في وقت يتلاشى فيه القانون الدولي و تفرض القوة نفسها كعامل أساسي في العلاقات الدولية ..

أوروبا لا تعيش ذَرْوَةَ مجدِها بل لحظةَ اختبارِها الحقيقي !


في عالمٍ تتغلب فيه القوة الغاشمة على القانون والتفاوض، حيث يجد الأوروبيون أنفسهم محصورين بين التحريفية الروسية المدعومة من الصين والضمانة الأمنية الأمريكية المتعثرة، تُواجه أوروبا موعدًا وجوديًا مع التاريخ. فهل هي مستعدة؟ بتنظيم مشترك من صحيفة لوفيجارو ومؤسسة توكفيل، وبدعم من مقاطعة المانش ومنطقة نورماندي وبلديات كوتنتان، تناولت «محادثات توكفيل» أوروبا ولحظة الحقيقة التي عاشتها يومي الجمعة والسبت الماضيين خلال مناقشاتها السنوية.
قد يرى البعض أنه من المفارقة وضع «ساعة أوروبا» في قلب النقاش، بينما تُسلّط الأضواء على الاستراتيجيات الامريكية والإسرائيلية ضد إيران، وهو مثال صارخ على دور توازن القوى. كان الأوروبيون بمثابة المراقبين العاجزين لهذا التسلسل، مُجبرين على استدعاء العودة إلى الدبلوماسية آليًا، دون أن يكون لديهم أدنى نفوذ للتدخل. على أرضهم، فشلوا في وقف الحرب واسعة النطاق التي شنتها روسيا على أوكرانيا، والتي تُعدّ اختبارهم الأعظم. 

في هذه الصورة تحديدًا من العجز والتهميش، تكمن أهمية هذا النقاش
. لا تعيش أوروبا ذروة مجدها، بل اختبارها الحقيقي.
 من هذا المنظور، يُمثّل مؤتمر «زمن أوروبا، بين ثورة ماغا والنزعة التحريفية الروسية»، الذي يُفتتح يوم الجمعة المقبل ولمدة يومين في منطقة كوتنتان، بدعوة من مؤسسة توكفيل وصحيفة لوفيجارو للعام السابع على التوالي، دعوةً عاجلةً للتحرك. في وقتٍ يتلاشى فيه القانون الدولي وتفرض فيه القوة نفسها كعاملٍ أساسي في العلاقات الدولية، يقف الأوروبيون على موعدٍ وجوديٍّ مع التاريخ.
 عليهم الإسراع في تجاوز اعتمادهم طويل الأمد على المظلة الأمنية الأمريكية لبناء ركيزةٍ عسكريةٍ أوروبيةٍ مستقلة. ولكن هل سنعرف كيف نفكر في القوة ونحن نتخبط في أزمةٍ ديمقراطيةٍ وأخلاقيةٍ عميقة؟ مع وقوفهم على الحائط تحت وطــــــأة ســـــيف ديموقليس الثلاثي: 
حرب بوتين ، وتهديد ترامب بالتخلي الاستراتيجي، وتدهور العقد الاجتماعي داخل دولهم، يبدو كوكب الزهرة الأوروبي في الوقت الراهن «شبه غائب» عن اللقاء الذي فرضه عليه التحول البركاني للعالم. إنه موجودٌ دون أن يكون موجودًا.

 متحدٌّ إلى حدٍّ ما في حكم قادته على الصراع في أوكرانيا، لكنه عاجزٌ، بعد سباته الاستراتيجي الطويل، عن تقييم قواته، وبالتالي عن تعبئتها بالكامل. 
من المؤكد أن أوروبا تُدرك أن إعصار الحديد والنار الذي يُدمر أوكرانيا قد يصل إلى أراضيها، ربما في دول البلطيق.
 أعلنت الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف يـــــــوم الثلاثاء عن أهداف طموحة للإنفاق العسكري تحت ضغط «الإمبراطور ترامب». 
ولكن إذا حظيت فكرة نظام دفاع أوروبي مستقل بقبول واسع، فهل سيقتدي بها المواطنون؟ في عدد الاثنين الماضي من صحيفة «لوفيغارو»، أشار المؤرخ نيكولا بافيريز، المقتنع بالحاجة التاريخية الملحة لإعادة إحياء هذا النظام، إلى أن فرنسا، المثقلة بالديون والعاجزة عن إصلاح نظامها الاجتماعي الضخم، ليست على الطريق الصحيح. وتشير صحيفة «الإيكونوميست» إلى أن الرغبة في إعادة التسلح لا يبدو أنها تُترجم إلى رغبة في الخدمة في القوات المسلحة. «علينا حشد الإرادة السياسية الأوروبية لبذل المزيد من الجهد. هذه لحظة حاسمة لتحديد ما يوحدنا وما نحن عليه».

