أعداء الأمس أفضل الأصدقاء

الأزمة في أوكرانيا تنشّط الروابط بين روسيا والصين

الأزمة في أوكرانيا تنشّط الروابط بين روسيا والصين

-- موقف الصين بخصوص الالتزام بالعقوبات الغربية من عدمه، سيحدد حجم العزلة الاقتصادية والسياسية التي ستطال موسكو
-- كلما ازدادت المواجهة مع المعسكر المنافس، ينمو الترابط التجاري الصيني الروسي
-- في حال فرض عقوبات غربية، ستضطر الصين لأن تصبح لاعبًا مهمًا في الأزمة الأوكرانية
-- لا تعتبر الصين الحرب بين روسيا وأوكرانيا قضية هامشية، لذا ستكون بكين أكثر انخراطًا في مثل هذه الأزمة
-- دعم الصين لغزو روسي لأوكرانيا سيثير ذعر الولايات المتحدة


   أدت التوترات الروسية المتزايدة مع الولايات المتحدة وحلفائها بشأن احتمال الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى تنشيط العلاقات بين موسكو وبكين. وتُظهر السلطات الصينية بوضوح دعمها لفلاديمير بوتين ضد الولايات المتحدة.   
  من بين علامات دفء العلاقة بين الجارتين، مواقف الحكومة الصينية دون التصريح علنًا عن الضوء الأخضر لمثل هذا الغزو، ولم يتأخر شي جين بينغ في الإعلان عن أن روسيا والصين سترتبطان أكثـــــر من أي وقت مضى بقضايا جيواستراتيجية.

    «بوتين وشي جين بينغ، رغم الاختلافات الواضحة حول المجالات الرئيسية، غالبًا ما يكونان على نفس الموجة عندما يحتاج الرئيس الروسي إلى الدعم السياسي والاقتصادي من نظيره الصيني، في حال قرر المخاطرة بفرض عقوبات وخسائر حتمية إذا تم غزو “أوكرانيا”، أوضح في مقال راي يوم الاثنين 24 يناير، توماس جراهام، السفير الأمريكي السابق للحد من التسلح.

«مخاوف معقولة»
   لكن يوم الخميس، 27 يناير، اتخذت الصين خطوة حاسمة، حيث أعلنت دعمها “للمخاوف المعقولة” لموسكو فيما يتعلق بأوكرانيا. وقال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في مقابلة هاتفية مع وزير الخارجية الأمريكي بلينكين: “يجب أخذ مخاوف روسيا الأمنية المعقولة على محمل الجد ومعالجتها».
ودون تسمية الناتو، اوضح رئيس الدبلوماسية الصينية، بأن “الأمن الإقليمي العالمي لا يمكن ضمانه من خلال تعزيز أو توسيع الكتل العسكرية. وندعو الأطراف كافة إلى التهدئة والامتناع عن زيادة التوتر وتصعيد الأزمة».

   من جهته، شدد أنطوني بلينكن على “المخاطر الأمنية والاقتصادية العالمية التي يشكلها عدوان روسي جديد على أوكرانيا”. وقالت نائب وزيرة الخارجية الأمريكية ويندي شيرمان، يوم الأربعاء، إن فلاديمير بوتين “سيستخدم القوة العسكرية في وقت ما، ربما بين الآن ومنتصف فبراير».
   يذكر أن من بين التربة الخصبة للتقارب الصيني الروسي، افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين 4 فبراير. وقد أعلن فلاديمير بوتين أنه سيكون حاضرًا في المدرجات، على عكس العديد من الدول الغربية التي أعلنت مقاطعتها الدبلوماسية لهذه الألعاب. ومن بينها، بالطبع، الولايات المتحدة، ولكن أيضًا اليابان والمملكة المتحدة وأستراليا وعدة دول أخرى.

   أقوى علامة على التقارب الصيني الروسي الحالي، هي الاجتماع الافتراضي بين شي وبوتين في ديسمبر الماضي. لقد أرسى هذا الأخير الأساس لعقد قمة حضورية بين الزعيمين في المستقبل القريب، كما يقول توماس جراهام، الذي كان له دور فعال في التفاوض على كل اتفاقية دولية للحد من التسلح وعدم الانتشار من 1970 إلى 1997.

