فورين بوليسي: روسيا لا تملك ديموغرافيا الحرب

فورين بوليسي: روسيا لا تملك ديموغرافيا الحرب


رأى طالب الدراسات العليا في كلية كينيدي بجامعة هارفارد برنت بيبادي أن عنواناً مهماً فات الأخبار التي تحدثت طوال سنة 2021 عن حشد روسيا قواتها على الحدود مع أوكرانيا.
بينما هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا، عانت روسيا من أكبر انخفاض طبيعي في عدد سكانها منذ الحرب العالمية الثانية. فهي فقدت 997 ألف شخص بين أكتوبر “تشرين الأول” 2020 وسبتمبر “أيلول” 2021. على الرغم من أن عدد ضحايا فيروس كورونا كان خطيراً، وعلى الأرجح أكبر مما تم الإبلاغ عنه بكثير، لم يكن الأمر عبارة عن حالة استثنائية.

افتتاح لاتجاه طويل
كتب بيبادي في مجلة “فورين بوليسي” أن ما شهدته روسيا كان افتتاحاً لاتجاه طويل المدى سيتجلى بشكل جدي في العقد المقبل. روسيا على وشك الدخول في فترة مطولة ومؤلمة من التدهور الديموغرافي الداخلي، بما يعقد طموحاتها التوسعية في الخارج. تعود جذور هذا التدهور إلى التسعينات والفوضى التي أحدثها انتقال روسيا إلى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، من اقتصاد مخطط له مركزياً إلى آخر رأسمالي مبني على السوق.
اتسم الانتقال بالفوضى الاقتصادية والبطالة المتفشية والإدمان على الكحول وهي عوامل تجمعت لتعطي روسيا بشكل وجيز أحد أدنى معدلات العمر المتوقعة للذكور حول العالم. مع ذلك، كان التأثير الأكثر ديمومة هو الانهيار المتزامن في معدلات المواليد. من 1993 وحتى 2007، انخفض معدل الخصوبة في روسيا إلى ما دون 1.5 وهو أدنى بكثير من معدل الاستبدال 2.1 الضروري للحفاظ على استقرار عدد السكان.

هذا ما حدث بالضبط
أضاف بيبادي أن تأثيرات هذا الانهيار الدرامي والمطول في معدلات المواليد تصبح واضحة الآن. تظهر نظرة سريعة إلى الهرم السكاني هذا التأثير التفاعلي. هنالك حوالي 12.5 مليون روسي تتراوح أعمارهم بين 30 و 34 سنة وقد ولدوا حوالي أو قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بفترة قصيرة. لكن هنالك قرابة 6.5 مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 20 و 24 سنة ولدوا خلال الفوضى التي شهدتها روسيا أواخر التسعينات. هذه القاعدة الأصغر من الناس القادرين على الإنجاب تعني أن معدل المواليد محتم له تقريباً أن ينخفض. وهذا بالضبط ما حدث. بعد فترة وجيزة من النمو السكاني الطبيعي في أواسط العقد الماضي، بدأ عدد سكان روسيا ينكمش من جديد في 2019. وسيستمر بالانخفاض في المستقبل المنظور.

المشهد يزداد قتامة
ازدادت التوقعات الديموغرافية قتامة مع وصول كوفيد-19. يبدو أن تجاهل الكرملين الأولي لكوفيد-19 وجهود نشر معلومات مضللة عن اللقاح في الغرب قد تسببت بنتائج عكسية على مواطنيه مما أدى إلى نسبة تلقي اللقاح هي من بين الأدنى في العالم المتطور. إن انخفاض تلقي اللقاح مع نهج عدم التدخل لمواجهة كوفيد-19 وضعف في نظام الرعاية الصحية عوامل ساهمت في واحدة من أعلى نسب الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا. أحصت الحكومة الروسية قرابة 300 ألف وفاة، لكن تقديراً أكثر موثوقية صادراً عن مجلة إيكونوميست يضع الرقم عند مليون وفاة بحسب الكاتب. وهذا يمنح روسيا السمة المريبة بوجود نسبة وفيات أكثر من أي دولة أخرى باستثناء بلغاريا. إن الانخفاض السكاني الأخير في روسيا يسبق كوفيد-19 لكن الجائحة أرخت بثقل كبير مما أدى إلى مفاقمته.

