ما يقوله لا ينسجم دائماً مع ما يفعله

هل ينفذ دونالد ترامب تهديده ضد الناتو؟

هل ينفذ دونالد ترامب تهديده ضد الناتو؟


يبدو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مستعداً لقول ما لم يكن ممكناً تصوره من رئيس أمريكي، ويفتح شروخاً في تحالف استمر 75 عامًا، ولكن هل هو حقاً مستعد للخروج من الناتو؟.
وفي تقرير عن المخاوف التي أثارها الكلام الأخير لترامب في أوروبا، قالت صحيفة «التايمز» البريطانية إنه عندما قام الجنرال دوايت أيزنهاور، أول قائد أعلى لحلف شمال الأطلسي في أوروبا، بجولة في القارة  عام 1951، كان هناك خطر واحد أقلقه أكثر من الجيش الأحمر، وهو أن يفوز جمهوري أمريكي انعزالي بالبيت الأبيض في نوفمبر (تشرين الثاني) التالي، وينسحب من التحالف العسكري المتشكل حديثاً.
في أوائل العام التالي، استقال أيزنهاور، الذي كان في ذلك الوقت قد بنى الهياكل العسكرية للناتو، والتي لا تزال قائمة اليوم، من منصبه لخوض الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، وتغلب على السيناتور الانعزالي روبرت تافت.
كان أيزنهاور من منصبه كرئيس قادرًا على إعادة التزام الولايات المتحدة بأوروبا. وقال عن الناتو: «أفضل أن أنظر إلى هذا الجهد باعتباره الفرصة الأخيرة المتبقية لبقاء الحضارة الغربية».
وفعلاً، استمر الالتزام الأمريكي، وسوف يحتفل الناتو بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيسه في إبريل (نيسان) وهو لا يزال قادراً على التباهي بأنه لم يخسر قط شبراً واحداً من الأراضي لصالح عدو خارجي. ولكن مع تقدم ترامب في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني)، ومع تعثر بايدن، أصبح هذا الالتزام موضع تساؤل. فبينما يُطلب من الناتو دعم جناحه الشرقي بقوة في مواجهة أعظم تهديد يواجهه في التاريخ الحديث، ربما بدأت قوة الإرادة الأمريكية، التي تمثل أساس وجود حلف شمال الأطلسي، بالتصدع. وخلال تجمع انتخابي في ولاية كارولينا الجنوبية، أدلى ترامب  بتصريحاته الأكثر صراحة حول التحالف حتى الآن، مدعيا بأنه أبلغ «دولة كبيرة» في أوروبا بأنها إذا لم تدفع ما بوسعها للمساهمة في الدفاع عن نفسها، فسوف يشجع على فعل ما تريده». ولم يخف ترامب قط كراهيته للناتو، وهدد بالانسحاب منه عدة مرات. ولكن عندما تولى منصبه، تم ثنيه عن العمل من مسؤولين ذوي خبرة من حوله كانوا ملتزمين بتحالفات أمريكا. قد تكون المرة القادمة مختلفة تمامًا، وقد يكون العديد من هؤلاء المسؤولين غائبين.
ولم يكن ممكناً أن يكون توقيت تعليقات ترامب أفضل لتقويض التحالف، تماماً في الوقت الذي كانت قوات الناتو تستعد لأكبر مناوراتها الحربية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. ويعد «المدافع الصامد» الذي يشارك فيه أكثر من 90 ألف جندي من شمال النرويج إلى اليونان، أول تدريب كبير لاختبار خطط جديدة بشأن أين ومتى ستكون هناك حاجة لقوات الناتو إذا وسع بوتين طموحاته الإقليمية إلى ما وراء أوكرانيا. وسيكون ما يقرب من 25 ألفًا من هؤلاء أمريكيين، وهو تذكير بمدى مركزية الولايات المتحدة في التحالف.
وأثار كلام ترامب انتقادات بشكل خاص في إستونيا، ووصف رئيس المخابرات الإستونية، كوبو روزين، مثل هذه التصريحات بأنها ليست مفيدة على الإطلاق.
ومنذ لحظة استقلالها في عام 1991، كانت إستونيا وزميلاتها من دول البلطيق لاتفيا وليتوانيا - فضلاً عن الأعضاء السابقين في حلف وارسو مثل بولندا - عازمة على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لتأمين الحرية الدائمة. وهي تعتقد الأن أن هذا النوع من الغزو يمكن أن يأتي بشكل أسرع من المتوقع.
وفي حديثه في نهاية يناير (كانون الثاني)، اقترح قائد الجيش الإستوني الجنرال مارتن هيريم أن «التعافي» العسكري الروسي الضروري للقتال مرة أخرى بعد أوكرانيا قد يستغرق أقل من عام، وأن الكرملين قد يستغل «الصدمة» في مكان آخر من العالم، مثل غزو صيني لتايوان للاستيلاء على أراضي من دول الناتو الشرقية.

