بعد التشاور مع رئيس الدولة واعتماده.. محمد بن راشد يعلن تغييرات في حكومة الإمارات
مصلحة مالية أم استراتيجية جيوسياسية
هكذا تتحدى روسيا فرنسا في حديقتها الخلفية...!
-- يسعى الكرملين إلى استعادة مناطق نفوذه السابقة وهزّ القوى العالمية الأخرى في موطنها الأفريقي
-- تسود قناعة بأن روسيا ستكون قادرة على هزم الإرهابيين في زمن قياسي حيث فشلت فرنسا
-- «الهدف الأساسي من الوجود الروسي في إفريقيا هو كسب المال، فرنسا ليست الهدف الرئيسي »
بعد أن فقد الكرملين نفوذه في إفريقيا في التسعينيات، أصبح الآن في خضم عملية إغواء. في 23 أكتوبر 2019، بالقرب من البحر الأسود، في مدينة سوتشي الروسية، وجد فلاديمير بوتين نفسه أمام جمهور من القادة الأفارقة. كان ذاك الحشد الكبير أول قمة روسية أفريقية، وفرصة للرئيس الروسي للإشادة بالعلاقات التاريخية التي تربط بلاده بعدة دول أفريقية.
«نريد مضاعفة التجارة بين روسيا وأفريقيا خلال 4 إلى 5 سنوات “بقيمة 20 مليار دولار سنويًا في 2018””، صرّح حينها، واعدًا بإعفاء من الديون وبمساعدات عسكرية. ما يكفي لجذب انتباه ثلاثة وأربعين رئيس دولة وحكومة أفريقية حاضرة. منذ ذاك الاجتماع، الذي هو نسخة من القمم الأفريقية -الفرنسية، أو الصينية -الإفريقية، أو اليابانية –الإفريقية، أو الأمريكية –الإفريقية، أو القمم التركية -الإفريقية، علق الخبراء الجيوسياسيون في مناسبات عديدة على ما يسمونه الآن بـ “العودة الكبرى لروسيا إلى إفريقيا”. لأنه في السنوات 1960-1970، في خضم الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفياتي أحد أكبر قوى التأثير في إفريقيا. وجزء من النخبة في القارة، والتي تعمل اليوم في مجالات السلطة، تم تكوينها أيضًا في الاتحاد السوفياتي السابق. إن مالي، التي تبنت نظامًا اشتراكيًا في اليوم التالي لاستقلالها، ترمز جيدًا إلى هذه السيطرة التي كانت سائدة في الماضي.
ونتيجة لتفكك الاتحاد السوفياتي، انخفض النفوذ الروسي بشكل كبير. لكن على مدى السنوات العشر الماضية، نظر فلاديمير بوتين مرة أخرى إلى القارة. والهدف ذو شقين: استعادة مناطق نفوذها السابقة والذهاب لهز القوى العالمية الأخرى -ولا سيما فرنسا -في موطنها الأفريقي.
حالة وسط أفريقيا
لتناول العودة الكبرى لروسيا إلى القارة السمراء، يأخذ الخبراء على وجه الخصوص نموذج جمهورية إفريقيا الوسطى. قبل ست سنوات، من كان يتخيل هبوط القوات الخاصة الروسية في بانغي لضمان الحراسة اللصيقة لرئيس جمهورية إفريقيا الوسطى؟
وجدت هذه الدولة الواقعة في وسط إفريقيا، والتي كانت لفترة طويلة حكراً على فرنسا، نفسها تحت قبة الكرملين في وقت قياسي. عام 2013، تحت رئاسة فرانسوا هولاند، تدخلت فرنسا في البلاد عندما كان القتال محتدماً بين جماعات سيليكا المتمردة ومقاومة بالاكا بعد الإطاحة بالرئيس السابق فرانسوا بوزيزي.
