العقل المرهق

العقل المرهق

في عالمنا اليوم، لم يعد هناك فاصل واضح بين العمل والمنزل ومجالس الأصدقاء، بين الوقت الخاص والعام. فبضغطة زر، تجد نفسك وسط محادثة جماعية، اجتماع طارئ، أو إشعار يتطلب ردًا فوريًاK ومع كل هذا الزخم، بدأ العقل البشري يُصاب بالإرهاق، ليس بسبب الجهد البدني، بل من كثافة التواصل الافتراضي المستمر وكثرة المعلومات المزدحمة والعشوائية. فهل هذا هو الثمن الخفي الذي ندفعه في عصر التكنولوجيا؟
لسنا ضد التكنولوجيا، بل نحن ضحايا لسوء استخدامها. العقل البشري أذكى من الآلة، لكنه ليس مخلوقًا للضجيج المستمر. إن أردنا استعادة صفاء الذهن، علينا أن نُعيد ترتيب علاقتنا مع الشاشة، ونمنح عقولنا “هواءاً نقياً” بعيدًا عن زحام الإشعارات التي تضعف التركيز، وتقلب المزاج، فتجد النوم المتقطع، والشعور الدائم بالقلق والتوتر، والانشغال عن الأهل في أوقات الراحة والنتيجة عقل مرهق، مشغول على الدوام، ومتعب بلا سبب ظاهر.
لا جدال أن وسائل التواصل الرقمي سهّلت علينا الحياة، قرّبت البعيد، وكسرت الحواجز الجغرافية. لكنها في المقابل، أفرزت شكلاً جديدًا من الاستنزاف العقلي لا يتحدث عنه كثيرون، لأنه لا يُرى. هو تعب لا يترك أثرًا واضحًا على الجسد، ينخر الروح ببطء، يرهق العقل ويلعب بالنفسية مع توفير المتعة فتجد نفسك مرهقاً نفسياً ولا تعرف الأسباب.
إن هذه الحالة تُشبه إلى حدّ كبير "العمل المستمر دون وقت للراحة" حتى وإن كنا جالسين في المنزل، أو في إجازة. فهل يعقل أن نكون أكثر تعبًا في أيام الراحة من أيام العمل؟ نعم، إذا كنا نحمل أعمالنا معنا في الجيب، ونترك عقولنا مفتوحة على مدار الساعة لتلقي ما يُلقى عليها من معلومات، دون تصفية أو انتقاء.
ولعل الأخطر في الأمر أن التواصل الافتراضي فقد بعده الإنساني. نعم، نحن نتحدث كثيرًا، لكننا لا نتواصل كما ينبغي. غابت نبرة الصوت، لغة الجسد، نظرات العين، والدفء الإنساني الحقيقي. أصبحت الحوارات سلسلة من الرموز والتسجيلات القصيرة، تختزل مشاعرنا في “إيموجي”، وتعكس فهمًا سطحيًا للمواقف العميقة.
إن العقل البشري ليس آلة، وإنه يحتاج إلى فترات صمت، إلى فراغ صحي، إلى تأمل خالٍ من الضجيج الرقمي. ففي زمن التوصيل الفوري، أصبح الانفصال هو الرفاه الحقيقي.
فلنحافظ على عقولنا، قبل أن تصبح عاجزة عن تذوق المعنى من فرط التشتت. التقنية وُجدت لتسهّل، لا لتُنهك!!! ودمتم بخير،