   ويضيف جراهام، أن هذه القمة المباشرة قد تكون فرصة لفلاديمير بوتين لمحاولة إقناع نظيره الصيني بالوقوف إلى جانب موسكو في حال قيام الجيش الروسي بغزو أوكرانيا، مقابل دعم روسيا للصين في حال الغزو الصيني لتايوان، أكد على أعمدة جست سكيورتي، وهو فروم أمريكي الكتروني تأسس عام 2013 ومتخصص في التحليلات حول القضايا الأمنية.

   ان دعما صينيا لغزو روسي لأوكرانيا سيثير ذعر الولايات المتحدة، لأنه في هذه الحالة، سيتم تعديل القوى العسكرية الحالية بالكامل، والأمريكيون بعيدون عن الاستعداد لمثل هذا التغيير.
   وإذا قررت روسيا التصعيد عسكريًا، ليس من الواضح حتى الآن أي عقوبات يمكن أن تتبناها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لكن العديد من الخيارات قيد المناقشة ولا شك في أن الصين ستشارك، يعتقد كريس ميللر، من جانبه، في صفحات معهد أبحاث السياسة الخارجية، وهو مركز أبحاث أمريكي يديره، وبالنظر إلى حقيقة أن العلاقات الاقتصادية بين الصين وروسيا أهم بكثير مما كانت عليه عام 2014، سيكون أصعب وأكثر تكلفة بالنسبة للصين ألا تفعل شيئًا في مواجهة العقوبات الغربية».
   و”النتيجة أن الصين ستضطر لأن تصبح لاعبًا رئيسيًا في هذه الأزمة كما في الأزمات الأخرى في مضيق تايوان أو في بحر الصين الجنوبي، يتابع كريس ميللر، وهذا هو سبب عدم اعتبار الصين للحرب بين روسيا وأوكرانيا قضية هامشية”. من هنا “ستكون بكين أكثر انخراطًا في مثل هذه الأزمة، وموقف الصين بخصوص قرارها عدم الالتزام بالعقوبات الغربية أو مساعدة روسيا على تجنب الامتثال لها، سيحدد حجم العزلة الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تسببها هذه العقوبات».

«أفضل صديق «
   منذ سنوات حتى الآن، أدى الضغط المتزايد الذي مارسته الولايات المتحدة وحلفاؤها على الصين وروسيا، إلى التقارب التدريجي بين العدوين السابقين، الى درجة أن الحديث يدور الآن عن تحالف استراتيجي لمواجهة الغرب معًا.
   في السنوات الأخيرة، دخلت موسكو وبكين شهر عسل حقيقي. ويصف شي جين بينغ بوتين بانتظام بأنه “أفضل صديق”. تحدث الرجلان 37 مرة منذ عام 2013، إما عن طريق الفيديو أو شخصيًا. ويفخر الرئيس الروسي بأنه سيصبح قريبًا أول زعيم أجنبي يلتقي به شي جين بينغ منذ بداية جائحة كوفيد-19 في نهاية عام 2019.

   في الشهر الماضي، حاول فلاديمير بوتين طمأنة الرئيس الصيني بأن جميع قادة العالم تقريبًا سيحضرون افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. وأعلنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان وكندا وأستراليا مقاطعة دبلوماسية لهذه الألعاب بسبب انتهاكات حقوق الإنسان المنسوبة إلى السلطات الصينية في شينجيانغ والتبت وهونغ كونغ، ويمكن لآخرين أن يحذوا حذوها بحلول 4 فبراير.
   في المقابل، دعا شي جين بينغ روسيا إلى تبني “المزيد من الإجراءات المشتركة لحماية المصالح الأمنية للبلدين بشكل فعال”، وأشاد فلاديمير بوتين من جانبه، بالعلاقات الثنائية التي “وصلت حاليًا إلى مستوى غير مسبوق مما يدل على مستوى عالٍ من الثقة المتبادلة من حيث الاستراتيجية».

