدفاع الجماعي منذ سقوط الكتلة الشيوعية.   ما هو بالضبط مضمون عملية إحياء الناتو هذه، وما هي حدودها؟

من إدارة الأزمات ...
   بالتأكيد، أن فكرة إحياء الناتو تحمل بعض الحقيقة. التدابير المتخذة رداً على الحرب في أوكرانيا أكثر تماسكاً وصلابة وتوافقاً بما لا يقاس بما يسمّى بعمليات “إدارة الأزمات” التي نفذها الحلف منذ نهاية الحرب الباردة في البلقان “التسعينيات”، في ليبيا “2011” ، وفي أفغانستان “2000-2010».
   تميزت هذه الاشتباكات العسكرية بخلافات قوية بين الدول الأعضاء في الناتو حول الأهداف التي يتعين تحقيقها والموارد المطلوبة والإجراءات العملياتية. ويكمن أحد الأسباب الأساسية لهذه التوترات المتعددة الأطراف في حقيقة أن الناتو، في إدارة الأزمات، يقاتل مخاطر “الإرهاب، وعدم الاستقرار الإقليمي، والقرصنة، وما إلى ذلك” يُنظر إلى خطورتها بشكل مختلف وفقًا للدول الأعضاء.
   حتما، تنعكس هذه الاختلافات في سير العمليات. على سبيل المثال، تشارك بعض الدول الأعضاء أكثر من غيرها في هذه المهمة او تلك، من حيث العدد وفي القتال، اعتمادًا على ما إذا كانت تعتبر هذه البعثات أولوية بالنسبة لأمنها القومي أم لا.
   ويمثّل عمل الحلف في أفغانستان ذروة هذه الخلافات. أدت الخلافات التي قسمت مهمة الناتو -القوة الدولية للمساعدة الأمنية (إيساف) -إلى تجزئة جهود الحلفاء، مما حال دون ظهور استراتيجية مشتركة.
   رسميا، حاربت القوة الدولية للمساعدة الأمنية الإرهاب من خلال القيام بعمليات مكافحة التمرد. لكن هذا الهدف العام للغاية تم فهمه بطريقة غير متجانسة داخل الحلف. في الواقع، تضمنت العديد من العناصر الفرعية المتنافسة “الاستقرار العسكري، ومكافحة تهريب المخدرات، وإعادة الإعمار، الخ...” وتفاوتات كبيرة للغاية في مساهمة الدول المشاركة، ولا سيما بين الولايات المتحدة والأوروبيين الى درجة أنه كان يستحيل تقريبًا اكتشاف هدف واضح.
   وساهمت هذه الصعوبات في ظهور الهزيمة أمام أعين العالم كله في يونيو 2021 عندما استعادت طالبان السيطرة على كابول.

