هل كان بريغوجين يعلم أن ملحمته قد انتهت ؟
كان للوجه المظلم لسلطة بوتين ملامح يفغيني بريغوجين، الأفجَم والأصلع. وربما لم يتخيل رئيس الكرملين قط أن الوحشية كانت تجلب له منافع لا تحصى و التي يمارسها أحد أتباعه سوف تنقلب ذات يوم ضد النظام، الذي يدين له بكل شيء، وضد سيده نفسه. كان التغيير وحشيًا ومفاجئًا، من خادم إلى أمير حرب مدوٍ، يتحدى علنًا أعلى الرتب في الجيش الروسي. لقد كانت لعبة محفوفة بالمخاطر للغاية، وقد عرّض نفسه لدفع ثمن باهظ. كان بريغوجين في الواقع اسمًا غير مألوف لفترة طويلة. هو ابن المنطقة السوفييتية، وقد ظهر في أوائل التسعينيات مع انهيار الإمبراطورية.
في الواقع، كان قادرًا على أن يجعل نفسه مفيدًا جدًا بسرعة، بما يتجاوز التزويد بالطعام. في 2013، برز من خلال تأسيس وكالة أبحاث الإنترنت، و كانت في الواقع شركة مصيدة إذ سرعان ما أغرق الولايات المتحدة، ثم أوروبا، بالدعاية لتشويه سمعة الديمقراطيين ودعم اليمين المتطرف. هل تصرف بناء على أوامر من الكرملين أم من تلقاء نفسه؟ لا أحد يعرف. كما أننا لا نعرف الطرق التي جعلته، بعد مرور عام، أقرب إلى دميتري أوتكين، وهو جندي سابق من النازيين الجدد، يُلقب بفاغنر. ستولد هناك مجموعة من المرتزقة الذين يحملون الاسم نفسه ، في ظل صراعات ما يسمى دونباس المتمردة. مثل منتجات شركته للانترنات، البسيطة والرخيصة، سوف تشهد فاغنر صعودًا سريعًا. “ سيصبح الموسيقيون” منتشرين في سوريا ثم في ليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي.. موسكو لا تعترف بشيء، ويكتفي بوتين بإظهار ابتسامة صغيرة في وجه هذا الجيش الشبح الذي يهدف إلى تعزيز مصالحه،و حيث يفضل هو شخصيا العمل خلسة. تسمح هذه العمليات العسكرية لشركات يفغيني بريغوجين بجني أرباح كبيرة، على سبيل المثال في سوريا، من عائدات النفط. لكن صاحبها يظل خاضعا وصامتًا وصادقًا مع نفسه.
لقد كان من شان الحرب على أوكرانيا أن يغير كل شيء، وكأن هذه الحرب، من خلال الكشف عن نقاط ضعف النظام الروسي، عملت كمسرعات للجسيمات في الصندوق الأسود لهذه القوة، مما أدى إلى زيادة حدة المنافسات والكراهية. وستسمح هذه الحرب لبريغوجين أن يفجر طموحاته، معتمدًا على “مواهبه”: الدعاية والعنف المسلح.” الآن، و هو بعمر 61 عامًا، يَنضم بريغوجين علنًا إلى أكثر الشخصيات تطرفًا. وطني للغاية، فهو لا يتردد في مهاجمة هيئة الأركان العامة للجيش، مثل شخص آخر ومعارض للنظام، الشيشاني رمضان قديروف. ويبدو أن كليهما مفيدان للكرملين أكثر من أي وقت مضى، ويسعيان لتحقيق ذلك، في الوقت نفسه الذي لا تغيب عنهما مصالحهما الخاصة. “ليس أمام بوتين خيار سوى الاعتماد على لاعبين مثل بريجوزين أو قديروف،” مسؤول روسي كبير الصيف الماضي، بحسب ما نقلت عنه بلومبرج مضيفا “نظرًا للأداء الضعيف للقوات المسلحة الروسية والدعم الفاتر للحرب لحكومته.
الشركة العسكرية الخاصة
بريغوجين المنتشي بسمعته السيئة الجديدة، سيسقط القناع. في سبتمبر، كشف سرًا لم يكن سرا في الواقع، حيث كشف أنه كان بالفعل مؤسس مجموعة فاغنر شبه العسكرية. في عام 2014 وفي أكتوبر الماضي، في سانت بطرسبورغ، أنشأ المقر الرئيسي لـ “شركة فاغنر العسكرية الخاصة”، التي لديها الآن واجهة متجر، في مبنى زجاجي فاخر. وهو يعترف، علانيةً أيضاً، بأن جماعته تقاتل في أوكرانيا، وخاصة في بخموت شرق البلاد، على حساب خسائر فادحة، يتكبدها و لا يطيل الحديث فيها . بالمقابل يُظهر مقاطع فيديو صادمة، وفرط نشاط على تيليجرام، وتعليقات على ايقاع “بازوكا” على “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، لا يمر أسبوع دون أن يرتفع صوت بريغوفين وهو رجل اتصال فائق.«
في أوكرانيا، مزايا فاغنر هي في المقام الأول نتيجة لحملة علاقات عامة قوية. وقد قال مارات غابيدولين، العضو السابق في فاغنر” يعتقد السكان الروس أن رجال فاغنر يحتلون نصف الخطوط والجبهة، في حين أنهم في الواقع يعملون في منطقة واحدة فقط».