قال لنا مؤخرًا وزير الخارجية الليتواني كيستوتيس بودريس: «علينا أن ندرك أن القوة العسكرية أهم من أي شيء آخر، وأن نُظهر إرادتنا الصلبة للدفاع عن أنفسنا». 
ويلخص نيكولاس بافيريز في صحيفة «لوفيغارو»، الذي سيحضر مؤتمر توكفيل، الوضع قائلًا: «إما أن تنجح أوروبا في ترسيخ مكانتها كفاعل استراتيجي مستقل، قادر على ضمان الدفاع عن مؤسساتها وحضارتها وقيمها، أو أنها ستفقد سيادتها وحريتها وتصبح موضوعًا لمؤتمر يالطا جديد بين القوى الإمبريالية».

الاعتراف بوجود العدو
 روسيا بوتين ليست مجرد خصم جيوسياسي: إنها مشروع أيديولوجي للانتقام من التاريخ. وعلى عكس ما اعتقده قادتنا منذ زمن طويل، فإن الشمولية السوفيتية، على عكس «توأمها السيامي» النازي، لم تُهزم. بسبب غياب محاكمة لجرائم الشيوعية، انتهى الأمر بأنقاض النظام والاتحاد السوفيتي إلى ولادة ذرية مزعجة، نظام بوتين ، الذي يفتقر إلى أيديولوجية «والده» ولكنه احتفظ بأساليب الشيكا. 
وراء الرغبة في تفكيك أوكرانيا، نشأت إمبريالية وطنية انتقامية ومنفلتة، وشرعيتها الرئيسية اليوم هي استخدام العنف. حتى أن مستشار بوتين القانوني أعلن صراحةً أن «تفكك الاتحاد السوفيتي لم يحدث بحكم القانون. (...) هذا يعني أن الحرب في أوكرانيا شأن داخلي» .
يوحي هذا العدوان الخطابي بأن غزو إستونيا أو مولدوفا قد يكون مطروحًا، لاختبار تضامن الناتو. كما تشعر القيادة العسكرية بالقلق من الحرب الهجينة التي ترى أوروبا ان روسيا تشنها ضد الغرب.
 قطع الكابلات تحت الماء في بحر البلطيق، والهجمات الإلكترونية، ومؤامرة اغتيال ضد الرئيس التنفيذي لشركة راينميتال، أرمين بابرغر، لدعمه المجهود الحربي الأوكراني، والتسلل السياسي... والقائمة طويلة.  «يجب أن نكسر ظهر أوروبا»، هذا ما أعلنه سيرجي كاراجانوف، مستشار السياسة الخارجيـــة المخضرم في الكرملين.
 كما سلّط رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ التشيكي، بافل فيشر، الذي سيحضر أيضًا مؤتمر توكفيل، الضوء على ما يراه تدخلات روسية، عبر تيك توك وشبكات أخرى، في العملية الانتخابية. وخلال إقامته في بوخارست، «صُدم» من مدى التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي الذي أخبره به نظراؤه، الذين «لم يعودوا يدركون الشبكات، بعد أن غُسلت أدمغة الناس بحملات التضليل».
 ويلوح في الأفق أيضًا شبح الصين، التي ترتبط بها روسيا سياسيًا واقتصاديًا بسبب حربها في أوكرانيا. 

