القوة البشرية الروسية.. هل تستطيع أوروبا اللحاق بآلة التعبئة التي لا تتوقف؟
في خضم التحذيرات التي تملأ العواصم الأوروبية بأن «الخطر الروسي» بات أقرب من أي وقت مضى، تظهر فجوة صادمة بين ما تفعله موسكو على الأرض، وما تستطيع أوروبا أن تفعله في المقابل. فبينما تستدعي باريس الشباب إلى معسكرات خدمة وطنية جديدة، وتبحث برلين ولندن عن مجندين عبر القطاع الخاص، تمضي روسيا في تعبئة بشرية واسعة النطاق، كأنها آلة لا تهدأ، تستنزف خسائرها ثم تعوضها بأرقام لا يمكن لأوروبا بلوغها حتى في عقد كامل.
منذ ربيع 2025، ارتفعت القوة الروسية المنتشرة في أوكرانيا إلى نحو 623 ألف جندي، وفق قائد الجيش الأوكراني أولكساندر سيرسكي، أي 5 أضعاف ما كان عليه الوضع عند بداية الغزو. هذا التوسع في الخطوط الأمامية يوازيه تضخم في حجم الجيش، حيث تشير تقديرات أوائل 2025 إلى أن إجمالي القوات المسلحة الروسية بلغ ما يقرب من 1.134 مليون جندي، بزيادة 234 ألفاً مقارنة بما قبل الحرب. ورغم الخسائر الروسية الهائلة، التي تتراوح وفق تقديرات أمريكية بين 790 و900 ألف قتيل وجريح منذ بدء الغزو، إلا أن قدرة موسكو على التعويض لا تزال ثابتة؛ إذ تجند نحو 30 ألف عنصر شهرياً لإعادة بناء الوحدات، مع احتياطي تعبئة ضخم يصل في أقصاه إلى 20 مليون شخص، بينهم 5 ملايين تلقوا تدريبا عسكريا في السابق. وتدعم هذه الآلة البشرية ميزانية دفاعية ضخمة، حيث خصصت روسيا 40% من إنفاقها الفيدرالي لعام 2025 للجيش والأمن، وهي نسبة تعادل 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي؛ ما سمح بحسب الأمين العام للناتو مارك روته بإعادة تشكيل القدرات العسكرية والإنتاجية بوتيرة تفوق كل دول الحلف مجتمعة. على الجانب الأوروبي، تبدو الصورة معقدة ومتوترة، ففي نوفمبر- تشرين الثاني 2025، أطلقت فرنسا خطة خدمة وطنية جديدة تمتد 10أشهر، تستهدف شباباً في عمر 18 و19 عاماً، بمرتب شهري لا يقل عن 800 يورو، بهدف تجنيد 3000 مشارك في أول صيف، ثم رفع العدد إلى 10 آلاف سنويًا بحلول 2030، وصولاً إلى 50 ألفاً في 2035. ففي ألمانيا، كشف تقرير حكومي عن شغور 28% من المناصب في صفوف المجندين و20% من مناصب الضباط، وتراجعت القوة البريطانية إلى نحو 73 ألف جندي فقط؛ ما دفع لندن للاعتماد على شركات خاصة لمحاولة سد الفجوة في التجنيد. أما في شرق القارة، فقد أعادت كرواتيا التجنيد الإجباري للشباب في سن الـ 18، مع توفير بدائل مدنية للمعترضين، فيما أعلن رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك أن بلاده تعمل على وضع نموذج تدريبي يمكّن من تجهيز كل ذكر بالغ للحرب بحلول نهاية 2025. كما شاركت بلجيكا في موجة اليقظة، معلنة إرسال رسائل لكل شاب يبلغ 18 عامًا لدعوته إلى الخدمة الطوعية.
ورغم هذا الاستنفار الواسع، تكشف تقديرات مشتركة لمركز بروغل ومعهد كيل أن أوروبا بحاجة إلى نحو 300 ألف جندي إضافي لتعزيز قدراتها الدفاعية الحالية، في وقت يعاني فيه الجيش الأوروبي من فجوات بنيوية وموارد بشرية محدودة.
ورغم توسع برامج الخدمة الوطنية وعودة التجنيد الإجباري في 7 دول منذ 2014، فإن المخرجات تبقى بعيدة تماماً عن وتيرة التعبئة الروسية التي تعتمد على قاعدة بشرية ضخمة وقدرة مالية وعسكرية تسمح بالحفاظ على تدفق ثابت من المقاتلين إلى جبهات القتال.
ومع التحذيرات الأخيرة للناتو من إمكانية تنفيذ روسيا لهجوم على أراضي الحلف خلال 3 إلى 5 سنوات، لم يعد السؤال الآن حول حجم القوة الروسية، بل حول ما إذا كانت أوروبا قادرة على بناء قوة بشرية تقترب ولو جزئيًا من تلك الآلة التي تدور بلا توقف شرق القارة.
وأكد الخبير العسكري، العميد نضال زهوي، أن مقارنة موازين القوى بين روسيا وأوروبا لا يمكن أن تقوم على الأرقام فقط، رغم أهميتها لتقدير حجم القدرات البشرية لكل طرف.
