الاستفتاء لم يغلق القوس:

وضع كاليدونيا الجديدة رهان بالنسبة للصين...!

وضع كاليدونيا الجديدة رهان بالنسبة للصين...!

-- يقود موقع الأرخبيل أستراليا ونيوزيلندا أيضًا لمراقبة أي تطور سياسي في كاليدونيا الجديدة
-- يعتقد الانفصاليون أن التقارب الاقتصادي مع الصين يمكن أن يعوض خسارة الدخل بعد الانفصال عن فرنسا
-- من خلال الوجود النشط في نوميا، يمكن للصين أن تغلق قوس نفوذها المتنامي في العديد من جزر المحيط الهادي
-- ستنتظر الصين حتى يتم إبرام الاتفاقات بين باريس ونوميا قبل أن تعاود الظهور بشكل نشط في الأرخبيل

 
   لا يتمتع القادة الصينيون بتكوين يؤهلهم لفهم العمليات الانتخابية. والاستفتاء على الاستقلال الذي جرى في 12 ديسمبر في كاليدونيا الجديدة فيه شيء يثير حيرتهم. هناك انتخابات محلية في الصين حيث يؤطر الحزب الشيوعي الفائزين في أغلب الأحيان. وبالمقارنة، فإن انتخابات الغرب، وخاصة على الأراضي الفرنسية، تتميز بالحرية، وفي كاليدونيا الجديدة، بوجود جسم انتخابي متنوع.

   يمثل الكاناك، السكان الأصليون للأرخبيل، حوالي 47 بالمائة من السكان. ممثلوهم، أساسا جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية، يناضلون من أجل كاليدونيا الجديدة مستقلة وسيصبح اسمها كاناكي، طلبوا تأجيل الاقتراع بسبب وباء كوفيد، واستنجدوا بمجلس الدولة الذي لم يقبل حججهم. لذلك دعوا مؤيديهم الى عدم التصويت. ونتيجة لذلك، بلغ معدل الامتناع عن التصويت 56 فاصل 13 بالمائة. أما بالنسبة للكاليدونيين من أصل أوروبي -ما يقرب من 30 بالمائة من السكان –فقد تنقلوا بأعداد غفيرة وبلغت نسبة “لا” 96 فاصل 5 بالمائة من الأصوات.


   كل هذا يثير الاستغراب -وليس فقط من بكين -لأن اتفاقية نوميا، عام 1998، وضعت قواعد لهذا الاستفتاء. إذا، على سؤال “هل تريد أن تحصل كاليدونيا الجديدة على السيادة الكاملة وتصبح مستقلة؟”، يفوز “لا” عام 2018، يجب تنظيم اقتراع آخر عام 2020، ثم تصويت ثالث عام 2021، في صورة ظلت “لا” تتمتّع بالأغلبية. وفي كل مرحلة من هذه المراحل، فازت “لا” بنسبة 56 فاصل 4 بالمائة من الأصوات عام 2018، و43 فاصل 6 بالمائة عام 2020.
   أن يتم رفض الموافقة على استقلال كاليدونيا ثلاث مرات، دفع إيمانويل ماكرون إلى إعلان أنه “أخذ علما” باختيار سكان كاليدونيا البقاء “في الجمهورية”. وأضاف الرئيس الفرنسي، أن “فرنسا أجمل لأن كاليدونيا الجديدة قررت البقاء داخلها”. لكنه أعلن أيضا، أن المناقشات المقبلة لن “تقتصر على المؤسسات”، وأن الدولة والمؤسسات المحلية يجب أن “تعمل معا” في “العديد من المواضيع”. وهنا لا بد أن نتوقع الحديث عن الاستراتيجية الصناعية، خاصة فيما يتعلق بالنيكل، أو المالية المحلية التي تعاني من عجز كبير، أو مكافحة التفاوت الاجتماعي الذي يتفاقم بشكل حاد.

