رئيس الدولة ورئيس حكومة إقليم كردستان العراق يؤكدان على تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة
من «ضربة العقرب» إلى «غيران2»
«المقاتلات الانقضاضية» تشعل سباق التسلح العالمي
تعرف منظومة صناعة الأسلحة حالة سباق استثنائية وغير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث انخرطت كلّ من الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، في مسار تطوير المقاتلات الانقضاضية.
ويبدو أن هذه المقاتلات لن تكون فقط عنوان الحروب الجوية المقبلة، بل ستُحدث تغييراً كبيراً في العقيدة العسكرية والقتالية للنزاعات الإقليمية والدولية.
وفجّرت الولايات المتحدة الأمريكية، مؤخراً، مفاجأة كبرى في مشهد تصنيع المقاتلات الانقضاضية، حيث أعلنت القيادة المركزية الأمريكية عن تشكيلها فرقة عمل جديدة في منطقة الشرق الأوسط، لأوّل سرب طائرات مسيّرة انقضاضية تابعة للجيش الأمريكي.
ضربة العقرب
ووفق القيادة المركزية الأمريكية centcom، فقد أُطلق على هذه الفرقة اسم «ضربة العقرب»، وذلك بعد 4 أشهر فقط من توجيه وزير الحرب الأمريكي بيت هيغسيث للبنتاغون بتسريع عملية اقتناء ونشر تكنولوجيا الطائرات المسيّرة بتكاليف مادية زهيدة.
وشكلت فرقة العمل الأمريكية الجديدة سرباً من الطائرات المسيرة من طراز «لوكاس»، وهي مقاتلات منخفضة التكلفة، وذات فاعلية تدميرية واسعة.
وبحسب مصادر عسكرية مطلعة في الشرق الأوسط، فإنّ البرنامج يمتد على سنتين فقط «2026-2028»، وقد وضعت له وزارة الحرب سقفاً زمنياً وتسليحياً واضحاً، حيث من المقرر أن تبلغ الترسانة الأمريكية من هذه المقاتلات نحو 300 ألف مقاتلة انقضاضية.
ومن المنتظر أن تكون بحوزة أمريكا 30 ألف مسيرة انقضاضية في يوليو تموز 2026، قبل أن يجري تسليمها 200 ألف أخرى بحلول 2027، على أن يتجاوز العدد الإجمالي 300 ألف في 2028.
عقيدة عسكرية جديدة
وتعبّر تسمية المقاتلة LUCAS عن العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة، حيث إنها اختصار لعبارة بالإنجليزية قوامها تُختصر لعبارة Low-cost, Utilized, Configurable, Airborne System ، أي ما يمكن ترجمته بـ «نظام جوي منخفض التكلفة، مستغل، قابل للتهيئة».
وتشكل هذا المنظومة القتالية الجوية الجديدة منعطفاً في الإستراتيجية الجوية الكلاسيكية التي كانت قائمة أساساً وحصراً على المسيرات الثقيلة.
وخلال بسطها لخاصيات LUCAS، تؤكد المصادر العسكرية الأمريكية أنّ للأخيرة مجموعة من الخصائص القتالية، غير أنّ أهمّها يكمن في بُعدها «الاندماجي»، أي إمكانية أن تتحول إلى عدّة أنواع من المسيّرات، الأمر الذي يوفر مرونة لوجستية استثنائية في ساحة المعركة.
بإمكان هذه المسيّرات أن تكون مسيرة انقضاضية من خلال تركيب رأس حربي صغير، كما يمكن أن تكون مسيرة استطلاع وتجسس، عبر تزويدها بكاميرات متطورة للمراقبة والرصد وجمع المعلومات، كما يمكن أن تكون مسيّرة حرب إلكترونية من خلال تركيز أجهزة تشويش صغيرة لتعطيل اتصالات العدو.