تحدي ثورة ترامب وتداعياتها التكتونية 
 هل هذه ثورة مضادة سيُضعف عنفوانها، الهادف إلى تدمير ثورة الهوية الثقافية اليسارية، في نهاية المطاف؟هل نشهد الآن تجاوزاتٍ من أنصار ترامب المتعصبين؟
 أم أننا نشهد بداية تفكك الديمقراطية الأمريكية، كما يُستنتج بعض الليبراليين والديمقراطيين على عجلٍ لا شك؟ لم ينتهِ النقاش بعد، لكن الترامبية تبدو بمثابة تحذيرٍ لديمقراطياتنا الليبرالية المأزومة، والتي يجب إعادة ترتيبها. 
وهي أيضًا تحذيرٌ جيوسياسي، لأن السياسة الخارجية التي ترفع شعار «أمريكا أولًا» تُجبرنا على التغيير.
كيف لنا أن نستغني عن أمريكا إذا ما قررت الرحيل؟
حتى أن التقارب المبدئي بين دونالد ترامب وبوتين أثار احتمالية انقلاب التحالف بشكل مذهل. لكن الحذر مطلوب، بالنظر إلى أساليب ترامب. قد تُنذر نجاحاته في الشرق الأوسط أيضًا بانقلاب في الموقف الرئاسي، الهادف إلى تكرار سيناريو «السلام بالقوة»، لوضع ثقل أوروبا وأمريكا خلف أوكرانيا. 
يتمثل السيناريو الأمثل في تحقيق التطور العملي لحلف أطلسي جديد أكثر توازناً، يحافظ على حلف الناتو، لكن مع وضع الجهد الدفاعي الأساسي على عاتق أوروبا، بينما تبقى الولايات المتحدة قوة الملاذ الأخير، على غرار التسلسل الإسرائيلي الأمريكي ضد إيران. يشير الباحث أندرو ميشتا إلى أن «العلاقة عبر الأطلسي ستتجاوز ترامب.
 يجب على الطرفين العمل معًا من أجل النهضة الثقافية لأسس الديمقراطيات الغربية» .
مع تبلور الانسحاب الأمريكي في عهد ترامب، يتطلب الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، قبل كل شيء، ثورة صناعية وعسكرية. تستورد أوروبا اليوم 64% من أسلحتها من الولايات المتحدة. وهو اختلال مكلف اقتصاديًا ومحفوف بالمخاطر الاستراتيجية.
 يوضح الخبراء أن مسألة الميزانية، التي أثارها ترامب في حلف الناتو، ليست المشكلة الوحيدة. ويؤكد بافل فيشر أن «تدفقًا هائلًا للأموال» دون إصلاح صناعة الدفاع الأوروبية المتهالكة والزائدة عن الحاجــــــة لن يُغيــــر الوضع جذريًا. 
ويقول: «فقط متطلبات التعاون الوثيق ستمنع الأموال من التبدد كتناثر الماء في الرمال». سيؤدي غياب التخطيط والسياسات الصناعية إلى خسارة تُقارب 30% من إجمالي الميزانية، أي 165 مليار دولار. 
وتشير التقارير إلى وجود 190 إصدارًا من أنظمة الأسلحة في أوروبا، مقارنةً بـ 33 إصدارًا في الولايات المتحدة، بميزانية ضعف هذا المبلغ.
 ويدعو بعض المراقبين العسكريين، المطلعين على «المعجزة العسكرية الأوكرانية»، إلى مواجهة هذه القيود من خلال التركيز على مزايا الدفاع منخفض التكلفة وخلق تآزر بين الشركات الناشئة والشركات الكبرى.
 وهــــــــذا يتطلب الاســـتلهام من فن الحــرب الأوكراني، القائم على التكنولوجيا واقتصاد الموارد. 
عندمــــــا نفكـــــر فــــي قــــــــــوة أوروبــــا، غالبًا ما ننسى إدراج الأصل المحوري الذي تُمثله أوكرانيا وإمكاناتها العسكرية والمدنية. 
بعد أن أصبحت أوكرانيا دولة إسبرطة حقيقية، مُستثمرةً بكثافة في الدفاع عن أرضها ونموذجها الديمقراطي، رغم الثمن الباهظ الذي تكبدته من دماء، تحظى بدعم الأوروبيين، الذين زادوا مساعداتهم المالية إلى 72 مليار دولار لتعويض الانسحاب المستمر للدعم الأمريكي. ويكشف استطلاع رأي حديث أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية عن تأييد الرأي العام لأوكرانيا واستمرار تسليم الأسلحة حتى مع توقف المساعدات الأمريكية.
لقد أدركت بلداننا أن كييف ليست مجرد ضحية، بل حليف، وحارس، وحصن منيع! يحتاج الأوروبيون إلى أوكرانيا بقدر ما تحتاجهم. إن الشراكة التي نبنيها بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، ولا سيما من خلال بدء مفاوضات الانضمام، استراتيجية.
