سباق قصر الاليزيه:
فرنسا تنحدر برفق نحو انتخاب مارين لوبان...!
-- اختراع «إلغاء الشيطنة» يجعل معارضي التجمع الوطني منتجين مشاركين في تغيير صورة الحزب
-- لقد أصبح التجمع الوطني ناعما تقريبًا مع خطر أن يصبح عديم اللون والرائحة
-- التحدي الذي يواجه مارين لوبان هو الجمع بين اتجاهين، الهوية-الأمنية والشعبوية
-- على مدى عشريّة كاملة، تغيّرت أحزاب اليمين الأوروبي الراديكالي
تقيّم دراسة أجرتها مؤسسة جان جوريس، امكانية فوز مارين لوبان في الجولة الثانية من انتخابات عام 2022. هذه الامكانية موجودة، وتوقّع هذه الفرضية لا يعني التنبؤ بانتصارها، لكن في المقابل، إن تحليل الوقائع والعوامل المختلفة التي تجعلها ممكنة، تستحق الانكباب عليها بعناية.
لقطة من فيلم ريموند ديباردون، “جزء من حملة”، يظهر فاليري جيسكار ديستان وعدد قليل من بارونات الجمهوريين المستقلين مجتمعين في شارع ريفولي في اليوم التالي للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 1974. “إذا لا نرتكب شيئًا، فسيكون الفوز”، يقول بشكل أساسي رئيس الجمهورية المستقبلي. ويمكننا الاعتقاد أن هذا الخيار الاستراتيجي يناسب تمامًا مارين لوبان اليوم. فتاريخ حزبها، كما نموج شركائها الأوروبيين، ربما يحرضان على ذلك، بقدر ما يثيره الوضع السياسي والاجتماعي في فرنسا.
على مدى عشريّة، تغيّرت أحزاب اليمين الأوروبي الراديكالي. بمعنى ما، هذه الأحزاب هي أشكال متحوّرة لما كانت عليه، قبل عشرين أو ثلاثين عامًا، الاحزاب الموجودة في ذلك الوقت.
لفترة طويلة، جلست الجبهة الوطنية في البرلمان الأوروبي، على سبيل المثال، مع أحزاب تعيش على هامش أنظمتها السياسية. كان ذاك هو الحال مع الحركة الاجتماعية الإيطالية (1984-1989) ثم مع حركة إنذار الشعب الأرثوذكسي اليونانية، على وجه الخصوص.
علينا القيام بجولة عبر البلدان الأوروبية الأخرى لنأخذ بمسافة الاتجاهات الرئيسية والسنوات المحورية لليمين الراديكالي في أوروبا والجبهة الوطنية. جميع الأحزاب الأوروبية الصديقة للجبهة الوطنية، تنوي الآن الصعود الى السلطة، وفي الغالب، تقديم تنازلات شكلية أو موضوعية لهذا الغرض، كما اتسمت أيضا بمنهجية. منذ عام 2010، غيّرت تيارات اليمين الأوروبي المتطرفة مقاربتها فيما يتعلق بأزمة 2008-2009 بينما تتفكك مجتمعاتنا، بما في ذلك المجتمع الفرنسي.
تجربة هوفر
دستور النمسا وفرنسا يختلفان. ومع ذلك، ورغم الدور الدستوري المختلف، يتم إجراء الانتخابات الرئاسية بالاقتراع العام المباشر. خلال الانتخابات الرئاسية في النمسا عام 2016، كانت رئاسة الجمهورية مطمعا من قبل حزب الحرية النمساوي، الذي اعتبرها مفتاح الصعود إلى المستشارية. واكد ألكسندر فان دير بيلن، في وقت مبكر، إنه لن يعيّن أبدًا هاينز كريستيان شتراخه، مستشارًا... كان الرهان ضخما.
على عكس فرنسا عام 2021، كانت النمسا جاهزة بشكل أفضل نسبيًا لمواجهة العاصفة الانتخابية التي تلوح في الأفق. في الجولة الأولى، وعلى عكس كل التوقعات، حقق نوربرت هوفر أفضل نتيجة وطنية حصل عليها حزب الحرية النمساوي. شخصية تعتبر “سلسة”، مع لغة مصقولة أكثر، وفجوات أقل وضوحًا من شتراخه، حقق هوفر نتيجة مفاجئة في الجولة الأولى.
