يريد ضمان سلامة بلاده:

أوكرانيا، حرب فلاديمير بوتين المعلنة...!

أوكرانيا، حرب فلاديمير بوتين المعلنة...!

-- يشير بوتين إلى تعهد يُزعم أن الأمريكيين قطعوه شفهياً في سياق المفاوضات حول وحدة ألمانيا عام 1990 بعدم توسيع الناتو مستقبلا
-- الآفاق التي يفتحها الهجوم الدبلوماسي الروسي على أوكرانيــا مؤســفة وقــد تكون دراماتيكيـة
-- ما الذي يمكن أن يخدمه الخيار العسكري في هذا الأمر؟
-- رهانات مفاوضات جنيف  ضخمة، وحظوظ النجاح منخفضة
-- في الأزمة الحالية، يتحمل الناتو مسؤولية مهمة، تتمثل في التلويح لأوكرانيا باحتمال عضوية غير واقعية بقدر ما هي خطيرة


   في العاشر من يناير، بدأ المفاوضون الروس والأمريكان في جنيف محادثات حول الاستقرار الاستراتيجي، بعد مكالمتين هاتفيتين بين فلاديمير بوتين وجو بايدن، في 7 و30 ديسمبر. ويأتي إجراء هذه المحادثات ردًا على سلسلة من الشكاوى الخبيثة من روسيا بشأن مسألة أوكرانيا وسياسة الغرب تجاهها، مصحوبة بتركيز للقوات الروسية على حدود أوكرانيا مع تلويح روسيا باللجوء إلى القوة إذا لم تتم الاستجابة لمطالبها. الإعلان عن هذه المحادثات استقبل بارتياح بشكل عام، حيث بدت انها من النوع الذي يرضي روسيا ويجنّب تدخلا مسلحا من جانبها.    سبق أن شهدنا سلسلة من المواقف الروسية التي امتدت من يوليو إلى ديسمبر 2021. وهي تحمل البصمة الشخصية لفلاديمير بوتين، وتشكل نظرة متماسكة لرؤيته للمشكلة والطريقة التي يقترح بها حلّها. لذلك من المهم تحليلها بعناية.    يؤدي هذا الفحص إلى نتيجة مثيرة للقلق: تعتبر روسيا نفسها، فيما يتعلق بالمسألة الأوكرانية، وبشكل عام فيما يتعلق بتنظيم الأمن الأوروبي، ضحية لمشروع عدائي متعدد الأوجه من جانب الغرب؛ هذا المشروع، الذي في قلبه تقدّم حلف شمال الأطلسي بكافة أشكاله في أوكرانيا. لكنها لا تكتفي بذلك، يجب أن يتوقف هذا المشروع؛ وأن تحصل روسيا على ضمانة قانونية بأنه سينتهي، وأن يتم معها تحديد نظام أمني متزن في أوروبا؛ وإذا لم يرضها الغرب بسرعة، فلن يكون أمام روسيا خيار آخر سوى اتخاذ إجراءات فنية عسكرية لتصحيح الوضع الظالم الذي تواجهه.   افتتحت هذه الحلقة في 13 يوليو بعرض تاريخي سياسي للمشكلة الأوكرانية في مقال طويل بقلم فلاديمير بوتين بعنوان “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”. طوّر فيه فكرة أن شعبا واحدا وجد نفسه مقسّما إلى ثلاثة كيانات، روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، مدافعا عن قضية وحدتهم التاريخية واللغوية والحضارية.