كيف نفسر هذا الاندماج الروسي في بلد ابتلعته فرنسا منذ فترة طويلة؟ بالنسبة لأنطوان جلاسر، الصحفي والمتخصص في إفريقيا، فإن التفسير بسيط: “في إفريقيا، تمارس روسيا الانتهازية، وتعرف كيف تستفيد من المواقف. وفي هذا، جمهورية أفريقيا الوسطى هي حالة تدرّس. عندما قررت فرنسا إنهاء عملية سانغاريس، انتهز الروس، الذين كانوا موجودين في السودان المجاور، الفرصة للتفاوض مع إفريقيا الوسطى». في نفس الوقت، تخضع الدولة الأفريقية لحظر أسلحة تفرضه الأمم المتحدة، مما يقلل من قدرة الحكومة على تجهيز جنودها. وفي هذا السياق، أدت المفاوضات مع الروس إلى نشر قوات شبه عسكرية، اعتبارًا من عام 2016، لدعم قوات جمهورية إفريقيا الوسطى في الحرب ضد الجماعات المسلحة.
سيبقى هذا الوجود للمرتزقة الروس في جمهورية إفريقيا الوسطى مخفيًا طيلة عدة أشهر. ولم تتواصل حكومة إفريقيا الوسطى ولا روسيا بشأن هذا الموضوع. وكان لا بد الانتظار حتى عام 2018 لرؤية توقيع البلدين رسميًا على اتفاقية تعاون عسكري. وسيتم بعد ذلك نشر بضع مئات من الجنود الروس في جمهورية إفريقيا الوسطى -لطالما ادعت حكومة بوتين أنهم مجرد مدربين وليسوا جنودًا قتاليين.
أما بالنسبة للقوات شبه العسكرية الروسية، فإن الكرملين يقسم أنه لا علاقة له بها. ووفقًا للعديد من المتخصصين، ليس هناك شك: مجموعة المرتزقة فاغنر هي روسيا. ويصادف أن مُموّل المنظمة، واسمه إفغيني بريغوجين، مقرّب من فلاديمير بوتين.
سبق ان احتلت الشركة العسكرية الخاصة عناوين الصحف في سوريا وأوكرانيا وليبيا. وأثناء التحقيق في وجود الجماعة في جمهورية إفريقيا الوسطى، اغتيل ثلاثة صحفيين روس عام 2018 في ظروف لا تزال غامضة.
وفي جمهورية إفريقيا الوسطى، يشير خبراء الأمم المتحدة الى ان فاليري زاخاروف هو القائد العام لهذه الجماعات شبه العسكرية. الرجل هو أيضًا المستشار الأمني لرئيس إفريقيا الوسطى فوستين أرشانج تواديرا. وفي حياة أخرى، كان فاليري زاخاروف عضوًا في جهاز الأمن الداخلي الروسي، الذي ترأسه فلاديمير بوتين تحت قيادة بوريس يلتسين.
كراهية معادية
للفرنسيين تغذيها روسيا؟
هذا الوصول الروسي إلى حزام رئيس إفريقيا الوسطى وقع، بحكم الأمر الواقع، نهاية العلاقة الحصرية التي حافظت عليها فرنسا مع جمهورية إفريقيا الوسطى منذ استقلالها عام 1958، مما تسبب في توترات دبلوماسية غير مسبوقة بين باريس وبانغي. شغوف بتويتر -قبل أن يوقف حسابه قبل أشهر قليلة -لم يتردد فاليري زاخاروف في مهاجمة فرنسا علانية، وبالتالي تغذية ما يسمى اليوم بـ “الكراهية المعادية للفرنسيين في أفريقيا».
«لقد رافق وصول الروس حملة مناهضة للفرنسيين تم تنظيمها بطريقة عنيفة إلى حد ما. لم يتم التنديد فقط بسياسة باريس، لكن تمت المطالبة بمهاجمة الفرنسيين الموجودين على عين المكان”، يلاحظ رولان مارشال، الأستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس.
في حيرة من صعود روسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى، حاولت فرنسا إظهار عضلاتها: أعلنت باريس في يونيو تعليق تعاونها العسكري مع الدولة الإفريقية وتجميد مساعدات الميزانية لحكومة الرئيس توادير، والتي وصفها إيمانويل ماكرون بأنها “رهينة المرتزقة” الذين يدعمون الحملة ضد فرنسا التي ينظمها الروس.