في الجولة الثانية، وحده ضد الجميع، لأنه لم يتلق أي دعم إضافي، حصل هوفر على 49 فاصل 7 بالمائة، ثم 46 فاصل 6 بالمائة في الجولة الثانية المنظمة بسبب مخالفات طفيفة نسبيًا. وعلى عكس حزب الحرية النمساوي في عهد هايدر (1980-1990)، خفض حزب الحرية النمساوي ميزانيته المخصصة للاتحادات المحلية والمنظمات المتخصصة. وهذا يعادل القول بأنه اختار استراتيجية ذات بنية صغيرة موجهة نحو التواصل والدعاية. فبالتخلي عن الرغبة في أن يكون “فولكس بارتي” (حزب الشعب) مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي وحزب الشعب النمساوي، اقترب حزب الحرية النمساوي من الفوز في الانتخابات الرئاسية لعام 2016.
نفس الشيء ينطبق على الجبهة الوطنية، التي أصبحت، التجمع الوطني. في حين كانت استراتيجية التسعينات تقضي بتكاثر الدوائر الوطنية، وكان الجزء الأول من سنوات 2010 هو تنظيم التجمعات في المجموعات الاجتماعية والمهنية التي كانت مترددة حتى ذلك الحين، مثل المعلمين، يبدو أن التجمع الوطني يركز الآن على الانتخابات الرئاسية وحدها، وتسخير موارده في قمّة الحزب.
لوبان، سالفيني و / أو غريللو؟
العلاقة التي يحافظ عليها الفرنسيون مع المستقبل، تتوافق مع علاقة الإيطاليين. وكثيرا ما يقال إن الظواهر السياسية والاجتماعية التي تحدث في إيطاليا تسبق ظهورها المتطابق في فرنسا بخطوة واحدة. وإذا كان لا بد من إجراء مقارنة مع الحياة السياسية، فيمكننا أن نقول بأمان، أن المعادلة اللوبينية الجديدة تتوافق مع الرابطة، وفراتلي دي إيطاليا (ما بعد الفاشية) وجزء يميني من حركة 5 نجوم. جرعة تختلط فيها الهوية والشعبوية، وانتقاد الهجرة، والانفتاح بالنقد الديمقراطي لباريس وبروكسل. يقدم مجتمعانا سمات متشابهة ويسلطان الضوء على امكانات ونتائج متشابهة أكثر منها جوهرية لمختلف التشكيلات اليمينية أو الشعبوية الراديكالية.
عام 2018، بدا يسار الوسط هو الخاسر الأكبر في الاقتراع. تصدرت الرابطة الائتلاف اليميني، وحصلت حركة 5 نجوم على أكثر من 32 بالمائة، وفي النهاية، شكلت الرابطة وحركة 5 نجوم حكومة ائتلافية.
قبل بضع سنوات، كان مثل هذا التحالف غير وارد، وكان ذلك فقط لأن الأحزاب المهيمنة في الجمهورية الثانية – الحزب الديمقراطي وفورزا إيطاليا -خضعت للقيود المالية المرتبطة بإطار عمل الاتحاد الأوروبي. وكما هو الحال غالبًا في الحياة السياسية والبرلمانية الإيطالية، لم يدم تحالف حركة 5 نجوم / الرابطة، وسقطت حكومة كونتي. وأدى ظهور ماريو دراغي، كرئيس لحكومة تضمّ الرابطة، إلى فسح المجال أمام حزب فراتلي دي إيطاليا، الحزب اليميني الراديكالي الآخر.
مارين لوبان تتخلى
عن “البلشفية البيضاء «
في إيطاليا ثلاثينات القرن الماضي، كان هناك مسؤولون عن النظام يخشون التطور نحو “البلشفية البيضاء” لهذا الأخير، أي نحو شكل من أشكال التعاضد القومي. نتذكر الانتقادات الصادرة عن “اليمين خارج الجدران”، وشخصيات مثل عمدة بيزييه، أو إريك زمور، الذي لم يتردد في ان يرى مارين لوبان امرأة “من اليسار”. ثم التفت حول ماريون ماريشال لوبان زمرة مؤثرة من المثقفين أو المناضلين من أقصى اليمين أو من اليمين المتطرف، للتعبير عن غضبهم لانحراف مارين لوبان “إلى اليسار».
لم يدفع فلوريان فيليبو، فقط، ثمن سمعته الزائفة باعتباره “رجل يسار” (التي اكتسبها من خلال تأكيدات كاذبة عن ماضيه مع حركة شوفنمان)، ولكن أيضًا ثمن خط “السيادية المتكاملة”، الذي ضخه في التجمع الوطني، ويرفضه على وجه الخصوص جمهور الناخبين الشعبيين الحريصين على عدم دفع فاتورة العواقب المباشرة لترك اليورو، وجزء من اليمين المتطرف الحريص على الدفاع عن الحضارة الأوروبية -إن لم يكن الغرب.