الهروب
سوف تتسارع صورة تعظيم تنظيم ميليشيا فاغنر ، إلى جانب الحملة ضد وزير الدفاع سيرجي شويجو ورئيس الأركان فاليري جيراسيموف الذين تم تحميلهما كل الشرور. وفي عالم لا تخرج فيه المشاجرات والأحقاد عادة علنا من جدران السلطة، فإن هذه الإهانات العلنية قد انفجرت. فقد تتابعت مقاطع الفيديو، ودائمًا ما تكون أكثر عدوانية وخشونة. ففي فبراير ، ظهر بريغوجين، بالزي العسكري، أمام نحو 15 جثة مصفوفة على الأرض. “لقد مات رجالنا بالأمس. على من يقع اللوم؟ أولئك الذين كان عليهم أن يقرروا تزويدنا بالذخيرة الكافية. “كان ينبغي أن يأتي التوقيع النهائي من غيراسيموف وشويغو”، صرخ بريغوجين. وفي نفس الفيديو، يستخدم إيحاءات شعبوية وينتقد الأثرياء الهاربين إلى الشواطئ خارج الوطن للسياحة. “يستخدم أطفال النخبة مستحضرات الوقاية من الشمس ويتباهون بها على وسائل التواصل الاجتماعي في حين يعود أطفال الناس العاديين ممزقين، محمولين في الزنك”، في إشارة إلى المعدن الذي تصنع منه التوابيت العسكرية، لعدم توفر الأسلحة. “ و يضيف زعيم فاغنر “هناك قذائف. لكن الأمر يحتاج إلى سياسيين، وأوغاد، للتوقيع من أجل تسليمها.»
فهل كان بريغوجين يحلم إذن بمصير وطني، من أجل المخاطرة بتحدي قوة لا تتسامح مع الكثير؟ وهل يظن أن لديه التطمينات الكافية ليدوس الخطوط الحمراء الواحدة تلو الأخرى؟ النكسات التي تعرض لها لم تهدئه. وفي فبراير، يُمنع من التجنيد في السجون، الخزان الرئيسي لفاغنر. وقبل فترة وجيزة، تم عزل الجنرال سيرجي سوروفيكين، المشهور بأنه أحد المقربين منه، من قيادته على رأس الجيوش في أوكرانيا. وبحسب ما ورد جاءت تعليمات من الكرملين بعدم ذكر اسم بريغوجين على القنوات الفيدرالية - وفي يناير ، ظهر في قائمة أكثر عشر شخصيات إعلامية نقلاً عنها. مع الإشارة إلى أن فلاديمير بوتين نفسه اضطر إلى التدخل لوضع “طباخه” في مكانه . ربما كان ملتزم جدًا أو منتش جدًا بكلماته، يتجاهل بريغوجين التحذير ويسرع في اندفاعه المتهور. حتى الآن،كان يحترم الرئيس، ولكنه يهاجم في أبريل “رجلًا عجوزًا”، لم يذكر إسمه. وسوف ينكر أنه فكر في بوتين، ولكن من دون إقناع. وفي نهاية شهر مايو ، يحطم محرماً جديداً، وهو الأخير، بنفي التاريخ الرسمي لروسيا خلال الحرب في أوكرانيا،تاريخ بلد سلام و ضحية هجمات نازية و غربية و يقدم دمه قربانا من أجل نصر مؤكد .«لقد وصلنا إلى أوكرانيا مثل الأفراس. مشينا في جميع أنحاء المنطقة بأحذيتنا الكبيرة بحثًا عن النازيين. لقد تقدمنا إلى كييف، وضربنا بعضنا البعض. نحن في وضع حيث يمكننا ببساطة أن نخسر روسيا. «
الربان الوحيد
القفزة الأخيرة والتي كان لا بد من القيام بها تمت في نهاية شهر يونيو عندما أعلن زعيم فاغنر نفسه أمير حرب متحرر من اوامر أسياده السابقين الذين يقوم بمهاجمتهم حيث تستولي قواته على روستوف أون دون. ويفغيني بريغوجين، الربان الوحيد على متن السفينة، يستعرض عضلاته في مقر قيادة الجيش الروسي الذي تم الاستيلاء عليه، بين جنرال والرجل الثاني في وزارة الدفاع الذين كانا يكافحان لإخفاء وضعيهما كسجينين. الكتائب التي تشكلت لتهجم على كييف تتجه نحو موسكو. وعندها وصفه بوتين في بيان دون أن يذكر اسمه بالخائن ويعده بعقوبة رادعة.
في هيئة المتمرد، يتباهى الطباخ السابق على شبكات التواصل الاجتماعي، ويبدو أنه لا يرى أن المجرة القومية المتطرفة التي كان يعتقد أنه قدوتها، سوف تدير ظهرها له. ومع ذلك، فإن الملحمة تقترب من نهايتها. بريغوجين نفسه، محيرًا كالعادة، يضع حدًا لذلك. و قد أعلن في بيان على تيليغرام أنه تفاوض على حصانة رجاله ونفيه في مينسك. لا أحد كان يعتقد حقًا أن هذا يمكن أن يكون حلاً دائمًا. ولكننا ظللنا نرى بريغوجين يستعرض قوته في القمة الروسية الأفريقية في سانت بطرسبرغ في يوليو ، ثم في الأيام الأخيرة، على الأرض في منطقة الساحل بملابس الجندية ولا يعلم أن أيامه كانت معدودة. أم أنه كان يعلم؟