معركة من أجل التأثير على الشبكات الاجتماعية
خارج جمهورية إفريقيا الوسطى، في جميع أنحاء إفريقيا الناطقة بالفرنسية، تعتزم روسيا، عبر شبكاتها المختلفة، تحدي فرنسا، وتقديم نفسها على أنها من يساعد ولا يحكم، مقابل القوة الاستعمارية والإمبريالية.
في ديسمبر 2020، كشف موقع فيسبوك عن حرب نفوذ ومعلومات مضللة يتم تداولها عبر الإنترنت بين باريس وموسكو. وكشفت الشبكة الاجتماعية أنها أوقفت مئات الحسابات المزيفة التجريبية من روسيا وفرنسا. وشوّهت حسابات موالية لروسيا عمل فرنسا في إفريقيا، بينما أشاد الموالون لفرنسا بنجاح عملية برخان في منطقة الساحل.
وأوضح فريق فيسبوك: “هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها فريقنا أن حملتين -من فرنسا وروسيا -تتفاعلان بنشاط مع بعضهما البعض، بما في ذلك إقامة علاقات صداقة والتعليق واتهام الجانب الآخر بـ “الكذب».
إحدى شبكات التضليل الإعلامي كانت على صلة بالجيش الفرنسي -وهو ما لم تؤكده وزارة الدفاع قط. وفقًا لـ فيسبوك، و”على عكس العملية التي قادتها فرنسا، اعتمدت الشبكتان المرتبطتان بروسيا على مواطنين محليين في البلدان التي كانوا يستهدفونها لإنشاء محتوى وإدارة نشاطهم عبر الإنترنت. ويتناسب هذا مع حالات كشفنا عنها في الماضي، لا سيما في غانا والولايات المتحدة، حيث رأينا حملات روسية تختار أصواتًا محلية للانضمام إلى عمليات تأثيرها، على الأرجح لتجنب اكتشافها والظهور بمظهر أكثر اصالة. ورغم هذه الجهود، مكّن تحقيقنا من تحديد روابط معينة بين هاتين الحملتين الروسيتين».
هل هذه الحملات المعادية لفرنسا على الإنترنت بأمر مباشر من الحكومة الروسية؟ “لا يأتي الأمر بالضرورة من الكرملين، يجيب كيفين ليمونير، أستاذ محاضر في الجغرافيا والدراسات السلافية في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية (جامعة باريس 8)، هناك من أسميهم رجال أعمال مؤثرين يرافقون هذه العودة الكبرى لروسيا إلى إفريقيا. فقد أثبت البعض صلات مباشرة مع الكرملين، مثل رئيس مجموعة فاغنر شبه العسكرية. في المقابل، فإن البعض الآخر عبارة عن إلكترونات حرة، بل إن بعضهم يستبق السلطة أو يدفع السلطة الروسية لتتصرف في بلد معين باسم مصالحهم الخاصة”. ويوافق هذا الرأي الصحفي أنطوان جلاسر: “الهدف الأساسي للوجود الروسي في إفريقيا هو كسب المال، فرنسا ليست الهدف الرئيسي، لكن من السهل اللعب على معاداة فرنسا».
الساحل، أرض
صيد جديدة في روسيا
مصلحة مالية أم استراتيجية جيوسياسية للسلطة الروسية؟ في كل الأحوال، بعد غزو جمهورية إفريقيا الوسطى، وضع رجال الأعمال المؤثرون في روسيا أنظارهم على دول الساحل، معتمدين على الفاعلين المحليين الذين يشعرون بالحنين إلى الاتحاد السوفياتي، وعلى المعجبين بفلاديمير بوتين.
وفي الوقت الذي تعيد فيه فرنسا تنظيم عملية برخان وتخفيض قواتها، خاصة في مالي، من خلال تسليم مفاتيح بعض قواعدها للقوات المحلية، يبتهج مؤيدو التدخل الروسي، ويعلنون أن “ساعة روسيا في مالي ومنطقة الساحل قد دقّت».
على صيحات “فرنسا ارحلي... وتحيا روسيا”، خلال الاجتماعات في العاصمة المالية، يعتقد مؤيدو “برنامج التدخل الروسي” بأن البلاد قوة عسكرية عظمى، متفوقة على فرنسا، وأنها ستكون قادرة على هزم الإرهابيين في زمن قياسي حيث فشلت فرنسا.
