الاستثناء الروسي هاجسه

هل يجب معاملة بوتين كقيصر أم مجرد أمين عام آخر...؟

هل يجب معاملة بوتين كقيصر أم مجرد أمين عام آخر...؟

-- بوتين شخصية انتقالية، لا سوفياتية ولا حقًا ما بعد ســـوفيـاتيـــة
-- ثلاثة أرباع الروس يستخدمون الإنترنت بانتظام، بقدر ما يستخدمه المواطن الأمريكي العادي
-- إنهم يتعلمون اللغة الإنجليزية لأسباب تتعلق بالقلب والصينية لأسباب تتعلق بالرأس
-- يحاول بوتين حشد جميع أنواع الأساطير لدعم الاســـتثــنـائية الروسية
-- بوتين هو تجسيد جديد لنيكولاس الأول، والبطريرك نيكون، وربما بطرس الأكبر في أحسن الأحوال


   من خلال تعريف روسيا “ه” بطرق متعددة في تعارض مع أوروبا والغرب بشكل عام، يترك فلاديمير بوتين، مثل العديد من القادة الروس الآخرين قبله، للعالم الخارجي تعريفه وبلده.    لا يزال هناك الكثير مما يمكن قوله عن بوتين. ففيما يتعلق بشخصيته العامة، التي تتسم أحيانًا بالذكورية المنحرفة، فإن القمع الوحشي لبعض قوى المعارضة يسير جنبًا إلى جنب مع الرغبة في تفويض آخرين، وحتى مدحهم. وفيما يتعلق أيضًا، بمسألة معرفة ما إذا كان، في نهاية فترته الرئاسية الرابعة عام 2024، سيتقاعد، أو يجد حيلة جديدة لقلب الدستور، أو اختيار من يخلفه. الا انه، على مستوى الامتداد الزمني من تاريخ روسيا الاستثنائي، هل ينبغي معاملته كقيصر آخر، أو مجرد أمين عام اضافي، يستحق قسمًا أو قسمين، وليس أكثر؟

   من المؤكد أن الاستقرار الداخلي للبلد وإعادة ترسيخ دوره، بطريقة صدامية وسريعة الغضب في بعض الأحيان، على المسرح العالمي توضع في رصيد حسابه. ومع ذلك، لم يكن قاتلاً مثل إيفان (الرهيب) أو ستالين (الأكثر فظاعة)، ولم يكن أكبر من الطبيعة (بالمعنى الحرفي تمامًا) من بيير الراهب.
إنه يفتقر إلى البرودة الفكرية للينين أو أندروبوف، فضلاً عن الغريزة السياسية الدقيقة لكاثرين العظيمة أو دميتري دونسكوي.

   هذا لا يعني التقليل من شأن بوتين، ولكن ببساطة وضعه في مكانه الصحيح. لقد حاول دون شك تشكيل الطريقة التي تنظر بها روسيا إلى تاريخها. وبشكل متزايد، يجب أن تلتزم الكتب المدرسية والدروس الجامعية بالرواية الرسمية، التي تمجد الانتصارات وتقلل من المآسي. ومن هذا المنظور، يُنظر إلى ستالين على أنه مُحدِث ضروري وقائد حرب، في حين هبط معسكر الغولاغ إلى الهامش. وطالب بوتين بأن يكون هذا التاريخ الرسمي الجديد للبلاد “خاليًا من التناقضات الداخلية، ولا يمكن أن يفسح المجال لتفسير مزدوج” -كما لو أن التاريخ الحقيقي لم يكن بهذه البساطة من قبل.

   إنه ليس أول من حاول إملاء صورة روسيا وماضيها، فقد كان لدى ديمتري دونسكوي مؤرخون في خدمته، واعتنت كاثرين العظيمة بصورة بلدها في أوروبا، ورافقت عبادة “الجنسية الرسمية” في عهد الإسكندر الثالث حملة لإسكات المثقفين المشاغبين الذين أرادوا تحدّي تعاليمه وإعادتهم إلى المسار الصحيح. وكان أبرز هذه المحاولات، تاريخ الحزب الشيوعي البلشفي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، نسخة مختصرة، راجعها وصححها ستالين، ونشرت عام 1938، وكانت محاولة لإعادة صياغة الأحداث في الذاكرة الحية. وفي السنوات العشرين التالية، تم طباعة وتوزيع أكثر من 42 مليون نسخة، بسبعة وستين لغة، مما يجعله الكتاب الأكثر قراءة على نطاق واسع بعد الكتاب المقدس.