تقييم استخباراتي ألماني
وكان تقييم استخباراتي ألماني مسرب أشار الشهر الماضي إلى أن الكرملين قد يهاجم دول البلطيق في أوائل عام 2025 إذا تم انتخاب ترامب رئيساً، مراهناً على أن الأخير سيختار عدم التدخل. وهناك آخرون أكثر تفاؤلاً، حيث يعتقدون أن بوتين قد يسعى على أقصى تقدير إلى إرسال دباباته عبر دولة غير عضو في حلف شمال الأطلسي مثل جورجيا أو مولدوفا. وخلال مقابلة أجريت معه مؤخرا، قال للصحافي الأمريكي تاكر كارلسون إنه «غير مهتم» بدول البلطيق.
ومع ذلك، تلفت الصحيفة البريطانية إلى أنه لا يمكن التنبؤ بالخطوة التالية لبوتين في لعبة الشطرنج. والأسبوع الماضي، كشفت الاستخبارات الأمريكية أن روسيا تعمل على تطوير أسلحة فضائية نووية لتهديد الأقمار الاصطناعية الأمريكية، رغم أن مدى طموحاتها العسكرية خارج كوكب الأرض لا يزال غير واضح. ومع ذلك، فإن ما يستطيع حلف شمال الأطلسي أن يفعله هو شحذ مخالبه استعدادًا لأي شيء سيأتي بعد ذلك.

بدون الدعم الأمريكي
ومن دون الدعم الأمريكي الكامل، فإن القوة العسكرية لحلف شمال الأطلسي سوف تتضاءل إلى حد كبير. وحتى إدارة بايدن، التي سعت إلى التأكيد على التزامها بتحالفات أمريكا التقليدية، أوضحت أن أولويتها القصوى الآن هي صراع القوى العظمى مع الصين.
ونسبت الصحيفة إلى دبلوماسي أوروبي العام الماضي قوله: «هم ببساطة غير مستعدين لفعل المزيد»، واصفاً إدارة بايدن بأنها «أفضل ما سنحصل عليه. المركز الجغرافي للعالم يتحول إلى آسيا.». وإذا تولى ترامب السلطة، فمن الممكن أن يتسارع هذا التحول. ووسط هذه الأجواء، ترى الصحيفة أن ما يقوله ترامب لا ينسجم دائماً مع ما يفعله. وقال دبلوماسي أوروبي آخر هذا الأسبوع: «لقد كنا في هذا الوضع معه من قبل، والناس يحاولون عدم الذعر»، على الرغم من اعترافه بأن ولاية ترامب الثانية يمكن أن تؤدي إلى «تغييرات عميقة» ومفاوضات مثيرة.
ومع ذلك، يحذر آخرون من أنه ينوي بالفعل الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير.

 


 ولا يعتقد مستشار الأمن القومي السابق لترامب جون بولتون أن هذا تكتيك تفاوضي. وقال لموقع بوليتيكو الإلكتروني الأمريكي: «من وجهة نظري، سيحاول ترامب الخروج من الناتو»، واصفًا تعليقاته الأخيرة بأنها محاولة متعمدة لتشكيل النقاش قبل مثل هذه الخطوة.
وقد اتخذ أنصار حلف شمال الأطلسي في واشنطن بالفعل خطوات تجعل من الصعب عليه الانسحاب من الحلف من جانب واحد. وفي يوليو (تموز) الماضي، أرفق السيناتور الجمهوري والمرشح الرئاسي السابق ماركو روبيو والسيناتور الديمقراطي تيم كين بندًا في مشروع قانون ميزانية البنتاغون، الذي وقع عليه بايدن لاحقًا، والذي يجب أن يتطلب موافقة الكونغرس لمغادرة التحالف.
ولكن باعتباره القائد الأعلى، لا يزال بوسع ترامب أن يشل دفاعات حلف شمال الأطلسي. ويشير آخرون إلى أنه يمكن أن يتعهد بأن الولايات المتحدة لن تدافع عن أي من الأعضاء الذين ينفقون بشكل أقل من اللازم، مما يؤدي إلى إنشاء تحالف من مستويين، حيث تكون بعض الدول أكثر عرضة للهجوم من غيرها.

أزمات داخلية
وبطبيعة الحال، واجه حلف شمال الأطلسي أزمات من قبل، بما في ذلك الانقسامات الداخلية الحادة حول السويس في عام 1956 وغزو العراق عام 2003.
كما أن المخاوف الأمريكية والانزعاج الدوري من أوروبا ليس بالأمر الجديد. خلال المفاوضات الأولية لإنشاء التحالف، أشار سفير الولايات المتحدة في لندن، لويس دوغلاس، إلى أن واشنطن ربما «تقضم أكثر مما نستطيع مضغه» من خلال تعهدها بالدفاع عن القارة.