ويحذر العديد من خبراء الأمن من أنه سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن روسيا يمكن أن تنقذ منطقة الساحل. “الاقتصاد الروسي مصاب بفقر الدم، ونرى ذلك في سوريا حيث تكلفهم الحرب ثمناً باهظاً. ولهذا السبب يستخدمون المرتزقة، التكلفة أقل، وهذه الجماعات تمول نفسها بنفسها. في سوريا، يتم هذا التمويل عن طريق أسهم في النفط، وفي جمهورية إفريقيا الوسطى باستغلال المناجم”، يشرح الجيوسياسي كيفين ليمونير.
وفي غياب تدخل رسمي ومباشر، يبدو أن هذا النموذج من التدخل هو الذي يريد الكرملين تطبيقه في مالي. منذ سبتمبر 2021، ترددت شائعات بأن المجلس العسكري الحاكم ومجموعة فاغنر يناقشان نشر المرتزقة الروس. ولئن تقر الحكومة المالية بأنه تم إجراء اتصالات، فإنها تؤكد أنه لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن. غير ان باريس تتعامل مع الموضوع بجدية بالغة، وهددت في عدة مناسبات بالانسحاب من مالي في حال توقيع الاتفاق.
كل هذا لا يكفي لدفع فاغنر للتراجع، بل على العكس تماما. بحسب عدة مصادر، تحشد الشركة كل الشبكات الممكنة لإتمام توقيع اتفاقية مع السلطات الانتقالية المالية. وهل هي صدفة أم حسابات، أن يعود وزير الدفاع العقيد ساديو كامارا، الرجل القوي الحقيقي للسلطة العسكرية في مالي، من روسيا، حيث كان يتلقى تدريبا، قبل فترة وجيزة من الانقلاب في أغسطس 2020. ورئيس الوزراء الانتقالي، تشوجويل كوكالا مايغا، هو ببساطة روسيّ الهوى ويتحدث الروسية، وكان طالبًا في الثمانينات في معهد موسكو للاتصالات. شخصيتان من الوزن الثقيل في الفلك الموالي لروسيا، يمنحان فاغنر ورقة كبيرة رابحة في التفاوض للانتشار في مالي.
من خلال حسابات دعائية تم إنشاؤها مؤخرًا على الشبكات الاجتماعية، تستعد المجموعة لقدومها إلى مالي. كما انها تعتمد على مؤثرين ماليين مشهورين، على تويتر وفيسبوك، ينقلون أخبارها ومعلومات عنها، ويدعون إلى الانتشار السريع للقوات شبه العسكرية الروسية.
ويرى الصحفي لويس كيومايو، رئيس نادي المعلومات الإفريقية، أن هذا الاختراق الروسي يُفسّر قبل كل شيء بـ “ضعف فرنسا في حديقتها الخلفية “...” نعم، روسيا بصدد كسب الارض. هناك رأي داخل المستعمرات الفرنسية السابقة: يجب وضع نهاية لـ فرنسا-افريقيا. وهناك بديل يطرح نفسه اليوم ويمكن اعتباره جادًا، إنه روسيا».
لكن هل يملك فلاديمير بوتين وسائل سياسة العودة الكبرى إلى إفريقيا التي يعتمدها؟ حول هذا السؤال، لدى لويس كيومايو إجابة واضحة.
“ليس لدى روسيا في الوقت الحالي الكثير لتطرحه على الطاولة على المستوى المالي. فمن المهمّ أن تكون شريكًا اقتصاديًا كبيرا.
معظم البلدان الإفريقية، حتى عندما لا يكون رأيها العام في صالح فرنسا، لديها ميزان تجاري يعاني من عجز كبير مع فرنسا».
وبالنسبة للصحفي، فإن هذا يجعل من فرنسا “المانح الرئيسي، ولسان الدفاع الأبرز، والمدافع عن هذه البلدان أمام المؤسسات المالية الدولية.