وكشف في تصريح لـ»إرم نيوز» أن فرنسا تمتلك نحو 200 ألف جندي مع 26 ألفًا في الاحتياط، إضافة إلى 185 ألف عنصر في القوات شبه العسكرية، بينما يصل تعداد الجيش الألماني إلى نحو 190 ألفًا مع احتياط ضخم يبلغ 860 ألفًا، وبلغ إجمالي القوات البريطانية، بما فيها الاحتياط، نحو 190 ألفًا فقط.
وأشار زهوي إلى أن روسيا تتفوق عدديًا بشكل واضح، خاصة وأن الجيش يضم نحو مليون ونصف المليون جندي مع 2 مليون في الاحتياط.
وأضاف أن كوريا الشمالية، الحليف العسكري الأقوى لروسيا حالياً، تضم مليونًا و200 ألف جندي و6 ملايين في الاحتياط، وهو ما يشكّل «مفاجأة رقمية» بالنظر لقلة عدد سكانها.
وأوصح العميد زهوي أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي يبلغ نحو 470 مليون نسمة، أي ما يعادل 3 أضعاف سكان روسيا وكوريا الشمالية مجتمعين الذين يبلغ عددهم نحو 170 مليون نسمة.
وشدد زهوي على أن الاعتماد على الأعداد وحدها في الحروب الحديثة «مسألة غير كافية»، إذ يمكن أن تؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة دون تحقيق نتائج حاسمة.
وكشف الخبير العسكري، أن الدول الغربية تعتمد على المتطوعين ولم ترسخ ثقافة الخدمة الإلزامية، وفي الوقت ذاته تستطيع روسيا وكوريا الشمالية تعبئة نسب كبيرة من السكان، إضافة إلى أن المجتمع الروسي «أكثر فتوة» مقارنة بالمجتمعات الأوروبية المتقدمة بالعمر.
وأكد العميد نضال زهوي، أن وحدة القرار الروسي تمثل عاملا أساسيا يزيد من فعالية العمل العسكري، مقارنة بـ 10دول أوروبية تتخذ قرارات متباينة، ويضيف الدعم المباشر من كوريا الشمالية قوة إضافية لروسيا على الأرض.
وتابع: «حتى لو ضاعفت أوروبا قواتها عبر تعبئة عامة، فإن انتشارها على مساحة جغرافية واسعة سيجعل معظمها قوات دفاعية موزعة، خاصة أن الجيش الروسي يركز جهده على جبهة واحدة، ما يمنحه أفضلية ميدانية واضحة».
الاستنفار الأوروبي المتأخر
من جانبه، أكد المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، كارزان حميد، أن الاستنفار العسكري الأوروبي جاء متأخرًا مقارنة بما كان يجب فعله منذ ضم روسيا للقرم عام 2014.
وكشف في تصريح لـ»إرم نيوز» أن التكتل يحاول اليوم سد الفجوة بين قواته ونظيرتها الروسية، حيث يضم الجيش الروسي نحو 3.5 مليون فرد، منهم 1.5 مليون في الخدمة الفعلية، مقابل نحو 1.3 مليون في الخدمة لدى الجيوش الأوروبية مجتمعة، إضافة إلى 2.8 مليون في الاحتياط.
وأشار حميد إلى أن التاريخ أثبت أن نقص الأعداد وحده لا يغير المعادلة إلا إذا تبعته خطة محكمة أو إستراتيجية واضحة، لافتًا إلى أن ذلك ظهر بوضوح في الميدان الأوكراني، حيث يقاتل الجيش الروسي الجيش الأوكراني مدعومًا من الناتو وحلفائه، لكن القوات الأوكرانية لم تتمكن من الدفاع عن أراضيها بشكل فعال.
وأوضح الخبير في الشؤون الأوروبية، أن موسكو بدأت تتأقلم مع الحرب الطويلة، فانتقلت من الهجوم السريع إلى سياسة الاستنزاف البطيء للقوات الأوكرانية؛ ما يغير شكل المعركة وطبيعة التهديد.
وأكد أن بروكسل غير قادرة على تشكيل قوة موحدة بسبب سياساتها المعقدة والخلافات بين الدول الأعضاء حول القيادة، والإنفاق، والتسليح، وهو ما يعكس صعوبة اتخاذ قرارات عسكرية حاسمة.
ولفت كارزان حميد إلى أن أوروبا تواجه تحديات أخرى، مثل: ضعف الولاء للوطن والقيادة السياسية، واختلاف العقلية عن روسيا، إذ إن التجنيد الطوعي أو الإلزامي لا يسير بسلاسة، وجيل كامل يرفض المشاركة في الحروب أو التدخلات الخارجية.
وأشار المحلل السياسي إلى أن أوروبا ستعيد التجنيد الإلزامي وربما توسع الفئات العمرية المشمولة به، بهدف إعادة هيكلة القدرات العسكرية وإعداد الرأي العام.
وأوضح أن الهدف الأوروبي ليس مواجهة روسيا فقط، بل يشمل «الجيش الصيني النائم»، الذي يمتلك قدرات بشرية وتكنولوجية هائلة، متسائلاً عن احتمال تدخل بكين لصالح روسيا في أوكرانيا.
وأضاف أن مشروع الاتحاد الأوروبي يسعى اليوم لإكمال سيادته بقدرة عسكرية موحدة، لكنه يواجه تأخرًا كبيرًا بسبب ازدواجية المعايير وانتقائية القرارات