كما تتمثل ميزات المقاتلة «لوكاس» في تكلفتها المنخفضة للغاية، الأمر الذي يجعل خسارتها في المعركة أمراً عادياً، ذلك أنها من نوع السلاح ذي الاتجاه الواحد ONE WAY، وهو ما يتقاطع مع الرؤية الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في التعويل على «الكمّ» المخترق لأحصنة العدو، عوضاً عن الارتهان للسلاح الكيفي الذي يستهدف الأهداف الكبرى وقد يعجز عن ضرب الأهداف الصغرى «فرقة صغيرة من الجنود، مدرعات صغيرة، عربات جند...».
وعلى الرغم من عدم الإفصاح عن تكلفة المسيرة، فإنّ التقديرات الأمريكية تذهب إلى أنّ سعرها سيكون أقل بكثير من سعر «شاهد 136» الإيرانية التي تبلغ قيمتها عشرات الآلاف من الدولارات، وهو ما لا يمكن التّسليم بمصداقيته دون تأكيده من مصادر مستقلة.
غير أنّ الميزتين الأكثر أهمية اللتين تتميز بهما عن كافة المقاتلات الأخرى، هما أوّلا اعتمادها على قوّة الدفع الكهربائي عوضاً عن البنزين، ما يسمح لها بـ «التخفي الصوتي والمرئي» حيث إنها لا تحدث ضجيجاً في السماء، الأمر الذي قد يعسّر نسبيا عملية التفطن إليها.
أما الميزة الثانية فهي ميزة «الهجوم السربي عبر الذكاء الاصطناعي»، إذ إنّها تقاتل ضمن سرب كامل، وبأوامر تتخذها وفق برمجيات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، الذي يتيح لها تحديد الأهداف أو تغييرها خلال زمن تحليقها في السماء، ودون تدخّل بشريّ مسبق.
وعلى الرغم من كل هذه الميزات، فإنّ بعض المصادر العسكرية والسياسية الروسية والإيرانية، أبدت تشكيكها في النجاعة القتالية لـ «لوكاس»، إذ استبعدت أن تكون لها القدرة على بلوغ أهداف بعيدة المدى تتجاوز 1000 كيلومتر، وذلك بالنظر لحدود قوة الدفع الكهربائي، ثمّ - وهو الأهم - إمكانية التشويش عليها بمجرد اختراق منظومتها الخوارزميات المعتمدة، وبالتالي ففرضية أن تصبح سلاحاً معادياً للقوات الأمريكية تكون قائمة جداً.
وبغض النظر عن هذه الاستدراكات، فمن الواضح أنّ واشنطن باتت تفكر جدياً في سيناريوهات حروب المسيّرات الانقضاضية مع إيران أساساً، ومع روسيا والصين في مرتبة ثانية، لا سيما أنّ الحرب الروسية الأوكرانية، والحروب الأخيرة التي خاضتها إسرائيل، كشفت عن تغييرات كبيرة في منظومة الحرب الجوية.
الصين في قلب المعادلة
في المقابل، دفعت الصين، مؤخراً، بفخر بصناعات عسكرية متطورة في مجال المقاتلات الانقضاضية ممثلة في «لونغ إم 9»، حيث أظهرت مشاهد تلفزيونية تجربة حية لهذه النوعية الحديثة من المقاتلات.
وأكدت مصادر صينية مطلعة أنّ شركة «Loong UAV» الصينية لتصنيع الأسلحة، كشفت عن هذه المسيرة، مؤخراً، وبدأت في إجراء اختباراتها الحية، التي أثبتت إمكانية أن تقطع مسافات طويلة تصل إلى 1620 كيلومتراً، ما يعني أنّها تغطي مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي.
وتشير ذات المصادر إلى أنّ «لونغ إم 9» تتميز بجناح «دلتا» الذي يمنحها سرعة وقدرة على التحليق الطويل، لمدة تتراوح من 8 إلى 9 ساعات كاملة، دون أي انقطاع.