كان على التجمع الوطني تدوير برنامجه الأوروبي حتى لا يصطدم مباشرة بجدار المال والإنفاق العام. لقد أدركت مارين لوبان -أو تم إقناعها -بضرورة تخفيف حدة الانتقادات الاقتصادية والأوروبية المتوقعة ضد برنامجها، ولا سيما خلال حملة الجولة الثانية. فبالنسبة لجزء من اليمين الراديكالي، ليست التظاهرات اليسارية هي التي يمكن أن تضر بالتجمع الوطني واليمين الراديكالي، وانما هي سلسلة من التصريحات المحمومة من البنك المركزي الأوروبي أو صندوق النقد الدولي أو الشركاء الأوروبيين ... ويستحق الاليزيه إقامة قداس للأرثوذكسية المالية.
ويمكن ان نلاحظ أن الرهان بالنسبة لمارين لوبان، هو جمع اتجاهين، الهوية -الأمنية والشعبوية، مع طمأنة الناخبين الأكبر سنًا والمعتدلين، مع تحفيز الناخبين المنضبطين، قد ينخرطون في حركة احتجاجية محتملة، وتبنوا خطبها الأخيرة. ان الطريق إلى الإليزيه مزروع بالمزالق.
التجمع الوطني، عالم
الصمت أو استراتيجية الحرباء
بالإمكان أن نفكر في أنه قد طُلب من حزب التجمع الوطني أن يتعهد بالصمت في انتظار تولي مرشحته. في الواقع، لم يعد هناك، الرجل الثاني، في الحزب. لعقود من الزمان، كما أحسن روايته جوزيف بوريغارد ونيكولا ليبورغ جيدًا وحلّلاه في كتاب “في ظل ال لوبان”، قام هذا الصنف من الرجل عند لوبان ببناء الجهاز ولكنهم غالبًا ما يختفون بسرعة.
القالب الأصلي لـ “الجبهة الوطنية” يعود لفرانسوا دوبرا، وبناء الحزب تمّ من قبل جان بيير ستيربوا، وإضفاء الحرفية والدقة الأيديولوجية كانت من قبل برونو ميغريه ... بعد رحيل فلوريان فيليبو، أسدل الستار على عصر الرجل الثاني. وعلى غرار حزب الحرية النمساوي، إن التجمع الوطني هو هيكل منحسر، يتقدم من خلال الصورة والإعلام، أكثر من حشد “الجنود السياسيين».
إن اختراع “الغاء الشيطنة”، ضربة عبقرية... إنه يجعل من معارضي التجمع الوطني منتجين مشاركين في تغيير صورة الحزب. ويظهر شكل من أشكال الحوار السريالي عندما يطالب معارضون سياسيون وصحف يسارية وما إلى ذلك، من المكتب السياسي لـ “التجمع الوطني” استبعاد هذا او ذاك من الحزب. انهم صنّاع رغم انفهم لـ “الغاء الشيطنة” هذه. ولا يزال هناك معارضون لحزب التجمع الوطني يأسفون لذلك بشدة. ان المشاجرات البيزنطية حول ما إذا كان التجمع الوطني لا يزال هو الشيطان، أم أن هذا الأخير قد تركه، تمنح هذا المغنم للحزب: الرد على مواقفه بدلاً من صياغة وتقديم حلوله لمشاكل الزمن الحاضر.
قبل ثلاثين عامًا، كان من الممكن أن يتصدر ترشّح الجبهة الوطنية لانتخابات كانتون بسيطة، عناوين الأخبار. ويتذكر البعض انتخابات كانتون فيلوربان عام 1990 والتي ترشح لها بيير فيال، الأمر الذي أثار نصيبا من ردود الفعل الوطنية والتغطية الصحفية غير العادية لانتخابات من هذا النوع. وتجدر الإشارة الى أن المرشح فيال، أستاذ تاريخ العصور الوسطى في ليون 3، وثني معلن، ومؤسس حركة الأرض والشعب، كانت له طريقة لتحية الجمهور من منصة الاجتماعات تركت الناس حذرين. ومن الصعب في الوقت الحاضر العثور على شخصيات كبريتية مثل فيال أو برنارد أنتوني أو كارل لانغ، الذين، كل منهم بطريقته الخاصة، بالكاد يمكن المراهنة على جانبهم المطمئن.
ولأول مرة منذ عام 1995، تفوز الجبهة الوطنية / التجمع الوطني، بمدينة يزيد عدد سكانها عن 100 ألف نسمة. قبل خمسة وعشرين عامًا، أدت الانتصارات في طولون وأورانج ومارينيان ثم فيتروليس، إلى حدوث “زوبعة” جديدة بعد فوز درو.