... الى عودة الدفاع الجماعي
   يتناقض رد الناتو على الحرب في أوكرانيا مع هذا السجل المختلط والمرتبك.
   لنعد هنا أيضًا للوراء... تبدأ المتتالية بضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. وهذه نقطة تحول: أعاد حلف الناتو التركيز على دعامته التاريخية، الدفاع الجماعي، المنصوص عليه في المادة 5 من معاهدة تأسيس واشنطن “1949”، والتي تنص على ما يلي: إن شن هجوم مسلح ضد إحدى الدول الأعضاء -وهو احتمال بدا ممكنًا في ضوء تدهور العلاقات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي منذ عام 2014 -من شأنه أن يؤدي إلى رد عسكري جماعي من الحلف.
   ثلاث قمم مهمة ميزت هذا التطور. في ويلز “2014”، تم اعتماد خطة عمل استجابة الناتو. وتشمل تدابير إعادة طمأنة دول وسط وشرق أوروبا. تضاعفت قوة الرد التابعة لحلف الناتو ثلاث مرات، وتم الإعلان عن إنشاء مكون عالي الجاهزية داخلها، يمكن نشره في غضون مهلة قصيرة جدًا.
   عززت قمة وارسو “2016” إعادة التركيز على الدفاع الجماعي، من خلال تفعيل الوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو على جناحه الشرقي. تشكلت هذه القوة عام 2017، وتتكون من أربع كتائب متعددة الجنسيات متمركزة في دول البلطيق الثلاث “إستونيا ولاتفيا وليتوانيا” وبولندا. بعد فبراير 2022، تم توسيع الوجود الأمامي المعزز ليشمل رومانيا وبلغاريا والمجر وسلوفاكيا. وفي يونيو 2022، كان هناك ما بين 900 و11600 جنديا كتعزيزات في كل دولة.
   أخيرًا، ختمت قمة مدريد “يونيو 2022” هذا التطور، الذي تمثل في تبني مفهوم استراتيجي جديد، نص بوصلة الحلف، الذي ينزّل روسيا من مرتبة الشريك إلى مرتبة التهديد الأساسي. أيضا، دعيت السويد وفنلندا للانضمام إلى الحلف، بعد أن تقدم هذان البلدان بطلب عضوية.
   وبالتالي، فإن المتتالية الممتدة من ضم شبه جزيرة القرم إلى غزو أوكرانيا، تتميز بإعادة التركيز على ما هو أكثر توافقية داخل الحلف: تهديد دولة، المادة 5، التدابير العسكرية التي لها تأثير رادع لا يمكن إنكاره. ان الناتو لا يردع فحسب، بل يجتذب أعضاء جدد أيضًا.
   يبدو أن مرحلة “الموت السريري لحلف الناتو”، باستخدام التعبير المتفجر لإيمانويل ماكرون في نوفمبر 2019، بدأت تتلاشى بشكل مفاجئ الى درجة أن الهزيمة الأفغانية تكاد تكون بمثابة ذكرى سيئة في وقت تجدد التهديد الروسي. باختصار، ستصبح الجغرافيا السياسية العسكرية لحلف الناتو، التي كانت مشتتة في عمليات إدارة الأزمات حتى آسيا الوسطى، أكثر وضوحًا مع عودة العدو القديم وخطط الردع المصاحبة له.

الدفاع الجماعي ومنطق التسوية
   ومع ذلك، يجب الحذر من الوقوع بسرعة كبيرة تحت تأثير الخطاب الرسمي، الذي يعرض عمل الناتو الحالي على أنه نجاح لا يقاس للدفاع الجماعي المعزز.
   إن إبراز الفرق بين صعوبات إدارة الأزمات والتسهيلات المفترضة للدفاع الجماعي لا يكفي لفهم ديمومة حلف الناتو وتحولاته. هذه الثنائية صالحة إلى حد ما، بدءً من المقارنة نفسها. وعلى عكس أفغانستان، فإن الناتو ليس في حالة حرب في أوكرانيا، ولكنه في وضع ردع يهدف إلى منع هجوم روسي على إحدى الدول الأعضاء فيه. وفي هذا الصدد، لا يجب أن يعاني الوجود المتقدم لحلف الناتو من صعوبات هائلة عملياتية وصنع القرار الملازم لشن حرب في شكل متعدد الأطراف.
   بعد ذلك، لئن تم النظر إلى التهديد الروسي بطريقة أكثر توافقية من فئات المخاطر الأخرى، مثل الإرهاب، فان مستوى خطورته لا يحوز على الإجماع أيضًا. في الواقع، يظل الدفاع الجماعي هو النواة الصلبة للحلف، لكن تنفيذه ليس منسجمًا “وهو ما لم يكن كذلك أثناء الحرب الباردة، لنذكّر أيضًا».

