خطآن كبيران من أهم إنجازاتها:

تقييم المستشارة أنجيلا ميركل مبالغ فيه...؟

تقييم المستشارة أنجيلا ميركل مبالغ فيه...؟

-- في أوروبا، سيطرت بشكل واضح على المناقشات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى نقص المنافسة
-- قضت خمسة عشر عامًا في السلطة دون أن تترك وراءها أي إصلاح اقتصادي كبير
-- استقبالها للمهاجرين أكد أن الشجاعة والتعاطف مع من هم في محنة لا تثمر سياسيًا
-- قد يربط المؤرخون الاقتصاديون يومًا بين قرارها إغلاق جميع محطات الطاقة النووية والتدهور الاقتصادي في ألمانيا


هل لطول عمرها السياسي، أو الكاريزما التي لا يمكن إنكارها، أو هيمنتها على المشهد الأوروبي أو استقرار إدارتها للأعمال؟ كل هذا وأكثر، بلا شك. ولكن عندما يتعلق الأمر بالمسائل الاقتصادية، فإن الاستقرار كان إلى حد كبير مرادفًا للجمود، وسجلها مخيّب للآمال إلى حد ما.
  إنجازها الأكثر إثارة، هما خطآن كبيران: الأول، قرارها إغلاق جميع محطات الطاقة النووية الألمانية بعد كارثة فوكوشيما.

ففي مواجهة الاحتباس الحراري، يعتبر ذلك من الأخطاء التاريخية. تعدّ الطاقة النووية من أكثر الوسائل فعالية لتوليد الكهرباء على نطاق واسع دون انبعاث ثاني أكسيد الكربون. وتعتبر الألواح الشمسية وتوربينات الرياح طريفة ولكنها تستهلك مساحة كبيرة، وتوليدها للطاقة غير منتظم، ويبدو أنه من المستحيل أن تحل محل الوقود الأحفوري لتلبية احتياجات الطاقة المتزايدة.
    على المدى القصير، استبدلت ألمانيا الطاقة النووية بالفحم، وهو أسوأ مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وللمستقبل، ستعتمد ألمانيا على محطات توليد الطاقة التي تعمل بالغاز، والتي تنتج أيضًا ثاني أكسيد الكربون في كل من الموقع ومكان استخراج الغاز. وستواصل ألمانيا استيراد الكهرباء وتحويل تلوث الهواء إلى الدول المجاورة. ونتيجة لذلك، سيتعين عليها أن تدفع أكثر من منافسيها مقابل الكهرباء التي ستحتاجها لتصنيع سياراتها وآلاتها، وعلى نطاق أوسع، الإنتاج الصناعي والكيميائي الذي بنت عليه ازدهارها.

    كانت كارثة فوكوشيما نتيجة برمجة متسرّعة وغير متقنة وإشراف سطحي وافتقار قاس للاستعداد. وكان من الأسهل والأقل كلفة التأكد من أن هذه الإجراءات في حالة عمل جيدة. وقد يربط المؤرخون الاقتصاديون يومًا ما بين هذا القرار المؤسف، والتدهور الاقتصادي في ألمانيا.
    الإجراء الرئيسي الآخر، هو اتخاذ قرار عام 2015 بفتح الحدود أمام المهاجرين. لقد كان درسًا جيدًا في النزعة الإنسانية اعطته لنظرائها الخائفين، وكان هذا منطقًا اقتصاديًا جيدًا، حيث يعالج العواقب السلبية المتعددة المرتبطة بانخفاض عدد السكان. وفجأة ظهرت ميركل الشجاعة والمتبصّرة، وهي صفات نادراً ما تُرى فيها.

   للأسف، استمر الحال لفترة قصيرة فقط، وسرعان ما تبيّن أن قرارها كان خطأ سياسيًا فادحًا. ففي ألمانيا، شجّع بقوة على صعود اليمين المتطرف البغيض، وفي أوروبا، فتح نزاعًا مع جيرانها الشرقيين. وبسرعة، كان عليها التراجع. إن الشجاعة والتعاطف مع من هم في محنة لا تؤتي ثمارها سياسيًا، لكننا كنا نعرف ذلك من قبل.

   بخلاف هذين الإجراءين، فهي قضت خمسة عشر عامًا في السلطة دون أن تترك وراءها أي إصلاح اقتصادي كبير. ترجع صحة الاقتصاد الألماني خلال فترة ولايتها اساسا إلى إصلاحات سوق العمل التي لم تكن تحظى بشعبية في ذلك الوقت، والتي تسببت في فقدان سلفها، جيرهارد شرودر السلطة. لقد سمحت لتقشف وزارة المالية ان يرقى بتوازن الميزانية إلى مرتبة العقيدة، وخفّضت الإنفاق على البنية التحتية العامة، وسيتطلب الأمر سنوات لتعويض ما ضاع من وقت.