تزايد المظالم
   إلى جانب المزايا الجوهرية لهذه الأطروحة التي تستحق المناقشة، فإن ما يجب تذكره لتحليل الأزمة الحالية هو فكرة بسيطة. بالنسبة للرئيس الروسي، لطالما شجعت القوى الأجنبية هذا الانقسام: الإمبريالية النمساوية وبولندا وألمانيا النازية بالأمس، والغرب منذ تفكك الاتحاد السوفياتي. لا يوجد نزاع روسي أوكراني، ولا مشكلة أساسية حقيقية تفرق بين البلدين، ان أمريكا الشمالية وحلفائها هم السبب الوحيد للمشكلة اليوم.
   فهؤلاء، بحسب فلاديمير بوتين، يعملون بنشاط وإصرار لفصل أوكرانيا عن روسيا؛ لقد فعلوا ذلك عام 2014 بإثارة ثورة الميدان؛ واستمروا، رغم انتخاب فولوديمير زيلينسكي عام 2019: “لقد أنشأ المؤلفون الغربيون للمشروع نظاما سياسيا أوكرانيا ‘مناهضا لروسيا’ بطريقة تجعل الرؤساء، والنواب، والوزراء، يتغيرون لكن مع توجه دائم نحو الانفصال عن روسيا، نحو العداء معها «.    قام بوتين، في 18 نوفمبر، بتوسيع شكاواه أمام مؤتمر وزارة الخارجية في موسكو، وهي الحلقة التي فتحت التتابع السريع للتدخلات والاقتراحات الروسية، والتي بلغت ذروتها في مؤتمره الصحفي التقليدي نهاية العام، 23 ديسمبر.
   وفي 18 نوفمبر، دعا إلى إنهاء نشر “الصواريخ” و”القوات” بالقرب من روسيا، داعيا إلى “ضمانات جادة طويلة المدى لضمان أمن روسيا”، ومعربا عن أسفه لأن الحكومة الأوكرانية لم تنفذ اتفاقيات مينسك، وهي الأساس الوحيد لحل مشكلة دونباس، وأن فرنسا وألمانيا، اللتان تشاركان في رعاية المفاوضات، سمحتا بذلك.    في الأول من ديسمبر، في خطاب مقتضب في حفل تسليم أوراق اعتماد، وضّح مطالبه بالإشارة إلى أن روسيا تريد الحصول من الولايات المتحدة وحلفائها على “اتفاقيات ملموسة تستبعد أي توسّع إضافي لحلف شمال الأطلسي شرقا، وكذلك نشر أنظمة أسلحة تهديدية بالقرب من الأراضي الروسية “. ثم أضاف: “أود أن أؤكد أننا بحاجة إلى ضمانات قانونية دقيقة، لأن شركاءنا الغربيين لم يفوا بالوعود الشفوية التي قطعوها لنا».     ويحيل بوتين هنا إلى تعهد يُزعم أن الأمريكيين قطعوه شفهياً في سياق المفاوضات حول وحدة ألمانيا عام 1990 بعدم توسيع الناتو في المستقبل. ومن الواضح أنه لم يكن هناك مثل هذا الالتزام الصريح في ذلك الوقت، عندما كان حلف وارسو لا يزال قائماً، ولا أحد يفكر حينها في توسيع الناتو.    في المقابل، نصت تسوية معاهدة الوحدة الألمانية على ألا تمتد البنية التحتية لحلف الناتو والأسلحة النووية والقوات المتمركزة إلى أراضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، وهي طريقة للدلالة على أن الحلف لن يستغل الفراغ الذي خلفه الانسحاب السوفياتي. ويمكن للروس أن يقولوا، وبحق، إن توسيع الناتو لم يتوافق مع روح لوائح عام 1990، لكنه لم يخالف التزامًا غربيًا.