وهذه ميزة لن تتمتع بها روسيا. لكن هذه الأخيرة تمتّع في المقابل، بأفضلية كبيرة أيضًا، وهي أن صورة فرنسا، وكلمتها، أصبحتا اليوم أكثر تدهورًا من أي وقت مضى، وتقلصت قيمتها ومكانتها في إفريقيا».
-- تسود قناعة بأن روسيا ستكون قادرة على هزم الإرهابيين في زمن قياسي حيث فشلت فرنسا
-- «الهدف الأساسي من الوجود الروسي في إفريقيا هو كسب المال، فرنسا ليست الهدف الرئيسي »
بعد أن فقد الكرملين نفوذه في إفريقيا في التسعينيات، أصبح الآن في خضم عملية إغواء. في 23 أكتوبر 2019، بالقرب من البحر الأسود، في مدينة سوتشي الروسية، وجد فلاديمير بوتين نفسه أمام جمهور من القادة الأفارقة. كان ذاك الحشد الكبير أول قمة روسية أفريقية، وفرصة للرئيس الروسي للإشادة بالعلاقات التاريخية التي تربط بلاده بعدة دول أفريقية.
«نريد مضاعفة التجارة بين روسيا وأفريقيا خلال 4 إلى 5 سنوات “بقيمة 20 مليار دولار سنويًا في 2018””، صرّح حينها، واعدًا بإعفاء من الديون وبمساعدات عسكرية. ما يكفي لجذب انتباه ثلاثة وأربعين رئيس دولة وحكومة أفريقية حاضرة. منذ ذاك الاجتماع، الذي هو نسخة من القمم الأفريقية -الفرنسية، أو الصينية -الإفريقية، أو اليابانية –الإفريقية، أو الأمريكية –الإفريقية، أو القمم التركية -الإفريقية، علق الخبراء الجيوسياسيون في مناسبات عديدة على ما يسمونه الآن بـ “العودة الكبرى لروسيا إلى إفريقيا”. لأنه في السنوات 1960-1970، في خضم الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفياتي أحد أكبر قوى التأثير في إفريقيا. وجزء من النخبة في القارة، والتي تعمل اليوم في مجالات السلطة، تم تكوينها أيضًا في الاتحاد السوفياتي السابق. إن مالي، التي تبنت نظامًا اشتراكيًا في اليوم التالي لاستقلالها، ترمز جيدًا إلى هذه السيطرة التي كانت سائدة في الماضي.
ونتيجة لتفكك الاتحاد السوفياتي، انخفض النفوذ الروسي بشكل كبير. لكن على مدى السنوات العشر الماضية، نظر فلاديمير بوتين مرة أخرى إلى القارة. والهدف ذو شقين: استعادة مناطق نفوذها السابقة والذهاب لهز القوى العالمية الأخرى -ولا سيما فرنسا -في موطنها الأفريقي.
حالة وسط أفريقيا
لتناول العودة الكبرى لروسيا إلى القارة السمراء، يأخذ الخبراء على وجه الخصوص نموذج جمهورية إفريقيا الوسطى. قبل ست سنوات، من كان يتخيل هبوط القوات الخاصة الروسية في بانغي لضمان الحراسة اللصيقة لرئيس جمهورية إفريقيا الوسطى؟
وجدت هذه الدولة الواقعة في وسط إفريقيا، والتي كانت لفترة طويلة حكراً على فرنسا، نفسها تحت قبة الكرملين في وقت قياسي. عام 2013، تحت رئاسة فرانسوا هولاند، تدخلت فرنسا في البلاد عندما كان القتال محتدماً بين جماعات سيليكا المتمردة ومقاومة بالاكا بعد الإطاحة بالرئيس السابق فرانسوا بوزيزي.
كيف نفسر هذا الاندماج الروسي في بلد ابتلعته فرنسا منذ فترة طويلة؟ بالنسبة لأنطوان جلاسر، الصحفي والمتخصص في إفريقيا، فإن التفسير بسيط: “في إفريقيا، تمارس روسيا الانتهازية، وتعرف كيف تستفيد من المواقف. وفي هذا، جمهورية أفريقيا الوسطى هي حالة تدرّس. عندما قررت فرنسا إنهاء عملية سانغاريس، انتهز الروس، الذين كانوا موجودين في السودان المجاور، الفرصة للتفاوض مع إفريقيا الوسطى». في نفس الوقت، تخضع الدولة الأفريقية لحظر أسلحة تفرضه الأمم المتحدة، مما يقلل من قدرة الحكومة على تجهيز جنودها. وفي هذا السياق، أدت المفاوضات مع الروس إلى نشر قوات شبه عسكرية، اعتبارًا من عام 2016، لدعم قوات جمهورية إفريقيا الوسطى في الحرب ضد الجماعات المسلحة.