هذه المرة، لا شيء. ويبقى القرار الأكثر رمزية الذي اتخذه لويس أليوت، عمدة بربينيان الجديد، هو إعادة فتح المتاحف. ويتناقض هذا مع صورة السياسة الثقافية للجبهة الوطنية، والتي كان معرض كتاب تولون (الذي يديره حينها سيرج دي بيكيتش) عرضًا سلبيًا.
خلال التسعينات، كانت هناك صحافة يمينية متطرفة، منها ريفارول، وبريزان، ومينوت، التي لا تزال موجودة، وصحف أخرى لم تعد موجودة (الفرنسي، التحالف الشعبي، بيريه باقات). وبينما تجتذب المواقع اليمينية المتطرفة العديد من المتعاطفين مع الجبهة الوطنية، لم تستفد الصحافة اليمينية المتطرفة من الازدهار في تصويت الجبهة الوطنية / التجمع الوطني. ويهرب المتعاطفون من جيروم بوربون، ولا يهتمون بمقالات “بريزان».
عام 1997، كان مؤتمر الجبهة الوطنية في ستراسبورغ كافياً في حد ذاته لتعبئة عالم الثقافة واليسار وموكب كبير من عشرات الآلاف من الناس في عطلة عيد الفصح في عاصمة ألزاسية فارغة ومحلات مغلقة. لا تجتذب اجتماعات التجمع الوطني أي متظاهرين مضادين، ولا تقدم المؤتمرات أي مضامين على لوحات اشهارية عملاقة.
لقد أصبح التجمع الوطني ناعما تقريبًا مع خطر أن يصبح عديم اللون والرائحة. وإن تغيير شعاره، من شعلة الحركة الاجتماعية الإيطالية إلى شعلة منمقة، هو رمز مضاعف: ابتعاد جمالي عن الأصول، واعتماد شعار، رغم انه ليس براقا، لا يثير تراكيب ملصقات عنيفة.
اختيارات التجمّع التذكارية باروكية، وغالبًا ما تتعارض مع تلك التي كانت موجودة قبل ثلاثين عامًا: بحارة إيل دي سين، الجنرال ديغول، ملصقات تستحضر جان جوريس ... هنا مرة أخرى، ابتكر حزب الحرية النمساوي من خلال تقديم موسيقى راب اعتذارية ليوبولد فيجل، بطل نمساوي، ومرحّل سابق إلى ماوتهاوزن، وأول مستشار ما بعد الحرب، للترويج لقائمته في الانتخابات الأوروبية. وطني كاثوليكي نمساوي مرحّل إلى ماوتهاوزن للدفاع عن مواقف حزب له جذور قومية ألمانية ... يجب التفكير في ذلك.
أخف جهاز سياسي
توفي اليوم، تقريبًا، جميع مؤسسي الجبهة الوطنية عام 1972. وترك الجيل التالي، في الغالب، الحزب أو يعيش على هامشه، مثل جان إيف لو جالو. ولم تعد الانقسامات التي حدثت خلال العشرين عامًا الماضية موجودة سياسيًا وأخذت معها حرس لوبان القديم الذي، من خلال ترك الجبهة الوطنية، يعتز مع المؤسس بالتسوية القومية التي كانت سائدة زمان. وبالمثل، لم نعد نصادف نفس الألقاب التي كانت موجودة قبل عشرين أو ثلاثين عامًا: ليديو ، سابياني ، هنريو ، مالاغوتي ، من بين آخرين.
الشخصيات الحزبية المطروحة في الواجهة هي وزير سابق من التجمع من أجل الجمهورية، ونائب سابق وقاضي سابق من التجمع من أجل الجمهورية. ومن الواضح أن هذا يعزز الانطباع عن الكفاءة السيادية لـ “التجمع الوطني”، ومحامي قدير كان يُنظر إليه سابقًا على أنه من يسار الوسط، وعمدة مدينة كبيرة يكرهها المعادون للسامية، إلخ. ويمكن أن يذكّر اسم “التجمع الوطني” بالانفتاح عام 1986 أمام شخصيات مثل أوليفييه دورميسون، وفرانسوا باشلو، وإيفون بريان...
إن التجمع الوطني هو جهاز سياسي خفيف جدًا، أحيانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومثل العديد من شركائه، ألقى بقايا الماضي من شرفته، ويبدي عزمه على أن يكون الوعاء الحكيم لغضب ومطالب بلد يمر بأزمة. وفي هذا المجال، لا يحتاج النقاش السياسي الى نبوءة وتوقعات، وانما يحتاج، في المقابل، إلى الالمام بالعوامل التي ستسمح بانتخاب مارين لوبان رئيسة للجمهورية. ما هو مؤكد، و أنه في الوقت الحالي، تتجه فرنسا برفق نحو هذه النتيجة المحتملة.
عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جان جوريس، باحث في العلوم السياسية، متخصص في اليمين والأبعاد الثقافية للسياسة، ومؤلف العديد من البحوث منها “الى اللقاء غرامشي” (منشورات سارف 2015).
-- لقد أصبح التجمع الوطني ناعما تقريبًا مع خطر أن يصبح عديم اللون والرائحة
-- التحدي الذي يواجه مارين لوبان هو الجمع بين اتجاهين، الهوية-الأمنية والشعبوية
-- على مدى عشريّة كاملة، تغيّرت أحزاب اليمين الأوروبي الراديكالي
تقيّم دراسة أجرتها مؤسسة جان جوريس، امكانية فوز مارين لوبان في الجولة الثانية من انتخابات عام 2022. هذه الامكانية موجودة، وتوقّع هذه الفرضية لا يعني التنبؤ بانتصارها، لكن في المقابل، إن تحليل الوقائع والعوامل المختلفة التي تجعلها ممكنة، تستحق الانكباب عليها بعناية.
لقطة من فيلم ريموند ديباردون، “جزء من حملة”، يظهر فاليري جيسكار ديستان وعدد قليل من بارونات الجمهوريين المستقلين مجتمعين في شارع ريفولي في اليوم التالي للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 1974. “إذا لا نرتكب شيئًا، فسيكون الفوز”، يقول بشكل أساسي رئيس الجمهورية المستقبلي. ويمكننا الاعتقاد أن هذا الخيار الاستراتيجي يناسب تمامًا مارين لوبان اليوم. فتاريخ حزبها، كما نموج شركائها الأوروبيين، ربما يحرضان على ذلك، بقدر ما يثيره الوضع السياسي والاجتماعي في فرنسا.
على مدى عشريّة، تغيّرت أحزاب اليمين الأوروبي الراديكالي. بمعنى ما، هذه الأحزاب هي أشكال متحوّرة لما كانت عليه، قبل عشرين أو ثلاثين عامًا، الاحزاب الموجودة في ذلك الوقت.
لفترة طويلة، جلست الجبهة الوطنية في البرلمان الأوروبي، على سبيل المثال، مع أحزاب تعيش على هامش أنظمتها السياسية. كان ذاك هو الحال مع الحركة الاجتماعية الإيطالية (1984-1989) ثم مع حركة إنذار الشعب الأرثوذكسي اليونانية، على وجه الخصوص.
علينا القيام بجولة عبر البلدان الأوروبية الأخرى لنأخذ بمسافة الاتجاهات الرئيسية والسنوات المحورية لليمين الراديكالي في أوروبا والجبهة الوطنية. جميع الأحزاب الأوروبية الصديقة للجبهة الوطنية، تنوي الآن الصعود الى السلطة، وفي الغالب، تقديم تنازلات شكلية أو موضوعية لهذا الغرض، كما اتسمت أيضا بمنهجية. منذ عام 2010، غيّرت تيارات اليمين الأوروبي المتطرفة مقاربتها فيما يتعلق بأزمة 2008-2009 بينما تتفكك مجتمعاتنا، بما في ذلك المجتمع الفرنسي.
تجربة هوفر
دستور النمسا وفرنسا يختلفان. ومع ذلك، ورغم الدور الدستوري المختلف، يتم إجراء الانتخابات الرئاسية بالاقتراع العام المباشر. خلال الانتخابات الرئاسية في النمسا عام 2016، كانت رئاسة الجمهورية مطمعا من قبل حزب الحرية النمساوي، الذي اعتبرها مفتاح الصعود إلى المستشارية. واكد ألكسندر فان دير بيلن، في وقت مبكر، إنه لن يعيّن أبدًا هاينز كريستيان شتراخه، مستشارًا... كان الرهان ضخما.
على عكس فرنسا عام 2021، كانت النمسا جاهزة بشكل أفضل نسبيًا لمواجهة العاصفة الانتخابية التي تلوح في الأفق. في الجولة الأولى، وعلى عكس كل التوقعات، حقق نوربرت هوفر أفضل نتيجة وطنية حصل عليها حزب الحرية النمساوي. شخصية تعتبر “سلسة”، مع لغة مصقولة أكثر، وفجوات أقل وضوحًا من شتراخه، حقق هوفر نتيجة مفاجئة في الجولة الأولى.
في الجولة الثانية، وحده ضد الجميع، لأنه لم يتلق أي دعم إضافي، حصل هوفر على 49 فاصل 7 بالمائة، ثم 46 فاصل 6 بالمائة في الجولة الثانية المنظمة بسبب مخالفات طفيفة نسبيًا. وعلى عكس حزب الحرية النمساوي في عهد هايدر (1980-1990)، خفض حزب الحرية النمساوي ميزانيته المخصصة للاتحادات المحلية والمنظمات المتخصصة. وهذا يعادل القول بأنه اختار استراتيجية ذات بنية صغيرة موجهة نحو التواصل والدعاية. فبالتخلي عن الرغبة في أن يكون “فولكس بارتي” (حزب الشعب) مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي وحزب الشعب النمساوي، اقترب حزب الحرية النمساوي من الفوز في الانتخابات الرئاسية لعام 2016.