   النقطة المهمة، هي أن أيا من هذه المناورات لم تنجح في تحقيق هدفها، وهو تشكيل الطريقة التي يرى بها الروس أنفسهم. إن شعبا طرس، وبلدا ليست له حدود جغرافية أو ثقافية أو عرقية واضحة، هم بلا شك أكثر حرصًا على منح أنفسهم أساطير وطنية تساعد على توحيدهم وتعريفهم، ولكن من الصعب أيضًا حصرهم في تاريخ واحد “بلا تناقضات داخلية ولا يمكن أن يصلح لتفسير مزدوج «.

   يتنزّل بوتين تمامًا في الهياكل العامة للتاريخ الروسي، رغم أنه، كشخصية انتقالية، لا سوفياتية ولا حقًا ما بعد سوفياتية. ومن الواضح أن الاتحاد السوفياتي كان يتخلّف عن الغرب، غير قادر على التنافس معه في سباق التسلح الجديد، وبالتالي كان موقعه الدولي ضعيفًا بشكل متزايد. وحاول جورباتشوف تحديث الاتحاد السوفياتي، وهو ما تطلب ضرورة عملية تحرير، مما أدى إلى الاضطرابات والى انهيار النظام في نهاية المطاف. وفي نظر بوتين، كان ذلك “كارثة جيوسياسية كبرى في القرن” -والتي، لكي نكون منصفين، لا تعني أنه كان يرغب في إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي -لكنها تعكس رخاوة من جانب الحكومة.

   بعد “فترة الاضطراب” الجديدة في حقبة يلتسين، توصل بوتين إلى اعتبار أن التهديد الرئيسي للبلاد يكمن في ضعفها الداخلي -ربما تتعهده قوى أجنبية معادية -وبالتالي، رغم كل الاستثمارات في الطائرات دون طيار للجيش، وفي الأقمار الصناعية التي تم وضعها في مدارها، ومغامراته في الخارج، فان نظامه محافظ بشكل أساسي. إنه تجسيد جديد لنيكولاس الأول في محاربة الفوضى، والبطريرك نيكون مستعيدا التهجئة القديمة، وربما في أفضل الأحوال لبطرس الأكبر، سعيد بتبني التقنيات الغربية لتسليح الدولة والسيطرة على النخبة، ولكنه غير راغب في إطلاق إصلاحات من الأسفل.

طرس النص
التشعبي ومفارقاته
   في الأثناء، يتم فرض طبقات جديدة من الكتابة على الطرس. وإذا كان جيل بوتين -جيل الإنسان السوفياتي، الذي لم يولد فقط ونشأ في الحقبة السوفياتية، ولكن سنواته التكوينية وبداياته المهنية سبقت عام 1991 -يظل هو المسيطر، فان أجيالا جديدة تتبعه عن قرب، بعضهم تشكل في سنوات التسعينات الفوضوية، والبعض الآخر، كبروا، ولم يعرفوا روسيا دون بوتين في القيادة.

   هناك من يتمردون ويتطلعون إلى الغرب بحثًا عن الإلهام والطموح، أما الآخرون الذين يخلطون بين أرثوذكسية بوتين واستخفاف فادح، فهم يتبنون مكانة روسيا العالمية الجديدة كشرير على المسرح الدولي، ويتباهون به على قمصانهم. يقرأ المرء “بوتين: أكثر الرجال أدبًا”، مستخدمًا التعبير الروسي لما أطلق عليه الغربيون “الرجال الخضر الصغار”، الكوماندوس الذين استولوا على شبه جزيرة القرم. “عزلنا؟” نعم، افعلوا ذلك!”، يطالب إعلان آخر إلى جانب شعار ماكدونالدز، ورمز وملصق المثليات والمثليون ومزدوجو الميل الجنسي ومغايرو الهوية الجنسانية، وكلها مشطوبة بـ «X» حمراء.

   في نفس الوقت، وبعيدًا عن التبسيط، أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا. مسجد جديد وضخم يقف بالقرب من الاستاد الأولمبي في موسكو، أقامه مسلمون من شمال القوقاز وآسيا الوسطى، كمواطنين و-خاصةً-كعمال مؤقتين “ضيوف”. معهم تأتي تأثيرات جديدة، على سبيل المثال، المطاعم القوقازية أو البازار الأفغاني الرأسي الذي يحتل إلى حد كبير فندق سيباستوبول الموروث من الحقبة السوفياتية.