    لقد شهدت العلاقات الصينية الروسية تحسنًا مدويًا في السنوات الأخيرة حيث وجد كل من البلدين نفسيهما هدفًا لضغوط سياسية تأتي بشكل أساسي من الولايات المتحدة، ولكن أيضًا من حلفائها. وكمثال على ارتفاع الحرارة بين الجارتين، زادت التجارة بنسبة 35 فاصل 8 بالمائة عام 2021 لتصل إلى مبلغ قياسي بلغ 146.88 مليار دولار، وفقًا للأرقام الصينية الرسمية. وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري لروسيا منذ عام 2010، حيث استوعبت بكين 14 بالمائة من الصادرات الروسية عام 2020، منها الهيدروكربونات والمعادن على وجه الخصوص. وحسب أرتيوم لوكين، الأستاذ المشارك في الجامعة الفيدرالية للشرق الأقصى في فلاديفوستوك، نقلاً عن صحيفة ساوث تشاينا مورنينج بوست، من المقرر أن يزداد الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين روسيا والصين، رغم أن روسيا أكثر ارتهانا لجارتها الصينية.

   ما يقرب من خمس التجارة الروسية مع الصين، بينما تمثل روسيا بالكاد 2 بالمائة من التجارة الصينية. “بالإضافة إلى ذلك، فإن الصادرات الروسية إلى الصين تتكون أساسًا من المنتجات الاستهلاكية اليومية، في حين أن الواردات الروسية من الصين تتوافق بشكل أكبر مع المنتجات الصناعية والسلع عالية التقنية”، يضيف أرتيوم لوكين، لكن اعتماد الصين على روسيا آخذ في الازدياد أيضًا مع تصاعد المواجهة مع الولايات المتحدة».

   بالنسبة إلى شو بولينغ، المتخصص في الاقتصاد الروسي في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، نقلا عن صحيفة ساوث تشاينا مورنينج بوست، فإن الصين بحاجة ماسة إلى الوصول إلى احتياطيات الطاقة العملاقة في الشرق الأقصى الروسي لتلبية احتياجات الصناعة في ثاني اقتصاد عالمي. “تحتاج الصين أيضًا إلى عمليات تسليم آمنة مع مخاطر منخفضة بسبب النقل من الأراضي الروسية، يوضح شو، ويمكن نقل الغاز والنفط الروسي براً بينما تعبر الناقلات القادمة من الشرق الأوسط في أغلب الأحيان مضيق ملقا ومنطقة بحر الصين الجنوبي. وتعتبر التجارة بين روسيا والصين مسألة مساعدة استراتيجية متبادلة في سياق ثقة متبادلة. وروسيا واثقة من أن الصين لن تستخدم ارتهانها لها كسلاح ضدها».

إرث الحرب الباردة
   يا له من طريق طويل قطع بين بكين وموسكو منذ الحرب الباردة. عندما أعلن ماو تسي تونغ ظهور جمهورية الصين الشعبية عام 1949، كان الاتحاد السوفياتي بالنسبة له دعماً حاسماً وحتى المنقذ الاقتصادي. جاء الخبراء السوفيات بعشرات الآلاف لمساعدة الأخ الصيني بينما ضخت موسكو مليارات الدولارات في الصين في شكل قروض تفضيلية سددتها بكين على شكل شحنات من المعادن والحديد والصوف ولحم الخنزير والأرز.
   غير ان الغيوم بدأت تتراكم بين البلدين في الستينات، واتسعت الخلافات الأيديولوجية لتؤدي إلى أزمة حقيقية بين بكين وموسكو، وهي أزمة استمرت عدة عقود.

   وإلى جانب الأيديولوجيا، لعب الاقتصاد دورًا أيضًا. وبينما كان التركيز بالنسبة لموسكو على أوروبا، تبنت الصين إصلاحات اقتصادية عميقة تحت قيادة دنغ شياو بينغ عام 1978 وفضلت التحول إلى استثمارات قادمة من الولايات المتحدة واليابان، وأيضًا من أوروبا.
   منذ عام 2019، تحسنت العلاقات الصينية الروسية بشكل ملحوظ. بدأ الغاز والنفط الروسيان في إمداد السوق الصينية. عام 2014، وقّعت شركة غازبروم وشركة البترول الوطنية الصينية عقدًا مدته 30 عامًا بعد أكثر من عشر سنوات من المفاوضات بين بكين وموسكو. ومنذئذ، أفسحت المواجهة بين البلدين الطريق للتعاون في العديد من المجالات، بما في ذلك الفضاء الإلكتروني والبنية التحتية والأمن وغزو الفضاء.