   في أوروبا، سيطرت بشكل واضح على المناقشات، ويعود ذلك في جانب كبير إلى نقص المنافسة. كانت في القيادة عندما اندلعت الأزمة المالية عام 2008. وقد سمحت لعجز الميزانية بالنمو لامتصاص الصدمة.
 عام لا أكثر. وخفضت العجز الألماني مبكرا، وضغطت على الدول الأوروبية الأخرى لفعل نفس الشيء. نفد زخم الانتعاش الاقتصادي المتواضع، وبذلك، أظهرت عن غير قصد، نقاط ضعف البناء الأوروبي.

   من المعروف أن الاتحاد النقدي لا يمكن أن يعمل بشكل صحيح إذا ظلت الأنظمة المصرفية الوطنية خاضعة لقواعد مختلفة وللرقابة الوطنية التي تهدف دائمًا إلى حماية الشركات المحلية البطلة. وأدت الأزمة في النهاية إلى إنشاء الاتحاد المصرفي. ولكن، حرصًا منها على حماية مصالحها المباشرة، بذلت ألمانيا كل ما في وسعها للحد من مداه. ومنذئذ، تقلص حجم البنوك الألمانية العملاقة، وبقيت شبكة بنوك الادخار الإقليمية غير الفعالة على قيد الحياة، محمية بشكل جيد من المشرفين الأوروبيين.

   وكان معلوما أيضًا، أن قواعد الانضباط المالي المعروفة باسم ميثاق الاستقرار -وهو ابتكار فرضته ألمانيا عام 1997 -كانت خاطئة الى درجة أنها لم تستطع تحقيق أهدافها. لم يكن باستطاعة ألمانيا منع الإصلاح، الا ان أنجيلا ميركل حرصت على أن يكون الإصلاح رمزيًا في الأساس، ويتلخص في إضافة طبقات من القواعد والإجراءات البيروقراطية. ومما لا يثير الدهشة، أن منطقة اليورو سرعان ما وقعت ضحية أزمة الدين العام -التي يُعتقد أنها مخصصة للبلدان النامية -ولركود ثانٍ.

  كان الرد الجماعي على أزمة الدين العام مفجعا. تحت ضغط ألمانيا، اضطرت اليونان إلى خفض عجز ميزانيتها، لتغرق في كساد ذي أبعاد تاريخية. وأدى علاج اليونان إلى موجة معدية من الأزمات داخل منطقة اليورو، وعولجت جميعها بنفس الطريقة مع نفس النتائج، ركود ومعاناة اجتماعية حادة. الميزة الوحيدة لأنجيلا ميركل، هي أنها لم تعارض مقولة “مهما كان الثمن” الشهيرة لماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي. غير ان هذا التدخل، الذي أنهى الأزمة، كان ينبغي أن يحدث قبل ذلك بكثير، في بداية الأزمة. بعد ان عارضت ذلك، تحركت المستشارة الحذرة أخيرًا، لكن بعد فوات الاوان.

   لعبت الأزمتان الأوروبيتان المتتاليتان وقضية الهجرة، دورًا رئيسيًا في صعود المشاعر المعادية لأوروبا والتي أصبحت الآن مؤثرة في كل دولة. وغذى هذا الشعور القرار البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي. عندما بدأت استطلاعات الرأي تشير إلى أن البريكسيت أصبح مرجحًا، قام رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بجولة في العواصم مطالبًا بتنازلات. هل من الممكن منح بريطانيا بعض الاستثناءات من القواعد الأوروبية؟ كان النقاش بين احترام القواعد المعتمدة والبراغماتية، وكان من الممكن أن تلعب ميركل دورًا لصالح البراغماتية، إحدى صفاتها المحمودة... لكنها لم تفعل. كان الرهان هو أن يدرك البريطانيون ذلك، ويصوتون ضد البريكسيت. فشل الرهان وخسر الجميع. لقد تم تحطيم نزاهة الاتحاد الأوروبي، ومعه تم تحطيم فكرة أن أوروبا يجب أن توحّد جميع الدول الديمقراطية. لطالما كانت بريطانيا مختلفة، ولكن كان التحدي دائمًا هو استيعاب التنوع... تحت قيادة ميركل، فشلت أوروبا.

   صحيح أن ألمانيا تجاوزت أزمة كوفيد بشكل أفضل من معظم البلدان الأخرى، والفضل يعود إلى موتي إلى حد كبير، لكن عامين ناجحين لا يمكن أن يعوّضا عن السنوات السابقة.

أستاذ الاقتصاد، معهد الدراسات الدولية العليا والتنمية “جنيف»