   بالتأكيد أن روسيا موصوفة باعتبارها “تهديدًا مباشرًا”، خاصة منذ فبراير 2022. والإعلان المشترك الناتج عن قمة مدريد الأخيرة، والنبرة الجادة للمفهوم الاستراتيجي الجديد فيما يتعلق بروسيا، يُظهران بالتأكيد أن الحلفاء يرصون صفوفهم في مواجهة هذا التهديد. ومع ذلك، فإن مبرر وجود نص مثل المفهوم الاستراتيجي هو الكشف في وضح النهار عن وحدة التحالف حول المبادئ الأساسية. لكن هذا لا يعني أن الخلافات انتهت بل على العكس. وهكذا اتسمت العودة إلى الدفاع الجماعي بعد عام 2014 باختلافات وتنازلات، بشكل بياني بين موقفين.
   من ناحية، دول وسط وشرق أوروبا (دول البلطيق وبولندا ورومانيا)، والتي غالبًا ما تدعمها الولايات المتحدة، ومن داعمي الموقف العسكري الثابت والموحد ضد روسيا. ومن جهة أخرى، دول أوروبا الغربية (فرنسا وألمانيا وإسبانيا) المؤيدة لسياسة الردع المعتدل، تاركة باب الحوار مفتوحًا مع روسيا، ومستبعدة خطر التصعيد.

   والمفاوضات التي أدت إلى نشر الوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو كانت نتاج حل وسط بين الموقفين.
   المجموعة الأولى، أرادت إقامة قواعد عسكرية دائمة على أراضيها من أجل إظهار سياسة الردع المستمر ضد روسيا. لم توافق الكتلة الثانية، لأنها رأت أنه إجراء مبالغ فيه، من المرجح أن يؤدي إلى التصعيد، ويتعارض مع القانون التأسيسي للتعاون بين الناتو وروسيا “1997”، والذي يستبعد ضمنيًا إقامة هياكل عسكرية دائمة على أراضي الدول الأعضاء الجدد.
   لذلك توصل الحلفاء إلى الحل الوسط التالي: سيكون الوجود الأمامي “دائمًا ولكن بالتناوب”. ستكون القوة موجودة جسديًا لكن ستخضع وحداتها للتناوب كل بضعة أشهر، وهو ما يرضي كلا الاتجاهين.

«الردع الانتقامي” ومصداقية الناتو
   إن هذه الاختلافات في وجهات النظر تعوق الأداء العسكري ذاته للوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو. يرتكز هذا الاخير على مبدأ “الردع الانتقامي”. انه لا يهدف إلى نشر قوة عسكرية كبيرة بما يكفي لتعطيل أي هجوم محتمل على الفور، وتقويض أي ثقة من جانب المعتدي في النجاح الأولي لعمله المسلح (“الردع بالمنع”. الخيار الذي روجت له في البداية دول البلطيق على سبيل المثال). إن المسألة تتعلق بالأحرى بترك ثقل احتمال حدوث ردّ لاحق من شأنه زيادة التكلفة الأولية للهجوم بشكل كبير.
   وبهذا، فإن الأعداد المعتدلة المنتشرة للوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو تجعله وجودًا لا يُقصد به إلحاق أضرار غير مقبولة بروسيا منذ الاشتباكات الأولى. ويُنظر إلى الوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو على أنه “سلك تعثّر”، والذي بمجرد عبوره “أو بالأحرى مهاجمته” من شأنه أن يؤدي إلى رد عسكري كامل من الناتو، أي تعبئة قوة رده. في الواقع، كان الردع عن طريق الانتقام هو الخيار التوافقي الوحيد الممكن، نتيجة حلّ وسط بين الدول التي ترغب في وجود كبير لحلف شمال الأطلسي على الجانب الشرقي، وتلك التي ترى أنه إجراء تصعيدي.
   في الواقع، إن محاولة صد جيش بحجم وقوة نيران القوات الروسية، على سبيل المثال، من شأنه أن يعني نشر قوة عسكرية كبيرة هناك. وهو أمر لا يمكن تصوره، مالياً وسياسياً، بالنسبة لمعظم الحلفاء. وبالتالي، فإن دعم الوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو بأربع كتائب إضافية كرد فعل على غزو أوكرانيا، وكذلك الإعلان في قمة مدريد عن تعزيز الوجود الأمريكي في أوروبا، يتماشى مع هذا الحل الوسط.