معاهدتان للتهدئة
    في 17 ديسمبر، أعلنت الخارجية الروسية عن مسودتي معاهدتين تتوافقان مع الضمانات المذكورة. الأولى، بعنوان “اتفاقية بشأن تدابير ضمان أمن الاتحاد الروسي والدول الأعضاء في الناتو”، تشير إلى مبادئ الأمن العامة وتنص بشكل أساسي على أن الدول التي كانت أعضاء في حلف الناتو قبل توسيعه عام 1997 تتعهد بعدم نشر قوات أو أسلحة على أراضي دول أخرى في أوروبا، وأن تمتنع جميع الأطراف في المعاهدة عن نشر الصواريخ في مناطق تسمح لها بالوصول إلى أراضي الأطراف الأخرى، وأن يتخلى أعضاء الناتو عن أي توسّع إضافي لحلف الناتو “بما في ذلك أوكرانيا أو أي دولة أخرى».
   والثانية هي “معاهدة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن الضمانات الأمنية”. وسيتم التأكيد فيها على مبادئ “الأمن غير القابل للتجزئة والمتساوي وغير المنقوص”. وسوف تتعهد الولايات المتحدة بعدم توسيع الناتو، وعدم إقامة قاعدة على أراضي الدول التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفياتي ولم تكن أعضاء في الناتو، ولن تحافظ على التعاون العسكري معها. كما يتعهد الطرفان بمراعاة مختلف القيود المفروضة على نشر الأسلحة، وعلى وجه الخصوص، عدم نشر أسلحة نووية خارج حدودهما.
   في 23، خلال مؤتمره الصحفي السنوي، لم ينف بوتين تحليله للوضع: قادة أوكرانيا لا ينفذون اتفاقيات مينسك، ويجب على روسيا الاستعداد لحماية الروس في دونباس في حال سعوا لتسوية الأمر بالقوة. في نفس الوقت، “محاولة خلق نوع من مناهضة روسيا في هذه المناطق من خلال تكديس أحدث الأسلحة وغسل عقول السكان المحليين. “...” كيف يتعين على روسيا التعامل مع كل هذا؟ هل يجب أن نكون دائمًا متيقظين، ونراقب ما يجري هناك ومتى قد يأتي الهجوم؟».
   وفي إشارة إلى المناقشات الجارية مع الأمريكيين، وصف ردهم بأنه “إيجابي للغاية”، لكنه أشار إلى أن روسيا “تحدثت بوضوح وبشكل مباشر ضد أي توسع شرقي للناتو... الكرة في ملعبهم... عليهم الرد بطريقة أو بأخرى”. وتابع: “كان على الغرب أن ينظر إلى روسيا كحليف محتمل وأن يعززها، لكنهم فعلوا العكس وسعى إلى تفتيتها أكثر. ثم بدأوا في توسيع الناتو شرقا. قلنا لهم ألا يفعلوا ذلك، بحجة أنهم وعدونا بعدم القيام بذلك. قالوا لنا: ‘هل لديكم أثر ورقي؟ لا، ابتعدوا، نحن لا نهتم بمخاوفكم’. ثم استمروا، عامًا بعد عام، في كل مرة نكشف عن أسناننا، نحاول منع ذلك، نعبّر عن مخاوفنا. لكن لا، لم يرغبوا في سماع أي شيء، قائلين إنهم سيفعلون ما يرون أنه ضروري. كانت هناك موجات توسيع واحدة، اثنتان، ثلاث، أربع، خمس. ما الذي لا يفهمونه؟ لا أعرف. يمكنكم القول إنه واضح للغاية، أعتقد اعتقادا راسخا أن الأمر واضح كالنهار: نريد ضمان سلامتنا «.
بوتين في سبع نقاط
   من هذا التسلسل لمواقف فلاديمير بوتين، يمكننا الاحتفاظ بعدة نقاط.
• يتصرف بوتين بعاطفة واضحة وبإحساس من ينجز مهمة تاريخية
   مطالب بوتين تتنزّل في رؤية تاريخية: تاريخ فريد حيث يصطدم الشعب الروسي، بعداء العالم الخارجي، ووجد في نفسه الموارد اللازمة للبقاء قوة عظمى. الانقسامات الداخلية والأخطاء وحتى الجرائم التي يتخللها التاريخ الروسي، يفضّل التقليل منها أو تجاهلها.    وهكذا، في مقاله حول وحدة أوكرانيا وروسيا، اعترف بخطأ الاتحاد السوفياتي، المتمثل في توسيع حدود أوكرانيا إلى الأراضي الروسية، و “خلق دولة غير موجودة”؛ ولم يذكر المجاعة الكبرى التي نظمها ستالين عام 1932، وكأن تلك المأساة لا أهمية لها في تاريخ العلاقات بين روسيا وأوكرانيا. وبهذا المعنى، فإن تصادف التوتر المتزايد حول أوكرانيا والحظر المفروض على ميموريال ليس من قبيل الصدفة.
   من جهة اخرى، الشخص الذي يشير إليه المتملقون الذين يملؤون وسائل الإعلام ويدينون له بالولاء، على أنه “موحد الأراضي الروسية” -كان لقب ديمتري الاول دونسكوي، أمير موسكو، الذي اجبر التتار على التراجع في القرن الرابع عشر –ينظر، بعد جورجيا وشبه جزيرة القرم، الى أوكرانيا كمهمة يجب إنجازها، حتى لا يسمح لغير المقبول بالاستقرار هناك: أوكرانيا المستقلة تماما، والمنفتحة على النفوذ الغربي، والتي ستبتعد عن روسيا. وتثير في هذا المعنى بعض المبادرات، مثل قانون اللغة لعام 2019 الذي يهدف إلى تشجيع استخدام اللغة الأوكرانية على حساب اللغة الروسية، سخطه. وفي مواجهة القادة الأوكرانيين، بدأ صبره ينفد.