سيبقى هذا الوجود للمرتزقة الروس في جمهورية إفريقيا الوسطى مخفيًا طيلة عدة أشهر. ولم تتواصل حكومة إفريقيا الوسطى ولا روسيا بشأن هذا الموضوع. وكان لا بد الانتظار حتى عام 2018 لرؤية توقيع البلدين رسميًا على اتفاقية تعاون عسكري. وسيتم بعد ذلك نشر بضع مئات من الجنود الروس في جمهورية إفريقيا الوسطى -لطالما ادعت حكومة بوتين أنهم مجرد مدربين وليسوا جنودًا قتاليين.
أما بالنسبة للقوات شبه العسكرية الروسية، فإن الكرملين يقسم أنه لا علاقة له بها. ووفقًا للعديد من المتخصصين، ليس هناك شك: مجموعة المرتزقة فاغنر هي روسيا. ويصادف أن مُموّل المنظمة، واسمه إفغيني بريغوجين، مقرّب من فلاديمير بوتين.
سبق ان احتلت الشركة العسكرية الخاصة عناوين الصحف في سوريا وأوكرانيا وليبيا. وأثناء التحقيق في وجود الجماعة في جمهورية إفريقيا الوسطى، اغتيل ثلاثة صحفيين روس عام 2018 في ظروف لا تزال غامضة.
وفي جمهورية إفريقيا الوسطى، يشير خبراء الأمم المتحدة الى ان فاليري زاخاروف هو القائد العام لهذه الجماعات شبه العسكرية. الرجل هو أيضًا المستشار الأمني لرئيس إفريقيا الوسطى فوستين أرشانج تواديرا. وفي حياة أخرى، كان فاليري زاخاروف عضوًا في جهاز الأمن الداخلي الروسي، الذي ترأسه فلاديمير بوتين تحت قيادة بوريس يلتسين.
كراهية معادية
للفرنسيين تغذيها روسيا؟
هذا الوصول الروسي إلى حزام رئيس إفريقيا الوسطى وقع، بحكم الأمر الواقع، نهاية العلاقة الحصرية التي حافظت عليها فرنسا مع جمهورية إفريقيا الوسطى منذ استقلالها عام 1958، مما تسبب في توترات دبلوماسية غير مسبوقة بين باريس وبانغي. شغوف بتويتر -قبل أن يوقف حسابه قبل أشهر قليلة -لم يتردد فاليري زاخاروف في مهاجمة فرنسا علانية، وبالتالي تغذية ما يسمى اليوم بـ “الكراهية المعادية للفرنسيين في أفريقيا».
«لقد رافق وصول الروس حملة مناهضة للفرنسيين تم تنظيمها بطريقة عنيفة إلى حد ما. لم يتم التنديد فقط بسياسة باريس، لكن تمت المطالبة بمهاجمة الفرنسيين الموجودين على عين المكان”، يلاحظ رولان مارشال، الأستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس.
في حيرة من صعود روسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى، حاولت فرنسا إظهار عضلاتها: أعلنت باريس في يونيو تعليق تعاونها العسكري مع الدولة الإفريقية وتجميد مساعدات الميزانية لحكومة الرئيس توادير، والتي وصفها إيمانويل ماكرون بأنها “رهينة المرتزقة” الذين يدعمون الحملة ضد فرنسا التي ينظمها الروس.
معركة من أجل التأثير على الشبكات الاجتماعية
خارج جمهورية إفريقيا الوسطى، في جميع أنحاء إفريقيا الناطقة بالفرنسية، تعتزم روسيا، عبر شبكاتها المختلفة، تحدي فرنسا، وتقديم نفسها على أنها من يساعد ولا يحكم، مقابل القوة الاستعمارية والإمبريالية.
