تُعدُّ ثالث مصدر لها في العالم
«كنوز ميانمار».. الصين وأمريكا في قلب معركة المعادن النادرة
توقعت دراسات إستراتيجية دولية أن تصبح ميانمار في قلب تجاذب دولي بين الصين والولايات المتحدة، بفضل مخزونها الهائل من المعادن النادرة وضعف معاييرها البيئية المعتمدة في عملية الاستخراج.
تأتي هذه التوقعات في ظل اضطرار واشنطن لعقد هدنة تجارية مع بكين، نظرًا لسيطرة الصين الكاملة على منظومة إنتاج وتصدير هذه المعادن عالميًّا. وتؤكد مصادر أن الأوضاع التي تعيشها ميانمار ستزيد حدّة التدخل الإقليمي والدولي فيها، ليس بسبب الأزمة السياسية والإنسانية فقط، وإنما أيضًا لثرائها بالمعادن النادرة.
إمكانيات هائلة ومهولة من المعادن النادرة
وتُشير الأرقام والإحصائيات الدولية إلى أنّ ميانمار تحظى بمكانة متقدّمة في مجال المعادن النادرة، حيث أنّها تُعدُّ ثالث مصدر لها في العالم بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية، كما أنّها استأثرت في 2024 بما يناهز نصف التعدين العالمي للمعدين النادرين “الديسبروسيوم” و”التيربيوم”، وهما عنصران حيويان في الصناعات الدفاعية وقطاع الفضائيات والطاقة المتجددة والمغناطيس وبطاريات السيارات الكهربائية.
وإلى حدّ 2024، كانت ميانمار أكبر مصدّر للصين للمعادن النادرة، ورغم كون بكين أكبر منتج لها في العالم فإنها بقيت تستورد المواد الخام التي تحتوي المعادن النادرة من الخارج.
كما تستحوذ ميانمار على حدود 57% من إجمالي واردات الصين من المعادن النادرة في 2024.
وانطلاقًا من سنة 2018، شهدت صادرات ميانمار من المعادن الأرضية الثمينة النادرة إلى الصين ارتفاعًا ملحوظًا، لتبلغ ذروتها في 2023 بما مجموعه 42.000 طن متري من المعادن النادرة.
بيضة القَّبان
ولعبت المعادن النادرة دور “بيضة القبان” في الصراع الأمريكي الصيني حول الرسوم الجمركية، فبمجرّد إعلان الصين عن فرضها رسومًا جمركية قاسية على 7 مواد نادرة من بينها مادتا “الديسبروسيوم” و”التيربيوم”، حتى أذعنت واشنطن لإبرام هدنة تجارية ثنائية تعيد رسملة الرسوم في مستويات مقبولة من الطرفين (30% بالنسبة للسلع الصينية إلى الولايات المتحدة، و10% بالنسبة للسلع الأمريكية إلى الصين).
وخلال فترة الحرب التجارية بين الصين وأمريكا، عانت تجارة التكنولوجيات الرقمية في أمريكا الأمرّين؛ ما دفع بإيلون ماسك إلى دق ناقوس الخطر مؤكدًا أنّ العقوبات الصينية أخرت إنتاج روبوتات “أوبتيموس” التابعة لشركة “تسلا».
ووفق الخبراء، فإنّ ورقة “المعادن النادرة” التي لعبتها بكين بشكل ذكي وفي وقت حساس، دفعت الإدارة الأمريكية الحالية إلى التفكير في بدائل حقيقية عن الهيمنة الصينية التي احتكرت تقريبًا كامل السلسلة من “الاستخراج إلى التصدير».
أهمية ميانمار أمريكيا
وبحسب تقارير غربية، فإنّ ميانمار بدورها تحتكر “المناجم النشطة والغنية من المعادن النادرة”، وهي مناجم ذات أهمية كبيرة في العقل الإستراتيجي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولإدارته، فهذه المناجم بثرائها وثروتها من المعادن النادرة، هي مناجم استثنائية ولا نظير لها في العالم برمته.
وتضيف الدراسات الأمريكية في هذا السياق أنّ هذه المناجم النشطة والغنية بالمعادن النادرة لا مثيل لها سواء في “غرينلاند”، وهي الأراضي الدنماركية التي يبغي ترامب الاستحواذ عليها لمواردها الجليدية، أو في أوكرانيا أيضًا، التي وقّعت معها الولايات المتحدة حديثًا صفقة معادن رئيسية بالغة الأهمية.
ولهذا، فإنّ ميانمار باتت في صميم الإستراتيجيات الأمريكية، وبناء على هذه المقدمة، يُفهم برود الموقف الأمريكي من سيطرة مقاتلي “جيش استقلال كاشين” على منطقة “كاشين” الغنية بثروات المعادن النادرة، والحدودية مع الصين.
ويُشير الخبراء العسكريون إلى غياب أي دليل عن تدخل أمريكي بشكل مباشر أو غير مباشر في الجغرافيا الميانمارية لتغليب كفة متمردي “جيش استقلال كاشين” على قوات المجلس العسكري الحليف الرئيسي لبكين، إلا أنّ المشهد برمته ينال قبول إدارة ترامب إلى حدّ معين.