نفس الشيء ينطبق على الجبهة الوطنية، التي أصبحت، التجمع الوطني. في حين كانت استراتيجية التسعينات تقضي بتكاثر الدوائر الوطنية، وكان الجزء الأول من سنوات 2010 هو تنظيم التجمعات في المجموعات الاجتماعية والمهنية التي كانت مترددة حتى ذلك الحين، مثل المعلمين، يبدو أن التجمع الوطني يركز الآن على الانتخابات الرئاسية وحدها، وتسخير موارده في قمّة الحزب.
لوبان، سالفيني و / أو غريللو؟
العلاقة التي يحافظ عليها الفرنسيون مع المستقبل، تتوافق مع علاقة الإيطاليين. وكثيرا ما يقال إن الظواهر السياسية والاجتماعية التي تحدث في إيطاليا تسبق ظهورها المتطابق في فرنسا بخطوة واحدة. وإذا كان لا بد من إجراء مقارنة مع الحياة السياسية، فيمكننا أن نقول بأمان، أن المعادلة اللوبينية الجديدة تتوافق مع الرابطة، وفراتلي دي إيطاليا (ما بعد الفاشية) وجزء يميني من حركة 5 نجوم. جرعة تختلط فيها الهوية والشعبوية، وانتقاد الهجرة، والانفتاح بالنقد الديمقراطي لباريس وبروكسل. يقدم مجتمعانا سمات متشابهة ويسلطان الضوء على امكانات ونتائج متشابهة أكثر منها جوهرية لمختلف التشكيلات اليمينية أو الشعبوية الراديكالية.
عام 2018، بدا يسار الوسط هو الخاسر الأكبر في الاقتراع. تصدرت الرابطة الائتلاف اليميني، وحصلت حركة 5 نجوم على أكثر من 32 بالمائة، وفي النهاية، شكلت الرابطة وحركة 5 نجوم حكومة ائتلافية.
قبل بضع سنوات، كان مثل هذا التحالف غير وارد، وكان ذلك فقط لأن الأحزاب المهيمنة في الجمهورية الثانية – الحزب الديمقراطي وفورزا إيطاليا -خضعت للقيود المالية المرتبطة بإطار عمل الاتحاد الأوروبي. وكما هو الحال غالبًا في الحياة السياسية والبرلمانية الإيطالية، لم يدم تحالف حركة 5 نجوم / الرابطة، وسقطت حكومة كونتي. وأدى ظهور ماريو دراغي، كرئيس لحكومة تضمّ الرابطة، إلى فسح المجال أمام حزب فراتلي دي إيطاليا، الحزب اليميني الراديكالي الآخر.
مارين لوبان تتخلى
عن “البلشفية البيضاء «
في إيطاليا ثلاثينات القرن الماضي، كان هناك مسؤولون عن النظام يخشون التطور نحو “البلشفية البيضاء” لهذا الأخير، أي نحو شكل من أشكال التعاضد القومي. نتذكر الانتقادات الصادرة عن “اليمين خارج الجدران”، وشخصيات مثل عمدة بيزييه، أو إريك زمور، الذي لم يتردد في ان يرى مارين لوبان امرأة “من اليسار”. ثم التفت حول ماريون ماريشال لوبان زمرة مؤثرة من المثقفين أو المناضلين من أقصى اليمين أو من اليمين المتطرف، للتعبير عن غضبهم لانحراف مارين لوبان “إلى اليسار».
لم يدفع فلوريان فيليبو، فقط، ثمن سمعته الزائفة باعتباره “رجل يسار” (التي اكتسبها من خلال تأكيدات كاذبة عن ماضيه مع حركة شوفنمان)، ولكن أيضًا ثمن خط “السيادية المتكاملة”، الذي ضخه في التجمع الوطني، ويرفضه على وجه الخصوص جمهور الناخبين الشعبيين الحريصين على عدم دفع فاتورة العواقب المباشرة لترك اليورو، وجزء من اليمين المتطرف الحريص على الدفاع عن الحضارة الأوروبية -إن لم يكن الغرب.