 كما سرّع الأوروبيون تعاونهم الدفاعي من خلال منتدى الصناعات الدفاعية بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، وفريق عمل معني بالتعاون الصناعي الدفاعي. تهدف برامج مثل «البناء مع أوكرانيا» إلى إنشاء خطوط إنتاج للطائرات المسيرة والصواريخ والمدفعية في أوروبا، مع وجود اتفاقيات إنتاج مشترك قائمة بالفعل مع الدنمارك والنرويج ودول أخرى، مما يدمجها في القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية.
 يعول النائب الأوكراني أوليغ دوندا، الذي سيزور توكفيل يوم الجمعة، بشدة على فرنسا لتعزيز الاتحاد بين أوروبا وأوكرانيا، معتقدًا أنها يجب أن تأخذ زمام المبادرة في التعاون الصناعي الدفاعي. 
كما أنه يحث باريس على المبادرة لحشد 200 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة، لخدمة صناعة الدفاع. 
يكمن السؤال التالي في جوهر إعادة تسليح أوروبا : هل يُمكننا إعادة التسلح فعليًا دون إعادة تسليح أخلاقي؟ تتطلب هذه المسألة عدة مستويات من الاستجابة. يرتبط المستوى الأول بالأزمة الديمقراطية التي تُضعف شرعية قادتنا في إقناع الناس بعواقب إعادة التسلح التي تنطوي على تضحيات. هذه هي الصعوبة التي يواجهها إيمانويل ماكرون، المُستعد لتولي القيادة الاستراتيجية الطبيعية التي يوفرها الوضع النووي والعسكري الفريد لفرنسا، لكنه يُتهم بالتظاهر بأنه أمير حرب عندما فشل في الاستجابة بشكل مُقنع للتحديات الخطيرة التي تُمثلها الهجرة، وانعدام الأمن المُتفشي، والإسلاموية، والطائفية في البلاد. لا يجد التجمع الوطني، الذي يُقلل من شأن التهديد الروسي ويبدو أكثر ميلًا للتسوية مع الكرملين، صعوبة في مُقارنة موقف ماكرون الحازم تجاه أوكرانيا بضعف موقفه داخل البلاد. 
من نقاط الضعف في السياسة الفرنسية والأوروبية أنها عجزت لفترة طويلة عن مراعاة عدة تهديدات في آنٍ واحد، إذ قلّل اليمين طويلًا من شأن الخطر الروسي، بل ونفاه، بينما تجاهل اليسار قضايا الهجرة والهوية. يبدو أن حزب الجمهوريين في فرنسا وحده هو من يرسم ملامح هذه التركيبة. وفوق هذا، تلوح في الأفق الأزمة الأخلاقية التي تمر بها المجتمعات الغربية، «أزمة مجتمع مائع تخلى عن كل دوافعه القوية، تلك التي رسّخت جذوره ومنحته الرغبة في الدفاع عن نفسه»، كما يشير رئيس تحرير مجلة «فيرست ثينغز»، راستي رينو، مشيرًا بقلق بالغ إلى أن «80% من المشاركين في الاستطلاع في ألمانيا يقولون إنهم لن يقاتلوا من أجل وطنهم».يوضح هذا المفكر الكاثوليكي الأمريكي أن هذه الأزمة هي النتيجة المتأخرة للصدمة الهائلة التي ولّدتها أهوال الحرب العالمية الثانية. ويوضح رينو أن الشعور بالذنب الناجم عن هذا الانفجار أدى إلى نفي «مفهوم» ومتعمد، نظّر له المفكر كارل بوبر، «لجميع المشاعر القوية» كالدين والأمة والأسرة. وقد فتح التفكك المتعمد «لجميع النقاط المرجعية الصلبة» الطريق أمام ترامب، الذي استطاع استغلال هذه الحاجة العميقة لتحويلها إلى مشروع سياسي. 
نصيحته: التوقف عن تشويه سمعة الوطنية أو الدين باسم تجاوزاتهما المحتملة. ويشارك عالم الاجتماع جان بيار لو جوف فكرة «أزمة الشعور بالذنب المدمرة التي سمحت لليسار بإضفاء طابع مؤسسي على تفكيك جميع أسس التراث الغربي». ويشير إلى أنها أدت إلى «انهيار كبير في عملية النقل أثر على النسيج المجتمعي والتعليمي بأكمله». يعتقد أن التحدي الذي تواجهه أوروبا، وخاصة المحافظون، هو «إعادة النظر في هذا التراث برؤية جديدة لاستخلاص منه مصادر بداية جديدة». بداية، انطلاقًا من التجاوزات الاستبدادية لتجربة ترامب، من شأنها بناء ليبرالية محافظة مستنيرة، تعيد احتضان السلطة والشمولية والقوة، مع حماية نموذجنا الديمقراطي. 
في هذا السياق، يستحق سؤال دور الجذور المسيحية لأوروبا، الذي تجاهله القادة الأوروبيون بحزن من النقاش العام حتى لا يسيئوا لأحد، أن يُطرح مجددًا. ليس للاستبعاد، بل للتثبيت. «يجب أن نكون جميعًا مسيحيين ثقافيين»، يوافق الفيلسوف باسكال بروكنر، الذي سينضم إلينا في توكفيل. ويضيف: «إنها الأداة الوحيدة التي نملكها» للهروب من ذنب الغرب الذي يشلنا، معتبرًا أن «الوقت لم يفت أبدًا وأن القوى التي تهددنا أضعف منا» .