نحو تحالف عسكري؟
   تحاول الصين وروسيا في نفس الوقت استخدام عملتيهما في التبادلات التجارية من أجل مواجهة استخدام الدولار الذي يظل مع ذلك العملة المهيمنة إلى حد كبير في التبادلات التجارية على هذا الكوكب. في ديسمبر الماضي، كشف مستشار فلاديمير بوتين للشؤون السياسية، يوري أوشاكوف، أن روسيا والصين اتفقتا على إنشاء نظام مالي مشترك لخدمة التبادلات الثنائية “التي لن تتأثر بدولة اخرى”. وجاء الإعلان بعد تهديد واضح في واشنطن بأن الولايات المتحدة وأوروبا تفكران في استبعاد روسيا من نظام الدفع السريع سويفت، وهو نظام التسوية الإلكترونية الأول إلى حد بعيد.
   ولكن رغم توقيع روسيا اتفاقية بشأن مشاركتها في “طرق الحرير الجديدة” (مبادرة الحزام والطريق)، ظلت الاستثمارات المتبادلة من هذين البلدين متواضعة. لم توقع موسكو وبكين حتى الآن اتفاقية بشأن إلغاء الرسوم الجمركية على التجارة.

   و”تظل المشاريع الاستثمارية “في روسيا” التي تمولها الصين الاستثناء وليس القاعدة، ويبدو أنها تظهر أن روسيا لا تُعتبر وجهة جذابة للمستثمرين الصينيين، يوضح أرتيوم لوكين، وهي نفس الملاحظة فيما يتعلق بالتكنولوجيا عالية الجودة في الغرب والتي لا تزال سائدة في البلدين «.
   يتزايد القلق الآن في الغرب من أن ينعكس هذا التحسن الصيني الروسي أيضًا في المجال العسكري. وإذا تحقق هذا في يوم من الأيام، فإن العواقب بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن أيضًا على الاتحاد الأوروبي واليابان، ستكون لا تحصى، لأن لروسيا أنظمة أسلحة متطورة للغاية، والصين أيضًا، ولكن بدرجة أقل.

    وإدراكًا لهذا القلق، أعلن شي جين بينغ مؤخرًا، أن الصين لا تنوي الانخراط في هذا المجال. وفعلا، في يونيو الماضي، بعد مؤتمر عبر الفيديو، أصر الرئيس الصيني ونظيره الروسي على النفي: أن البلدين لا يسعيان بأي حال من الأحوال إلى إقامة حرب باردة جديدة أو تحالف عسكري. وعلى العكس، أصبحت العلاقات الثنائية بينهما “أكثر نضجا واستقرارا وصلابة”، وأصبح البلدان الآن لبعضهما البعض “شريكين لهما الأولوية».

   «تتنافس روسيا والولايات المتحدة بشدة في صادراتهما من الغاز السائل إلى الصين، وحتى في حال تخفيف العقوبات الأمريكية إلى حد ما، فسيظل من المستحيل على الولايات المتحدة استيراد الغاز الطبيعي من روسيا، صرّح الرئيس الصيني. تعمل الولايات المتحدة وأوروبا على محاولة تحسين علاقتهما بروسيا، لكن الخصومات بين الولايات المتحدة وروسيا تجعل من المستحيل على هذين البلدين أن يصبحا في يوم ما شقيقين. ان نتيجة الضغط السياسي الذي تمارسه الولايات المتحدة على الصين وروسيا، وأيضًا بسبب طول حدودهما المشتركة، والتجربة التاريخية المشتركة بين الجارتين، لا ينبغي لهاتين الدولتين أبدًا مواجهة بعضهما البعض».

   إلى أين ستقود هذه الدوامة الجهنمية حول أوكرانيا، وإلى أي مدى ستذهب بكين في حال نشوب حرب في هذه الجمهورية السوفياتية السابقة؟ هذا الصراع، إذا حدث، هل سيتجاوز حدوده؟ لا أحد يعرف في هذه المرحلة... لكن من الواضح أن “العامل الصيني” يكتسب زخماً في هذه الأزمة.
مؤلف حوالي خمسة عشر كتابًا مخصصة للصين واليابان والتبت والهند والتحديات الآسيوية الرئيسية. عام 2020، نشر كتاب “الزعامة العالمية محوره، الصدام بين الصين والولايات المتحدة” عن منشورات لوب