تقهقر في واردات الصين
وتتابع واشنطن بحذر مشوب بالارتياح، التقهقر الحاصل في واردات الصين من المعادن النادرة من ميانمار عقب استيلاء المتمردين على منطقة كاشين، معقل التمرد ومحضن مناجم المعادن النادرة.
وأتمّ المتمردون السيطرة على كافة المواقع المسؤولة عن إنتاج نصف إنتاج العالم من المعادن النادرة الثقيلة؛ ما أدى إلى اضطرابات هيكلية في سلاسل الإمدادات وإلى ارتفاع واضح في الأسعار.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى من 2025 انخفضت واردات الصين من أكاسيد المعادن الأرضية النادرة من ميانمار بأكثر من الثلث مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي.
في سياق متصل، تتحدث مصادر ميدانية أنّ الانخفاض شهد مستويات قياسية تجاوز الثلث المذكور آنفًا بمستويات غير مسبوقة، حيث تظهر بيانات الجمارك الصينية أنّ الواردات الشهرية من المعادن النادرة من ميانمار إلى الصين انخفضت إلى 90% خلال الأشهر القليلة الماضية من هذه السنة، وقد تدعم هذا التدهور الكبير بإغلاق الصين للحدود وإيقاف إمدادات الغذاء والوقود.
ونبهت جهات اقتصادية غربية إلى إمكانية مواجهة الصين إلى صعوبة كبيرة في تلبية طلبها الداخلي على المعادن الأرضية النادرة الثقيلة على المدى القصير في حال أوقفت الجهات الحاكمة بالقوة في ميانمار جميع صادرات مخزونات المعادن الأرضية النادرة إلى الصين.
الرد الصيني
في مقابل هذا المشهد، لا يبدو أَنَّ الصين تُفكّر أصلًا في ترك المجال فارغًا لواشنطن لاستغلال المشهد العسكري المتقلب في ميانمار قصد إيجاد موطئ قدم لها في مجال المعادن النادرة في حديقتها الخلفية.
وحسب الخبراء المتابعين للمشهد الصيني الميانماري، فإنّ الردّ الصيني بُني على 3 أركان كبرى، وهي على التوالي: “دعم ميليشيات ميانمارية مؤيدة لها في “ولاية شان”، و”إيجاد قنوات اتصال غير رسمية مع جيش استقلال “كاشيد”، و”إيجاد بدائل مشجعة عن ميانمار.
ويضيف الخبراء أنّ النقطة الأولى تكرست عبر التأييد الصيني الرسمي لسيطرة “جيش ولاية وا المتحدة” على ولاية “شان” شرق ميانمار وسيطرة هذه الميليشيا على مناجم استخراج المعادن النادرة في المنطقة.
وحسب مصادر في المنطقة فإنّ المناجم الواقعة في المنطقة يتم تشغيلها من قبل عمال صينيين بحماية مباشرة من متمردي “جيش ولاية وا».
ويضم “جيش ولاية وا”، ما بين 30 إلى 35 ألف مسلح، ويبسط حاليًّا سيطرته الكاملة على مناطق شاسعة من شرق ميانمار.
أمّا النقطة الثانية، فهي إيجاد قنوات اتصال غير رسمية مع متمردي “جيش استقلال كاشيد”، حيث تكشف مصادر ميدانية موثوقة أنّ حركة التوريد إلى الصين لم تنقطع، مع التسليم بأنها تضررت وانخفضت بشكل ملحوظ.
وتورد هذه الجهات الميدانية – المتمركزة على الحدود بين البلدين- أنّ ما يقرب من 5000 طن من المعادن النادرة عبرت إلى الصين خلال منتصف أبريل- نيسان الفارط؛ ما قد يؤشر على توصل الطرفين إلى اتفاق غير رسمي لتواصل الإمداد في مقابل عدم التدخل العسكري الصيني المباشر في تلك المنطقة أو عدم تحريض الأطراف السياسية والعسكرية المؤيدة لبكين بقوة ضده.
فيما تتجسد النقطة الثالثة في البحث الصيني عن بدائل أخرى، وهو ما شرعت فيه بكين بشكل حثيث مع ماليزيا ولاوس، حيث أقيمت مشاريع بمشاركة صينية قوية، عقب اكتشاف رواسب للمعادن النادرة.
هكذا هو المشهد الحالي في ميانمار، مع تواصل استمرار الصين في الإمساك بخيوط اللعبة وفي الهيمنة على كافة سلاسل المعادن النادرة استخراجًا وتعدينًا وتصديرًا وتوريدًا، وفيما لا تزال واشنطن تبحث عن نقطة ضعف لكسر هذه الهيمنة، فإنّ الهدنة التجارية بين العملاقين الكبيرين الأمريكي والصيني لا تزال قائمة والحرب التجارية البادرة لا تزال أيضًا مستمرة.