• الموضوع لم يعد دونباس ، وانما أوكرانيا
   يمكن الاعتقاد أن الوضع القائم يخدم مصالح الروس الذين لم يعودوا يتحملون ذلك. كانوا يأملون في أن الجانب السياسي لاتفاقيات مينسك -التي تنص بشكل خاص على حكم ذاتي واسع لدونباس، بما في ذلك الشرطة والقضاء، وتعديل الدستور الأوكراني بالمعنى الفيدرالي -من شأنه أن يمنحهم نفوذًا دائمًا على اختيارات أوكرانيا.
   الا ان كييف تلعب الوقت، وقد فشل رعاة عملية مينسك، فرنسا وألمانيا، في التوفيق بين وجهات نظر الأطراف حول تسلسل الإجراءات التي يجب اتخاذها. الخيار موجود لأوكرانيا إعلان دونباس أرضًا محتلة والا تهتمّ بها.    في ظل هذه الظروف، لن تكون رافعة التأثير على كييف التي توقعها الروس، ويخاطر الوقت باللعب ضدهم. كما استنكر الروس في مواقفهم المتخذة في الأشهر الأخيرة مماطلة كييف. لكنهم توقفوا عن المطالبة بتطبيق اتفاقيات مينسك كأولوية. لقد وسعوا الموضوع ليشمل أوكرانيا بأكملها وعلاقتها بالغرب، الذي يلقون باللوم عليه في شلّ عملية مينسك.

• بوتين لا يريد مفاوضات مع كييف ولكن مع الأمريكيين فقط
   عند سؤاله عن مقال بوتين التاريخي في يوليو، أجاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنّ هذا الأخير محظوظً جدًا لأنه يجد الوقت لكتابة مثل هذه المقالات الطويلة، وأنه كان من الأفضل لو استخدم القليل من ذلك للتحدث اليه. وفي مقال مهين ظهر في صحيفة “كوميرسانت” في بداية شهر أكتوبر، كتب الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف -ردًا على تلك المزحة التي لم تعجب؟ - أنه سيكون من غير المجدي بالنسبة لروسيا التحدث إليه، لأنه مجرّد تابع للولايات المتحدة، محذرا زيلينسكي، وهو يهودي، من أن القوى القومية المتحالف معها “سينتهي بها الأمر بخياطة نجمة صفراء على ظهره».
   وبالتالي، فإن رفض زعامة كييف كامل، والروس لا يريدون محاورًا آخر في الشأن الأوكراني غير المحرّض، في نظرهم، على اغتراب أوكرانيا عن روسيا: الولايات المتحدة. وتجاه هذه الاخيرة، فإن خطابات بوتين متناقضة: كما هو الحال في الشجار الأسري، فإن التظلّمات من جميع الأنواع، حقيقية وخيالية، التي تراكمت على مر السنين تظهر فجأة بعنف وفوضى؛ وفي نفس الوقت، يسعى بوتين إلى الحصول على علاقة مع قوة يسعده ان يقف معها الند للند.