وتنتمي «لونغ إم 9» إلى فئة المسيّرات الانقضاضية الثقيلة نسبيا العاملة بمحرك بنزين، ويسمح ثقلها بحمولة قتالية تسمح بتركيب رأس حربي مؤثّر وبقدرات استشعار متطورة، وهي بالتالي قادرة على ضرب أهداف إستراتيجية بعيدة في عمق دفاعات الخصم.
كما تشير التقارير العسكرية الصينية إلى أنّ المسيّرة مجهزة بنظام توجيه مزدوج، يتضمن التتبع البصري بالكاميرا ويؤمن قدرة تدمير من خلال الإحداثيات المبرمجة مسبقاً، مع إمكانية التشغيل في ظل التشويش المكثف.
غيران 2.. الخبر في الميدان
في مقابل التصنيع الأمريكي والصيني، تضع روسيا ميدان القتال في أوكرانيا كعنوان اختبار لمقاتلاتها الانقضاضية، وعلى رأسها «غيران2 GERAN»، التي أحدثت استنزافاً كبيراً في القدرات الدفاعية الأوكرانية، ومثلت خطوط الهجوم الأولى في الاندفاعة الروسية في الجغرافيا الأوكرانية.
وعلى الرغم من أنّ موسكو لا تخفي أنّ «غيران 2» هي في الأصل مقاتلة شاهد-136 الإيرانية، فإنّ الجهات الروسية المطلعة تفيد بأنّ موسكو أحدثت تغييرات تقنية وتكتيكية مهمة، أفسحت لها المجال لأداء تدميري واسع في المنظومة العسكرية الأوكرانية.
ويرجح الخبراء العسكريون أن تكون روسيا قد أقدمت على تغييرات مهمة من بينها تعديل بيانات «شاهد-136» وفق نظام الملاحة الروسي GLONASS عوضاً عن نظام GPS الذي تستخدمه المسيرات الإيرانية الموجهة للتصدير، إضافة إلى تطوير الحمولة القتالية عبر تضمين رأس حربي روسي جد متطور، مع إضافة شظايا لزيادة فاعلية التدمير.
بالإضافة إلى إعادة هندسة تَركيب القطع، قصد تطوير الأداء التدميري في ميادين قتالية قريبة، عوضاً عن المدى البعيد الذي من أجله صنعت مسيرة «شاهد».
ولا يستبعد الخبراء العسكريون أن تكون البصمة الروسية قد وضعت «غيران2» في مستوى متقدم على «شاهد 136»، فلئن عجزت الأخيرة عن اختراق المجال الجوي الإسرائيلي، واستنزاف الدفاعات الإسرائيلية، فإنّ «غيران2» أحدثت فرقاً رهيباً في الصراع العسكري في أوكرانيا لصالح روسيا.
ويشير الخبراء إلى أنّ القيمة العسكرية الكبرى لـ»غيران2»، لا تكمن فقط في قدرتها على تغيير المشهد العسكري في أوكرانيا ونقله من مستوى «التوازن النّسبي» إلى «التفوق الروسي الكاسح»، وإنما في تغيير الرؤية والعقيدة الاستراتيجية العالمية في ميدان «الصراع الجوي».
حولت منظومة «غيران 2» الصراع الجوي من مستوى «المقاتلات النّوعية الثقيلة والباهظة»، إلى «المقاتلات الكمية الخفيفة والزّهيدة»، ومن منظومة «القواعد العسكرية الكبرى، ومنصات الإطلاق والهبوط الثابتة»، إلى «منصات الإطلاق المتحركة ذات الاستعمال الواحد».
في المحصلة، تعرف الجبهة الروسية الأمريكية الصينية، حرب تصنيع جديدة، عنوانها الأبرز «المقاتلات الانقضاضية»، وأثرها الأعمق يكمن في تغيير هوية الحرب، وطبيعة المكاسرات.
قد يكون من الصعب أن نرى نزاعاً مباشراً بالمسيرات الانقضاضية بين هذه الدول الكبرى، ولكن المُسلَّم به أننا سنرصده ونلاحظه في جغرافيات وميادين قتالية بـ»الوصاية»، وما أكثرها.