كان على التجمع الوطني تدوير برنامجه الأوروبي حتى لا يصطدم مباشرة بجدار المال والإنفاق العام. لقد أدركت مارين لوبان -أو تم إقناعها -بضرورة تخفيف حدة الانتقادات الاقتصادية والأوروبية المتوقعة ضد برنامجها، ولا سيما خلال حملة الجولة الثانية. فبالنسبة لجزء من اليمين الراديكالي، ليست التظاهرات اليسارية هي التي يمكن أن تضر بالتجمع الوطني واليمين الراديكالي، وانما هي سلسلة من التصريحات المحمومة من البنك المركزي الأوروبي أو صندوق النقد الدولي أو الشركاء الأوروبيين ... ويستحق الاليزيه إقامة قداس للأرثوذكسية المالية.
ويمكن ان نلاحظ أن الرهان بالنسبة لمارين لوبان، هو جمع اتجاهين، الهوية -الأمنية والشعبوية، مع طمأنة الناخبين الأكبر سنًا والمعتدلين، مع تحفيز الناخبين المنضبطين، قد ينخرطون في حركة احتجاجية محتملة، وتبنوا خطبها الأخيرة. ان الطريق إلى الإليزيه مزروع بالمزالق.
التجمع الوطني، عالم
الصمت أو استراتيجية الحرباء
بالإمكان أن نفكر في أنه قد طُلب من حزب التجمع الوطني أن يتعهد بالصمت في انتظار تولي مرشحته. في الواقع، لم يعد هناك، الرجل الثاني، في الحزب. لعقود من الزمان، كما أحسن روايته جوزيف بوريغارد ونيكولا ليبورغ جيدًا وحلّلاه في كتاب “في ظل ال لوبان”، قام هذا الصنف من الرجل عند لوبان ببناء الجهاز ولكنهم غالبًا ما يختفون بسرعة.
القالب الأصلي لـ “الجبهة الوطنية” يعود لفرانسوا دوبرا، وبناء الحزب تمّ من قبل جان بيير ستيربوا، وإضفاء الحرفية والدقة الأيديولوجية كانت من قبل برونو ميغريه ... بعد رحيل فلوريان فيليبو، أسدل الستار على عصر الرجل الثاني. وعلى غرار حزب الحرية النمساوي، إن التجمع الوطني هو هيكل منحسر، يتقدم من خلال الصورة والإعلام، أكثر من حشد “الجنود السياسيين».
إن اختراع “الغاء الشيطنة”، ضربة عبقرية... إنه يجعل من معارضي التجمع الوطني منتجين مشاركين في تغيير صورة الحزب. ويظهر شكل من أشكال الحوار السريالي عندما يطالب معارضون سياسيون وصحف يسارية وما إلى ذلك، من المكتب السياسي لـ “التجمع الوطني” استبعاد هذا او ذاك من الحزب. انهم صنّاع رغم انفهم لـ “الغاء الشيطنة” هذه. ولا يزال هناك معارضون لحزب التجمع الوطني يأسفون لذلك بشدة. ان المشاجرات البيزنطية حول ما إذا كان التجمع الوطني لا يزال هو الشيطان، أم أن هذا الأخير قد تركه، تمنح هذا المغنم للحزب: الرد على مواقفه بدلاً من صياغة وتقديم حلوله لمشاكل الزمن الحاضر.
قبل ثلاثين عامًا، كان من الممكن أن يتصدر ترشّح الجبهة الوطنية لانتخابات كانتون بسيطة، عناوين الأخبار. ويتذكر البعض انتخابات كانتون فيلوربان عام 1990 والتي ترشح لها بيير فيال، الأمر الذي أثار نصيبا من ردود الفعل الوطنية والتغطية الصحفية غير العادية لانتخابات من هذا النوع. وتجدر الإشارة الى أن المرشح فيال، أستاذ تاريخ العصور الوسطى في ليون 3، وثني معلن، ومؤسس حركة الأرض والشعب، كانت له طريقة لتحية الجمهور من منصة الاجتماعات تركت الناس حذرين. ومن الصعب في الوقت الحاضر العثور على شخصيات كبريتية مثل فيال أو برنارد أنتوني أو كارل لانغ، الذين، كل منهم بطريقته الخاصة، بالكاد يمكن المراهنة على جانبهم المطمئن.
ولأول مرة منذ عام 1995، تفوز الجبهة الوطنية / التجمع الوطني، بمدينة يزيد عدد سكانها عن 100 ألف نسمة. قبل خمسة وعشرين عامًا، أدت الانتصارات في طولون وأورانج ومارينيان ثم فيتروليس، إلى حدوث “زوبعة” جديدة بعد فوز درو.
هذه المرة، لا شيء. ويبقى القرار الأكثر رمزية الذي اتخذه لويس أليوت، عمدة بربينيان الجديد، هو إعادة فتح المتاحف. ويتناقض هذا مع صورة السياسة الثقافية للجبهة الوطنية، والتي كان معرض كتاب تولون (الذي يديره حينها سيرج دي بيكيتش) عرضًا سلبيًا.