   اقام بوتين تمثالا ضخما للقديس فلاديمير -الأمير العظيم فلاديمير العظيم -تم تشييده بجوار الكرملين، لكن الأمر يتعلق بفلاديمير كييف، وكما أصبحت كييف كييف، فإن أوكرانيا ليست دولة مستقلة فحسب، بل إنها تقوم بتحويل وجهة عينيها بشكل متزايد إلى الغرب وليس إلى الشرق. هل لا يزال فلاديمير ينتمي ثقافيًا إلى روسيا؟ أم هو الآن فولوديمير الأوكراني؟ في مطارات موسكو، توجد الآن صفوف مخصصة للسائحين الصينيين في سفرات منظمة لفحص جوازات السفر، الى جانب المزيد من الاشارات باللغتين الصينية والإنجليزية. في الشرق الأقصى الروسي، أدى تدفق الأموال الصينية إلى إعادة تشكيل مدن واقتصادات إقليمية بأكملها. أخبرني مدرس روسي عن طلابه: “إنهم يتعلمون اللغة الإنجليزية لأسباب تتعلق بالقلب، والصينية لأسباب تتعلق بالرأس».

   لا تتجلى كل هذه التأثيرات في الجغرافيا الطبيعية لروسيا. يضاف إلى الطرس نص تشعبي، وصلات في الفضاء السيبراني حيث تنتشر المعلومات والتأثيرات الثقافية بحرية. ثلاثة أرباع الروس يستخدمون الإنترنت بانتظام، بقدر ما يستخدمه المواطن الأمريكي العادي. ويواكب الكثيرون الأخبار عبر الإنترنت من مصادر أجنبية، ويشاهدون مقاطع فيديو أجنبية، والأهم من ذلك، يشكلون مجموعات عابرة للحدود عبر الإنترنت. وسواء تعلق الامر بغرف الدردشة او مجموعات ألعاب الفيديو، فإن الروس ليسوا مجرد متصيدون ومثيرون للمشاكل، بل إنهم يشاركون بنشاط في حركات ومجتمعات افتراضية جديدة.

  والمفارقة هي أنه، في تعريفه لروسيا بطرق متعددة وفي تعارض مع أوروبا والغرب بشكل عام -متحديًا لنظامه الدولي وقيمه الاجتماعية، فأن بوتين مثله مثل العديد من القادة الروس الآخرين من قبل، يترك العالم الخارجي، يعرّفه هو وبلده. وهذه فعلا خاصية شائعة جدًا، تنطبق على جميع الحكام الروس تقريبًا منذ أن أدخل إيفان غروزني روسيا في السياسة الشمالية وقدم يده الملطخة بالدماء إلى إليزابيث الأولى، “الملكة العذراء” في إنجلترا.

   والأكثر إثارة للسخرية، هو أن بوتين يحاول حشد جميع أنواع الأساطير لدعم الاستثنائية الروسية، فكرة أن تاريخه يمنح البلاد دورًا خاصًا وبطوليًا في العالم. ولهذه الغاية، يعتمد على جميع المصادر، سواء كانت دعوة موسكو لـ “روما الثالثة” أو معركة كوليكوفو. ومع ذلك، فإن كل الجهود التي يبذلها “الفنيون السياسيون” في الكرملين والمؤرخون الراضون لمحاولة إقناع الروس بأنهم شعب خاص ومنفصل عن أوروبا ومواجه لقواها الثقافية والجيوسياسية الخبيثة، تظهر أنهم يسبحون ضد التيار.

   بعد كل شيء، حتى الروس الذين ما زالوا يقدّسون بوتين، ويظهرون صورته على قمصانهم، حريصون على تعلم اللغة الإنجليزية، والتهام البرامج التلفزيونية والأفلام الغربية، ويسعون حتى في إبداعاتهم الثقافية الخاصة على الاندماج في التيارات الغربية الكبرى. ان روسيا بلد يمكن للمرء أن يرى فيه، على جانب من الشارع، لوحة جدارية ضخمة تغطي واجهة البرج بالكامل، لمجد جنرال روسي عظيم، وعلى الجانب الآخر من الشارع، تبدو سريالية للغاية، لوحة جدارية عملاقة بنفس القدر، تعلن عن خروج فيلم هوليوودي ضخم، وليس أي فيلم: كابتن أمريكا.

*باحث في العلاقات الدولية