في ديسمبر 2020، كشف موقع فيسبوك عن حرب نفوذ ومعلومات مضللة يتم تداولها عبر الإنترنت بين باريس وموسكو. وكشفت الشبكة الاجتماعية أنها أوقفت مئات الحسابات المزيفة التجريبية من روسيا وفرنسا. وشوّهت حسابات موالية لروسيا عمل فرنسا في إفريقيا، بينما أشاد الموالون لفرنسا بنجاح عملية برخان في منطقة الساحل.
وأوضح فريق فيسبوك: “هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها فريقنا أن حملتين -من فرنسا وروسيا -تتفاعلان بنشاط مع بعضهما البعض، بما في ذلك إقامة علاقات صداقة والتعليق واتهام الجانب الآخر بـ “الكذب».
إحدى شبكات التضليل الإعلامي كانت على صلة بالجيش الفرنسي -وهو ما لم تؤكده وزارة الدفاع قط. وفقًا لـ فيسبوك، و”على عكس العملية التي قادتها فرنسا، اعتمدت الشبكتان المرتبطتان بروسيا على مواطنين محليين في البلدان التي كانوا يستهدفونها لإنشاء محتوى وإدارة نشاطهم عبر الإنترنت. ويتناسب هذا مع حالات كشفنا عنها في الماضي، لا سيما في غانا والولايات المتحدة، حيث رأينا حملات روسية تختار أصواتًا محلية للانضمام إلى عمليات تأثيرها، على الأرجح لتجنب اكتشافها والظهور بمظهر أكثر اصالة. ورغم هذه الجهود، مكّن تحقيقنا من تحديد روابط معينة بين هاتين الحملتين الروسيتين».
هل هذه الحملات المعادية لفرنسا على الإنترنت بأمر مباشر من الحكومة الروسية؟ “لا يأتي الأمر بالضرورة من الكرملين، يجيب كيفين ليمونير، أستاذ محاضر في الجغرافيا والدراسات السلافية في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية (جامعة باريس 8)، هناك من أسميهم رجال أعمال مؤثرين يرافقون هذه العودة الكبرى لروسيا إلى إفريقيا. فقد أثبت البعض صلات مباشرة مع الكرملين، مثل رئيس مجموعة فاغنر شبه العسكرية. في المقابل، فإن البعض الآخر عبارة عن إلكترونات حرة، بل إن بعضهم يستبق السلطة أو يدفع السلطة الروسية لتتصرف في بلد معين باسم مصالحهم الخاصة”. ويوافق هذا الرأي الصحفي أنطوان جلاسر: “الهدف الأساسي للوجود الروسي في إفريقيا هو كسب المال، فرنسا ليست الهدف الرئيسي، لكن من السهل اللعب على معاداة فرنسا».
الساحل، أرض
صيد جديدة في روسيا
مصلحة مالية أم استراتيجية جيوسياسية للسلطة الروسية؟ في كل الأحوال، بعد غزو جمهورية إفريقيا الوسطى، وضع رجال الأعمال المؤثرون في روسيا أنظارهم على دول الساحل، معتمدين على الفاعلين المحليين الذين يشعرون بالحنين إلى الاتحاد السوفياتي، وعلى المعجبين بفلاديمير بوتين.
وفي الوقت الذي تعيد فيه فرنسا تنظيم عملية برخان وتخفيض قواتها، خاصة في مالي، من خلال تسليم مفاتيح بعض قواعدها للقوات المحلية، يبتهج مؤيدو التدخل الروسي، ويعلنون أن “ساعة روسيا في مالي ومنطقة الساحل قد دقّت».
على صيحات “فرنسا ارحلي... وتحيا روسيا”، خلال الاجتماعات في العاصمة المالية، يعتقد مؤيدو “برنامج التدخل الروسي” بأن البلاد قوة عسكرية عظمى، متفوقة على فرنسا، وأنها ستكون قادرة على هزم الإرهابيين في زمن قياسي حيث فشلت فرنسا.