حل قريب؟
من المحتمل أن تجعل الهجرة المعاكسة هذه النظرة الديموغرافية أقل كآبة. لطالما اعتمدت روسيا على الهجرة من الجمهوريات السوفياتية السابقة للتعويض عن الخسارة السكانية الطبيعية في الداخل، وخلال السنوات الأخيرة، عززت جهودها لتشجيع الروس في كل مكان، من أوكرانيا إلى الأوروغواي، على الهجرة إلى روسيا. لكن حتى في هذه الحالة، يبقى الاتجاه التصاعدي المستقبلي محدوداً. لقد دفع الركود الاقتصادي الروسي الآخرين إلى البحث عن فرص اقتصادية في الخارج. وببساطة، إن العديد من الأشخاص الأكثر قابلية للهجرة قد هاجروا بالفعل. بإمكان تعزيز الهجرة، وهو أمر بحد ذاته غير مرجح، أن يخفف من الانحسار السكاني في روسيا لكنه لا يستطيع وقفه.

سبب التقييد الأول
بحسب الكاتب، إن هذا الواقع الديموغرافي هو ربما أعظم عامل يقيد طموحات بوتين التوسعية في أوكرانيا لسببين. أي اجتياح لأوكرانيا سيتسبب بكلفة بشرية خطيرة على روسيا مع تمتع الأوكرانيين بالاستعداد والحافز لمقاومة الاحتلال الروسي بطريقة لم يظهروها حين ضمت روسيا القرم سنة 2014. أعلن ذلك وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي رزنيكوف بوضوح قائلاً إنه بينما ستعاني أوكرانيا بلا شك من الحرب، فهي “لن ترثي وحدها”. وغالبية الضحايا الروس ستكون من الجنود في عمر العشرينات، وهـــــم المنتمون إلى الجيل الصغير نفسه المولود في التسعينيات، والذي لا يمكن لروسيا تحمل التضحية به.

ماذا عن السبب الثاني؟
العامل الثاني المقيد لطموحات بوتين وفقاً لبيبادي يرتبط برد الغرب على أي خطوة روسية حيال أوكرانيا. يتناقش الأكاديميون حول جدوى العقوبات في تغيير السلوك لكن تأثيرها الاقتصادي كان واضحاً. لا يزال اقتصاد روسيا أصغر مما كان عليه في 2014، حين ساعدت العقوبات الغربية على روسيا بسبب ضمها القرم في تقليص الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من الربع. ولا يزال الغرب قادراً على إنزال المزيد من الألم الاقتصادي بدءاً بإخراج روسيا من نظام سويفت للتراسل المالي الدولي وصولاً إلى إلغاء مشروع نورد ستريم 2. قد تطلق هذه العقوبات تدفقات للرساميل إلى خارج روسيا وتتسبب بفوضى اقتصادية لم تشهدها روسيا منذ التسعينات بما يحد من معدل الولادات في أكثر لحظة احتياجها إلى رفع هذا المعدل.

طموحات روسيا
وماضيها القريب
مع ذلك، وعوضاً عن أن تكون عاملاً مقيداً، يرى الكاتب أنه من المحتمل القول إن ديموغرافيا روسيا الضعيفة جعلتها أكثر خطورة. في نهاية المطاف، إن حاجة روسيا إلى المزيد من الأشخاص هي حاجة محفزة لموقفها العدواني الحالي تجاه أوكرانيا. وقال بوتين إن شبح روسيا شبه خالية من السكان يطارده أكثر من غيره – حتى ولو كانت فكرة انضمام الأوكرانيين إلى روسيا لكي يكونوا مواطنين صالحين وهمية إلى حد كبير بحسب الكاتب. لكن ديموغرافيا روسيا وظل حقبة التسعينيات الطويل يعرقلان بشدة ما يمكن أن يفعله الكرملين الآن. لا يزال ماضي روسيا القريب يثقل كاهل طموحات روسيا المستقبلية.