أوراق رابحة
 تتصيّدها الصين
  إذا نظرنا من بكين، يُحتمل أن تبدو العملية الانتخابية في كاليدونيا معقدة بشكل خاص. وبدلاً من الدخول في تعليقات مطولة، فضلت وسائل الإعلام الصينية الاكتفاء بتقديم تقارير موجزة عن نتائج هذا الاختبار.
   ومع ذلك، خلال حملات الاستفتاء المتتالية هذه، كانت إحدى حجج الموالين، مؤيدي “لا”، هي تكرار أن كاليدونيا الجديدة المستقلة ستقع بسرعة تحت سيطرة بكين.
   والصين، التي أصبحت الآن قوة عظمى، لا تخفي اهتمامها بكاليدونيا الجديدة: أولاً، من الناحية الاقتصادية، سيكون من المفيد للأسطول الصيني، المدني والعسكري، أن يرسو في ميناء المياه العميقة نوميا. ولا يعني هذا أن هذه المدينة قريبة من الصين -فهي على بعد 7640 كيلومترًا من شنغهاي -ولكن الاستقرار هناك سيسمح لقوارب الصيد الصينية بالاستفادة من 1.74 مليون متر مربع من المنطقة الاقتصادية الخالصة لكاليدونيا الجديدة حول سواحلها.
   من ناحية أخرى، من خلال التواجد النشط في نوميا، يمكن للصين أن تكمل وتشرف على وجودها المتنامي في العديد من جزر المحيط الهادئ. في فيجي وفانواتو وبابوا غينيا الجديدة، تقدم الصين مساعدات كبيرة منذ عدة سنوات مقابل استغلال الموارد المحلية. وهكذا، تم إنشاء قوس من التأثير الصيني، في سياق “طرق الحرير الجديدة”، حول بحر المرجان. كل ما ينقص هو كاليدونيا الجديدة لإكمال هذه الاليّة الاستراتيجية.
   وتظل مناجم النيكل الواقعة في غراند تير، جزيرة كاليدونيا الرئيسية، ذات أهمية كبيرة للصين. يوجد هناك ما بين 20 و30 بالمائة من احتياطيات النيكل المعروفة في العالم. وعام 2020، تم بيع أكثر من ثلثي الخام المستخرج -أي 3.4 مليون طن سنويًا بقيمة 197.2 مليون دولار -إلى الصين.
   ويستخدم هذا النيكل بشكل أساسي في إنتاج الفولاذ المقاوم للصدأ، وفي صناعة البطاريات الكهربائية. ومن وجهة النظر الصينية، من الواضح أنه سيكون مهمّا امتلاك القدرة على التصرّف بحرية في النيكل الكاليدوني مقابل مساعدة ممنوحة لكاليدونيا الجديدة. من المفهوم ضمنيا، أنه إذا كانت مناجم نيكل كاليدونيا تحت السيطرة الصينية، فلن تكون هناك أية إضرابات أو حركات اجتماعية أخرى، كما حدث في السنوات الأخيرة، توقف الإنتاج أثناء المفاوضات بين الإدارة والنقابات، ولن تتتالى المجموعات الدولية على استغلال مناجم النيكل.

دعم الانفصاليين
   في كل الأحوال، باستثناء مناجم النيكل، ترى بكين العديد من الاحتمالات الأخرى للتعاون مع كاليدونيا الجديدة. في أكتوبر 2017، برفقة عشرات القادة الاقتصاديين الصينيين، أمضى السفير الصيني لدى فرنسا تشاي جون أكثر من أسبوع في الأرخبيل، بدعوة من جمعية الصداقة بين الصين وكاليدونيا، القريبة من جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية.
   في ذلك الوقت، كانت الفرضية القائلة بأن “نعم للاستقلال ستفوز في استفتاء 2018” هي السائدة. لذلك التقى الدبلوماسي الصيني والوفد المرافق له بمسؤولين منتخبين في كاليدونيا ورجال أعمال. وقد سالوا قادة جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية، بشأن ما يمكن أن يكون مفيدًا لهم، مشددين على المكاسب التي ستحققها كاليدونيا الجديدة بالاقتراب اقتصاديًا من الصين.
   وسواء كان ذلك في الزراعة أو صيد الأسماك، يمكن للصين أن تقدم المساعدة في المعدات أو التكوين. ومن المجالات الأخرى التي تم تسليط الضوء عليها، السياحة، وهو قطاع كان يمثل 4 بالمائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي لكاليدونيا الجديدة قبل الحجر الصحي بسبب كوفيد.
وأشار الوفد الصيني بشكل خاص إلى فكرة بناء فنادق للسياح الصينيين يديرها موظفون صينيون.
   تم الاستماع إلى هذه المقترحات باهتمام في الدوائر الانفصالية في كاليدونيا.
 لا سيما من قبل جمعية الصداقة الصينية -الكاليدونية برئاسة كارين شان سي فان. وقد أصبحت هذه الاخيرة مديرة مكتب روش واميتان، رئيس جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية، الذي يرأس الكونجرس الكاليدوني منذ أن فاز الانفصاليون بالانتخابات المحلية في مايو 2019.
   ولتعزيز العلاقات الجيدة مع الصين، تمت دعوة روش واميتان إلى بكين في الربع الأول من عام 2020. وأدت جائحة كوفيد-19 إلى إلغاء هذه الزيارة. غير ان بكين قدمت منحا دراسية للدراسة في الصين لطلاب الكاناك.
   وأوضح روش واميتان في أكتوبر 2020، في اليوم التالي للاستفتاء الثاني: “ترغب الصين في مساعدتنا، لكن لا حيلة لنا لأننا لا نمتلك المبادرة الرئيسية فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية... اننا نفعل ذلك من خلال الهامش الذي يتركه لنا وضعنا القانوني”. وأضاف في مقابلة مع صحيفة لوموند: “لسنا خائفين من الصين، هي لا تزعجنا كثيرا، ولن نتظاهر بأنها غير موجودة”. ويعتقد الانفصاليون أن التقارب الاقتصادي مع الصين يمكن أن يعوض خسارة الدخل التي قد تتأتّى بعد الانفصال عن فرنسا.