• لا يمكن تلبية طلباته
  إذا تمسكنا برسالة مطالب فلاديمير بوتين، فانه لا يمكن تلبيتها: دون تناول جوهرها، فإن الضمانات في شكل معاهدة سيستغرق التفاوض بشأنها شهورًا (بالإضافة إلى فرص عدم تصديقها أبدًا من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي). وبعضها يعود إلى العهد السوفياتي، مثل سحب الأسلحة النووية الأمريكية من أوروبا، يفتح سلسلة كاملة من المشاكل التي لا يمكن التغلب عليها إلا بعد سنوات. والأسلحة الهجومية التي تدعي روسيا أنها موجودة على حدودها وتطلب إزالتها هي لغز: هل هي صواريخ جافلين المحمولة المضادة للدبابات التي كان الأمريكيون قد سلّموها إلى أوكرانيا منذ عام 2017؟    أسلحة الناتو المضادة للصواريخ في رومانيا وبولندا، وهو مشروع سبق ان راجعه أوباما نزولاً في بداية رئاسته كجزء من سياسة “إعادة ضبط” مع روسيا لصالح أنظمة إيجيس المضادة للطائرات؟ فلا جافلين ولا أيجيس اسلحة هجومية. وخاصة، لماذا يجب أن يقدم الغرب ضمانات أمنية أحادية الجانب لروسيا، وما هي الضمانات التي تستعد روسيا لتقديمها في المقابل؟ هذا السؤال الذي طرح خلال المؤتمر الصحفي في 23 ديسمبر أثار غضب بوتين، الذي رد: أعضاء الناتو يضمنون بعضهم البعض، فهم كافون، وليس لدينا ما نقدمه لهم. إجابة تترك السؤال الرئيسي كما هو: هل روسيا مستعدة لقبول استقلال أوكرانيا، وما هي الضمانات التي هي مستعدة لتقديمها في هذا الصدد؟

• مستعجل ومتصلّب وعنيد
    لا يخلو من صراحة، عندما قدم أهدافه إلى مؤتمر وزارة الخارجية الروسية، قال بوتين: “رغم كماماتكم أرى ابتسامات مشككة في عيونكم، كيف يمكن ان نتوقع ذلك من شركائنا، الذين لا يمكن ان نثق فيهم على أقل تقدير؟ لكن علينا المحاولة «.
   ولم يمنع هذا وزير الخارجية سيرجي لافروف من الإصرار على الاستعجال وعدم قابلية المقترحات الروسية للتجزئة: ألا يجرونا بالطول والعرض أو يبدؤون في اختيار الموضوعات، قال اساسا. وكل هذا يميل إلى الإيحاء بان هذه المطالب وضعت لترفض، وإعطاء الروس الذريعة التي يحتاجونها للتدخل عسكريًا في أوكرانيا.

• تمتلك روسيا كل الوسائل للسيطرة على تصعيد عسكري محتمل في أوكرانيا
   يتبادر هذا التفسير إلى الذهن لأن حقيقتين عسكريتين تسيطران على هذه القضية. الأولى هي أن لروسيا تفوق عسكري إقليمي ساحق وما يسمى في المصطلحات الاستراتيجية بالسيطرة على التصعيد: أيا كان الرد العسكري الذي سيعترضها، لديها الوسائل للسيطرة على خصمها في كل مستوى من مستويات التصعيد.
   الحقيقة الثانية، هي أن انتشار القوات الروسية يبدو أنه موجه ليس نحو دونباس، ولكن نحو جزء أكبر بكثير من أوكرانيا، مما يفتح عدة فرضيات: غزو جنوب أوكرانيا لإقامة استمرارية إقليمية بين روسيا وشبه جزيرة القرم؛ استمرار هذه الحركة نحو الغرب لفهم روسيا الجديدة بأكملها، تلك الحافة الجنوبية لأوكرانيا، والتي كان بوتين يأمل عبثًا أن تنتفض في نفس الوقت مع دونباس عام 2014؛ ان لم يكن احتلال كل شرق أوكرانيا حتى نهر الدنيبر، وهذا يعني حتى كييف.
   يضاف إلى ذلك مجهول آخر، وهو الأكثر إثارة للقلق في هذا الملف: ما الذي يمكن ان يخدمه الخيار العسكري في هذه القضية؟ أيا كان السيناريو المختار، الى ماذا يمكن أن يؤدي؟ جزء جديد من أوكرانيا مرتبط بروسيا؟ بأي مشروع سياسي للعلاقات بين روسيا وأوكرانيا وروسيا والغرب، إن لم يكن عداوة لا يمكن اصلاحها بين الأولين، وحرب باردة جديدة بين الأخيرتين؟