   وبالنتيجة، فإن منطق التسوية هذا له حدود ما، أهمها مصداقية الانتقام. إن إظهار التصميم على الانتقام أمر أساسي في منطق الردع، ولا سيما في خيار الردع عن طريق الانتقام. ويتوقّف هذا إلى حد كبير على الرسالة المرسلة، والتي يجب أن تنقل التصميم على استخدام القوة بطريقة أوسع من أجل جعل من اختار الهجوم يدفع ثمناً باهظاً.
ومع ذلك، فإن بناء هذا الخطاب المشترك والمتماسك في إطار سياسة الردع ضد روسيا لا يزال يمثل تحديًا لحلف الناتو، وعلى وجه التحديد، بسبب الاختلافات في تصور هذا التهديد بين الدول الأعضاء.

   في النهاية، إن نشر غسيل الانتقادات المتكرر للعموم التي يتعرض لها هذا الأخير في هذا الموضوع يهدد بتقويض مصداقية ردع الناتو. نشير الى اللوم المنتظم الذي توجهه بولندا أو دول البلطيق إلى ألمانيا أو فرنسا، المتهمتين بالتساهل الشديد تجاه موسكو.
   نتيجة لذلك، يشك بعض المتخصصين في قدرة الناتو الحقيقية على الرد كما يزعم رسميًا. على سبيل المثال، إذا قررت روسيا استهداف الوحدات النرويجية أو اللوكسمبورغية المتمركزة في ليتوانيا للضغط على تضامن الحلفاء، فهل سترد ألمانيا، الموجودة أيضًا في ليتوانيا، عسكريا مع خطر تصعيد الحرب؟ هذا السيناريو غير مرجح بالتأكيد، لكنه ليس مستبعدا أيضًا، نظرًا لاستمرار التهديدات الروسية للمعسكر الغربي. وبالتالي، من خلال نشر وحدات على حدود روسيا العدوانية، وفي نفس الوقت إظهار خلافاته الداخلية، فإن الناتو لا يعزز موقفه فحسب، بل يخاطر أيضًا: ويعرض نفسه لهجمات منخفضة الكثافة على قواته، والتي لن تناسب تمامًا المادة 5، اي من شأنها أن تجعل من الصعب للغاية تحديد الرد.

   تخطيطيا، فإن عدم غياب التحرّك من شأنه أن يقوض مصداقية الوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو، وقد يكون الردّ، حتى وإن كان محدودا، ذريعة للتصعيد. في النهاية، يمكن أن تكشف الانقسامات الصريحة بشكل مفرط عن جيوب نقاط ضعف في سياسة الردع التي يتبعها الحلف والتي، إذا تم استغلالها، يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة على مصداقية الناتو بشكل أوسع.

التحالف يستعيد حيويته
   الخلاصة، إذا بدا واضحًا أن عودة الدفاع الجماعي داخل الناتو تتناقض في تماسكها وانسجامها مع إدارة الأزمات، فلا ينبغي المبالغة في الاختلاف. تتقاسم الركيزتان الأساسيتان للتحالف قاعدة مشتركة فيما يتعلق بالمفاوضات متعددة الأطراف.
إنها نتيجة للتسويات بين الدول الأعضاء ولكليهما حدود.
   لم تنقذ الحرب في أوكرانيا الناتو. فهذا الأخير لم يكن ببساطة في خطر مميت -لا ننسى أن مشروع “الناتو 2030” وُلد في نهاية العمليات في أفغانستان، مهما كانت مزعجة ... ومع ذلك، أعاد الغزو الروسي تنشيط الحلف بشكل واضح.
   تعتبر التوترات والتسويات والحلول الوسط والالتباس جزءً من الحياة المتعددة الأطراف لحلف الناتو. ولا ينبغي أن يُنظر إلى هذا على أنه تناقض، بل على أنه أمر طبيعي. والدفاع الجماعي، مثله مثل إدارة الأزمات، لا يُستثنى من هذا الواقع.
 باختصار، بدلاً من أن نشهد حربًا باردة جديدة منقذة لتحالف كان سيفقد اتجاهه، كما يزعم البعض بسرعة كبيرة، فإننا نشهد تحديثًا لمنطق العداوات حيث تختلط المنافسات القديمة بين الدول والمزيد من التصورات المتغيرة للمخاطر.
 -----------------------------
*دكتور وباحث في العلوم السياسية والاجتماعية -الأمن الدولي، جامعة بروكسل الحرة