ويحذر العديد من خبراء الأمن من أنه سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن روسيا يمكن أن تنقذ منطقة الساحل. “الاقتصاد الروسي مصاب بفقر الدم، ونرى ذلك في سوريا حيث تكلفهم الحرب ثمناً باهظاً. ولهذا السبب يستخدمون المرتزقة، التكلفة أقل، وهذه الجماعات تمول نفسها بنفسها. في سوريا، يتم هذا التمويل عن طريق أسهم في النفط، وفي جمهورية إفريقيا الوسطى باستغلال المناجم”، يشرح الجيوسياسي كيفين ليمونير.
وفي غياب تدخل رسمي ومباشر، يبدو أن هذا النموذج من التدخل هو الذي يريد الكرملين تطبيقه في مالي. منذ سبتمبر 2021، ترددت شائعات بأن المجلس العسكري الحاكم ومجموعة فاغنر يناقشان نشر المرتزقة الروس. ولئن تقر الحكومة المالية بأنه تم إجراء اتصالات، فإنها تؤكد أنه لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن. غير ان باريس تتعامل مع الموضوع بجدية بالغة، وهددت في عدة مناسبات بالانسحاب من مالي في حال توقيع الاتفاق.
كل هذا لا يكفي لدفع فاغنر للتراجع، بل على العكس تماما. بحسب عدة مصادر، تحشد الشركة كل الشبكات الممكنة لإتمام توقيع اتفاقية مع السلطات الانتقالية المالية. وهل هي صدفة أم حسابات، أن يعود وزير الدفاع العقيد ساديو كامارا، الرجل القوي الحقيقي للسلطة العسكرية في مالي، من روسيا، حيث كان يتلقى تدريبا، قبل فترة وجيزة من الانقلاب في أغسطس 2020. ورئيس الوزراء الانتقالي، تشوجويل كوكالا مايغا، هو ببساطة روسيّ الهوى ويتحدث الروسية، وكان طالبًا في الثمانينات في معهد موسكو للاتصالات. شخصيتان من الوزن الثقيل في الفلك الموالي لروسيا، يمنحان فاغنر ورقة كبيرة رابحة في التفاوض للانتشار في مالي.
من خلال حسابات دعائية تم إنشاؤها مؤخرًا على الشبكات الاجتماعية، تستعد المجموعة لقدومها إلى مالي. كما انها تعتمد على مؤثرين ماليين مشهورين، على تويتر وفيسبوك، ينقلون أخبارها ومعلومات عنها، ويدعون إلى الانتشار السريع للقوات شبه العسكرية الروسية.
ويرى الصحفي لويس كيومايو، رئيس نادي المعلومات الإفريقية، أن هذا الاختراق الروسي يُفسّر قبل كل شيء بـ “ضعف فرنسا في حديقتها الخلفية “...” نعم، روسيا بصدد كسب الارض. هناك رأي داخل المستعمرات الفرنسية السابقة: يجب وضع نهاية لـ فرنسا-افريقيا. وهناك بديل يطرح نفسه اليوم ويمكن اعتباره جادًا، إنه روسيا».
لكن هل يملك فلاديمير بوتين وسائل سياسة العودة الكبرى إلى إفريقيا التي يعتمدها؟ حول هذا السؤال، لدى لويس كيومايو إجابة واضحة.
“ليس لدى روسيا في الوقت الحالي الكثير لتطرحه على الطاولة على المستوى المالي. فمن المهمّ أن تكون شريكًا اقتصاديًا كبيرا.
معظم البلدان الإفريقية، حتى عندما لا يكون رأيها العام في صالح فرنسا، لديها ميزان تجاري يعاني من عجز كبير مع فرنسا».
وبالنسبة للصحفي، فإن هذا يجعل من فرنسا “المانح الرئيسي، ولسان الدفاع الأبرز، والمدافع عن هذه البلدان أمام المؤسسات المالية الدولية.
وهذه ميزة لن تتمتع بها روسيا. لكن هذه الأخيرة تمتّع في المقابل، بأفضلية كبيرة أيضًا، وهي أن صورة فرنسا، وكلمتها، أصبحتا اليوم أكثر تدهورًا من أي وقت مضى، وتقلصت قيمتها ومكانتها في إفريقيا».