الحكم (الذاتي) السليم للكاناك
   بالإضافة إلى ذلك، فإن اللجوء إلى الصين سيسمح بالانفصال عن تاريخ العلاقة بين فرنسا وكاليدونيا الجديدة. عام 1853، تحت حكم نابليون الثالث، تم إعلان الأرخبيل فرنسيًا، وبذلك أصبح العنصر الثالث في المستوطنات الفرنسية في المحيط الهادي إلى جانب جزر تاهيتي وماركيساس. وتطورت حركات الاستقلال في الربع الأخير من القرن العشرين من خلال المطالبة بهوية الكاناك وتفعيلها من أجل الاستقلال. وتم تأسيس جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية عام 1984.
   عام 1988، في كهف بجزيرة أوفيا، أخذ الانفصاليون المتطرفون سبعة وعشرين من رجال الدرك كرهائن. في 5 مايو، قبل ساعات قليلة من الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بين جاك شيراك فرانسوا ميتران، شن كوماندوس عسكري هجوما على الكهف، أدى الى مقتل 19 من الانفصاليين ورجلين اثنين من الدرك.

    بعد إعادة انتخاب فرانسوا ميتران، كانت العودة إلى الهدوء في كاليدونيا الجديدة واحدة من أولى القضايا التي سيديرها رئيس الوزراء الجديد، ميشيل روكار. تمكن هذا الاخير من تهدئة الوضع في الأرخبيل من خلال توقيع اتفاقيات ماتينيون في 26 يونيو، والتي فتحت مسارا نحو إنهاء استعمار الإقليم. بعد عشر سنوات، في 5 مايو 1998، تم الانتهاء من العملية وتوضيحها من قبل حكومة ليونيل جوسبان بموافقة نوميا.
 واعتقد كثيرون حينها أن استفتاء واحدا سيسمح باستقلال كاليدونيا الجديدة.

   ولكن، بعد استفتاء 12 ديسمبر، احتفظت كاليدونيا الجديدة بمكانتها في مجموعة ما وراء البحار ولا تزال تخضع للسلطة الفرنسية.
   من جهة اخرى، من الناحية الجغرافية، تقع كاليدونيا الجديدة في مقدمة سور مواجه للنفــوذ الصيني في المحيط الهادي.
 ويقود هذا الموقع أستراليا ونيوزيلندا أيضًا لمراقبة أي تطور سياسي في كاليدونيا الجديدة. إن هذين البلدين، المنتميان للثقافة الإنجليزية لهما مبدئيا مصلحة في التفاهم الجيد مع فرنسا رغم أن أستراليا لم تذهب حقًا في هذا الاتجاه الصيف الماضي، بتخلّيها المفاجئ والصادم عن عقدها لشراء غواصات فرنسية لصالح الغواصات الأمريكية.

  في كاليدونيا الجديدة، توقفت العلاقات بين مسؤولي الكاناك والحكومة الفرنسية. وعندما أعلن سيباستيان ليكورنو، وزير أقاليم ما وراء البحار، أنه سيكون حاضرًا في نوميا يوم التصويت على هذا الاستفتاء الثالث، أشارت جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية في بيان صحفي، إلى أنه “امام تعنّت الدولة للحفاظ على تاريخ الاستفتاء في 12 ديسمبر 2021، تعارض جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية، والقوميين، جميع المناقشات وأي اجتماعات مع وزير أقاليم ما وراء البحار قبل الانتخابات الرئاسية».

   ومن المرجح أن تُستأنف المناقشات بشأن وضع كاليدونيا الجديدة تحت الفترة الرئاسية القادمة. وفي الانتظار، في اليوم التالي للاستفتاء الذي اعتبرت جبهة التحرير الوطني كاناك والاشتراكية، أنه لا قيمة له، أشار روش واميتان، إلى أن كاليدونيا الجديدة مدرجة على قائمة الأمم المتحدة “لإنهاء الاستعمار”، وأنه لا يزال يرغب في “السير بهذا البلد ببطء نحو التحرير».

   من المحتمل أن يتم فتح نقاش واسع بين ممثلي الكاناك والكالدوش لتحديد ما إذا كان ينبغي للأرخبيل أن يسير باتجاه الاستقلال أو، بالنظر إلى نتائج الاستفتاءات الثلاثة خلال ثلاث سنوات، سيكون من الضروري التفكير في شكل متجدد من الارتباط مع فرنسا.
   في يونيو الماضي، في باريس، انتهت مناقشات دارت بين الدولة ومختلف الأطراف الفاعلة الى تصوّر فترة “استقرار وتقارب”، تنتهي في يونيو 2023 باستفتاء جديد حول “مشروع” يضع نظامًا أساسيًا لكاليدونيا الجديدة.

   من المؤكد أن كل هذه الاتجاهات ستتم مراقبتها عن كثب في بكين. فالوضع في كاليدونيا الجديدة ليس بهذه البساطة بالنسبة للصين كما لو أن “نعم للاستقلال” كانت قد فازت. وهي ليست في وضع يسمح لها بفرض نفوذها في مفاوضات جديدة بين الحكومة الفرنسية وممثلي سكان كاليدونيا. ولا شك أن الصين ستنتظر حتى يتم إبرام الاتفاقات بين باريس ونوميا، قبل الظهور بشكل نشط في الأرخبيل.