• توسع الناتو قد أغضب الروس دون تحسين أمن أوكرانيا
   في الأزمة الحالية، يتحمل الناتو مسؤولية مهمة، تتمثل في تلويحه لأوكرانيا باحتمال عضوية غير واقعية بقدر ما هي خطيرة. عام 2008، في قمة بوخارست، اتخذ قرارًا حكيمًا بعدم الشروع في عملية انضمام دولة لا تتعرض للتهديد، حيث لم تكن لها مصلحة كبيرة ولم يكن لديها الوسائل للدفاع، بينما تمثل مصلحة وجودية تقريبًا لروسيا.    نحن مدينون للدبلوماسية البريطانية بتسوية عرجاء تمثلت في عدم قبول أوكرانيا، مع القول في بيان القمة: “لقد قررنا أن تصبح هذه الدول أعضاء في الناتو”، وهي الصيغة التي استهدفت جورجيا أيضًا. ونتيجة لذلك، كان لدينا أسوأ ما في العالمين: قادة روس، في أحسن الأحوال، يخيفهم هذا الاحتمال حقًا، وفي أسوأ الأحوال يخدمهم، من خلال مساعدتهم على إثارة ذعر الرأي العام الروسي ضد الغرب؛ وهكذا لم تحصل أوكرانيا على حماية أفضل، وحيث توهّم قادتها أنهم سيحصلون على دعم الغرب في حال المواجهة مع الروس.
   واعتبارًا من الأمس، تواجه الدبلوماسية الأمريكية معضلة اما المخاطرة بحرب للدفاع عن حرية أوكرانيا في الانضمام إلى الناتو، بينما ليس لدى الناتو أي نية لممارسة هذا الخيار؛ وإما طمأنة الروس بأن الناتو لن يتم توسيعه ليشمل أوكرانيا؛ وهذا من شأنه أن يستجيب لأكثر المطالب الروسية المفهومة والأكثر أهمية بشكل أساسي، وربما تكون الطريقة الوحيدة لنزع فتيل الأزمة، ولكن في مثل هذه الظروف قد يُنظر إلى هذه البادرة على أنها إذعان للسيطرة الروسية الخانقة على أوكرانيا.
   إن الافاق التي يفتحها الهجوم الدبلوماسي الروسي على أوكرانيا مؤسفة، وقد تكون دراماتيكية. لا شيء جيد سيخرج منه. وهذا يعني أن رهانات مفاوضات جنيف ضخمة، وامكانيات النجاح منخفضة: لقد وضع بوتين كل شيء على الطاولة، و-عن قصد، يمكننا أن نخشى-وضع نفسه في موقف يصعب عليه فيه التراجع. ويمكننا أن نقول لأنفسنا إنه يخادع؛ وحده من يعرف ذلك، لكنه لا يعطي الانطباع، وسيكون من الخطر المراهنة على هذا.
   إن إدارة بايدن، التي أضعفت داخليًا وبسبب الهزيمة الأفغانية، لن يكون لديها هامش للمناورة في مواجهة أولى أزماتها الكبرى. حتى الآن، تمكنت من الجمع بين الحزم، من خلال تهديد روسيا بعقوبات جدية، والانفتاح، مع مفاوضات جنيف. ولا نعرف ما إذا كانت ستتمتع بميزات تمكّنها من إدارتها بنجاح.
يمكن للأوروبيين، أو بالأحرى فرنسا وألمانيا، المساهمة: هذان البلدان كانا الأكثر معارضة لتوسيع الناتو ليشمل أوكرانيا؛ وترعيان عملية مينسك. يمكنهما مساعدة الولايات المتحدة على الخروج من المأزق الذي وضعه فيها الوعد غير المسؤول الصادر عن بيان بودابست، ويمكنهما، بمساعدة الولايات المتحدة، إعادة إطلاق عملية مينسك. هذا إذا تخلصت فرنسا من ولعها بالحسابات السياسوية حول كوفيد والدلالات الرئاسية، وإدراك أننا ربما دخلنا في أخطر أزمة دولية منذ نهاية الحرب الباردة.