خلال التسعينات، كانت هناك صحافة يمينية متطرفة، منها ريفارول، وبريزان، ومينوت، التي لا تزال موجودة، وصحف أخرى لم تعد موجودة (الفرنسي، التحالف الشعبي، بيريه باقات). وبينما تجتذب المواقع اليمينية المتطرفة العديد من المتعاطفين مع الجبهة الوطنية، لم تستفد الصحافة اليمينية المتطرفة من الازدهار في تصويت الجبهة الوطنية / التجمع الوطني. ويهرب المتعاطفون من جيروم بوربون، ولا يهتمون بمقالات “بريزان».
عام 1997، كان مؤتمر الجبهة الوطنية في ستراسبورغ كافياً في حد ذاته لتعبئة عالم الثقافة واليسار وموكب كبير من عشرات الآلاف من الناس في عطلة عيد الفصح في عاصمة ألزاسية فارغة ومحلات مغلقة. لا تجتذب اجتماعات التجمع الوطني أي متظاهرين مضادين، ولا تقدم المؤتمرات أي مضامين على لوحات اشهارية عملاقة.
لقد أصبح التجمع الوطني ناعما تقريبًا مع خطر أن يصبح عديم اللون والرائحة. وإن تغيير شعاره، من شعلة الحركة الاجتماعية الإيطالية إلى شعلة منمقة، هو رمز مضاعف: ابتعاد جمالي عن الأصول، واعتماد شعار، رغم انه ليس براقا، لا يثير تراكيب ملصقات عنيفة.
اختيارات التجمّع التذكارية باروكية، وغالبًا ما تتعارض مع تلك التي كانت موجودة قبل ثلاثين عامًا: بحارة إيل دي سين، الجنرال ديغول، ملصقات تستحضر جان جوريس ... هنا مرة أخرى، ابتكر حزب الحرية النمساوي من خلال تقديم موسيقى راب اعتذارية ليوبولد فيجل، بطل نمساوي، ومرحّل سابق إلى ماوتهاوزن، وأول مستشار ما بعد الحرب، للترويج لقائمته في الانتخابات الأوروبية. وطني كاثوليكي نمساوي مرحّل إلى ماوتهاوزن للدفاع عن مواقف حزب له جذور قومية ألمانية ... يجب التفكير في ذلك.
أخف جهاز سياسي
توفي اليوم، تقريبًا، جميع مؤسسي الجبهة الوطنية عام 1972. وترك الجيل التالي، في الغالب، الحزب أو يعيش على هامشه، مثل جان إيف لو جالو. ولم تعد الانقسامات التي حدثت خلال العشرين عامًا الماضية موجودة سياسيًا وأخذت معها حرس لوبان القديم الذي، من خلال ترك الجبهة الوطنية، يعتز مع المؤسس بالتسوية القومية التي كانت سائدة زمان. وبالمثل، لم نعد نصادف نفس الألقاب التي كانت موجودة قبل عشرين أو ثلاثين عامًا: ليديو ، سابياني ، هنريو ، مالاغوتي ، من بين آخرين.
الشخصيات الحزبية المطروحة في الواجهة هي وزير سابق من التجمع من أجل الجمهورية، ونائب سابق وقاضي سابق من التجمع من أجل الجمهورية. ومن الواضح أن هذا يعزز الانطباع عن الكفاءة السيادية لـ “التجمع الوطني”، ومحامي قدير كان يُنظر إليه سابقًا على أنه من يسار الوسط، وعمدة مدينة كبيرة يكرهها المعادون للسامية، إلخ. ويمكن أن يذكّر اسم “التجمع الوطني” بالانفتاح عام 1986 أمام شخصيات مثل أوليفييه دورميسون، وفرانسوا باشلو، وإيفون بريان...
إن التجمع الوطني هو جهاز سياسي خفيف جدًا، أحيانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومثل العديد من شركائه، ألقى بقايا الماضي من شرفته، ويبدي عزمه على أن يكون الوعاء الحكيم لغضب ومطالب بلد يمر بأزمة. وفي هذا المجال، لا يحتاج النقاش السياسي الى نبوءة وتوقعات، وانما يحتاج، في المقابل، إلى الالمام بالعوامل التي ستسمح بانتخاب مارين لوبان رئيسة للجمهورية. ما هو مؤكد، و أنه في الوقت الحالي، تتجه فرنسا برفق نحو هذه النتيجة المحتملة.
عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جان جوريس، باحث في العلوم السياسية، متخصص في اليمين والأبعاد الثقافية للسياسة، ومؤلف العديد من البحوث منها “الى اللقاء غرامشي” (منشورات سارف 2015).