بولندا ليست بريطانيا، الـ «بوليكسيت» لن يحدث...!

بولندا ليست بريطانيا، الـ «بوليكسيت» لن يحدث...!

بولندا ليست بريطانيا، الـ «بوليكسيت» لن يحدث...!

   رغم التوترات الشديدة القائمة بين الاتحاد الأوروبي ورئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي، فإن البلاد بعيدة كل البعد عن التوجه نحو باب الخروج.    عاد التوتر مرة أخرى إلى ذروته بين بولندا والاتحاد الأوروبي. وغالبًا ما يتم الإعلان عن الـ “بوليكسيت” ولكنه من غير المحتمل جدا.
   من ناحية، تعلن الحكومة البولندية بصوت رئيس وزرائها أن المحكمة الدستورية تعترض على علوية القانون الأوروبي على القانون الوطني. ومن ناحية أخرى، تعلن الحكومة الفرنسية عن خطر حدوث الـ “بوليكسيت” “بحكم الأمر الواقع».
   فهل الـ “بوليكسيت” خطر كبير ووشيك على الاتحاد؟ وهل ستندمج اللاليبرالية البولندية مع السيادة البريطانية لإحداث تأثير الدومينو؟ أم أن شبح الـ “بوليكسيت” سوف يتبدد قريباً؟
    إن ما هو على المحك اليوم، ليس تكرار البريكسيت بقدر ما هو سوء فهم دائم بين الشرق والغرب حول طبيعة المشروع الأوروبي. فبالنسبة للبولنديين، سواء كانوا من أنصار حزب القانون والعدالة أو المعارضين لتفكيك دولة القانون، لم يحن الوقت لتجاوز الهويات الوطنية.

 لذا فإن اختزال النزوع البولوني في حزب القانون والعدالة، والتطلعات البولندية في بريكسيت أوروبا الوسطى، سيكون بمثابة الجمع بين الوهم والتعالي.

استراتيجية توتر طويلة
    بدأت التوترات الحالية في 7 أكتوبر، عندما أعلن رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي أن المحكمة الدستورية البولندية طعنت في علويّة القانون الأوروبي على القانون الوطني. وهنا التساؤل القانوني مهم: المحكمة الدستورية أصدرت رأيًا وليس حكمًا في قضية معينة. لكن علينا أن نتبنى وجهة نظر أوسع من وجهة نظر القانون: إعلان موراويكي يعيد إحياء سلسلة من النزاعات المفتوحة منذ عام 2015 بين، من ناحية، المفوضية الأوروبية وفرنسا وألمانيا، ومن ناحية أخرى، جمهورية بولندا مدعومة جزئيًا على الأقل من قبل الدول الأعضاء في مجموعة فيزيغراد (بولندا والتشيك والمجر وسلوفاكيا).
   في الواقع، منذ عودة حزب القانون والعدالة إلى السلطة، حرصت بولندا في مناسبات عديدة، على إبراز اختلافها تجاه برلين وباريس وبروكسل فيما يتعلق بمسألة القيم والمساواة في الحقوق وسيادة القانون. وبالتالي، رفضت قبول المهاجرين عام 2015 بدعم من مجموعة فيزيغراد والنمسا. وأعلنت أنها ضد المساواة في الحقوق للأشخاص غير المغايرين جنسيا بدعم من نفس المجموعة. وجوهريا، دخل إصلاح العدالة الذي بدأه حزب القانون والعدالة في تناقض مع مبادئ الاتحاد.
   ردا على ذلك، أطلقت المفوضية إجراء المادة 7 ضد بولندا بشأن احترام الحقوق الأساسية وقررت تجميد أموال خطة الإنعاش (54 مليار يورو). لذلك، ليس من قبيل الصدفة أنه خلال الحملة الانتخابية الأوروبية لعام 2019، حددت رئاسة ماكرون ومجموعة التجديد، حزب القانون والعدالة والرابطة الإيطالية كخصوم سياسيين.
   الى اليوم، يبدو أن التوتر في ذروته بين الاتحاد الأوروبي وبولندا، كما هو الحال بين حكومة حزب القانون والعدالة وجزء كبير من السكان المتظاهرين، في الداخل والشتات. وبالنظر إلى الوجود القوي لحزب القانون والعدالة في المشهد السياسي البولندي، واستمرارية التوترات بين الاتحاد الأوروبي وبولندا، هل يجب أن نخشى الـ “بوليكسيت”؟ سيكون في هذا خلط بين استراتيجية التوتر ومشروع القطيعة، كما سيكون أيضا بمثابة الخلط بين بولندا ككل وحزب القانون والعدالة. أخيرًا، سيكون من المهم تجاهل ما يهم البولنديين حقًا، واستخدام البلد الخطأ: بولندا ليست المملكة المتحدة.

المقارنة غير صحيحة
   عندما يتعلق الأمر بالاتحاد الأوروبي، فإن هذه المقارنة غير صحيحة، والتهديد الذي يمثله الـ “بوليكسيت” مختلف تمامًا عن حقيقة البريكسيت، لأسباب سياسية واقتصادية ودبلوماسية.
   في المقام الأول، تم إطلاق البريكسيت من قبل البريطانيين أنفسهم، وهو على وجه التحديد نتيجة لعبة سلطة داخل حزب المحافظين الإنجليزي، في حين أن الـ “بوليكسيت” يمثل تهديدًا أثارته باريس وبرلين، احتجاجا على سلوك حزب القانون والعدالة.    حقيقة، الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي هائل في الرأي العام البولندي، ولم يتزعزع: حوالي 80 بالمائة. وإذا تمت تعبئة الشباب بقوة، كما هو الحال في كثير من الأحيان عند استحضار أوروبا، فإن الدعوة للتظاهر مسّت حتى واندا تراشيك ستاوسكا، 94 عامًا، المناضلة السابقة في انتفاضة وارسو عام 1944.
   لا يدافع حزب القانون والعدالة عن هذا الخط، ويحاول اليوم تقليل مدى حركته. ومع ذلك، فقد ساعد في إعادة دونالد تاسك إلى السباق، هو الذي استعاد قبل ثلاثة أشهر زمام رئاسة حزب المنصة المدنية. ويعلم رئيس الوزراء السابق “2007-2014” ورئيس المجلس الأوروبي “2014-2019” أن الانتخابات المقبلة بعيدة (من المقرر إجراؤها عام 2023)، لكن من المفيد أحيانًا الانطلاق مبكرًا.    هناك أيضًا جانب اقتصادي يجعل الـ “بوليكسيت” غير وارد: منذ عام 2015، شهدت بولندا التحاقا بركب غرب القارة لا معادل له في التاريخ، وأكثر من ذلك في المناطق القريبة جغرافيًا من الاتحاد الأوروبي. وتدين هذه المعجزة الاقتصادية البولندية بطبيعة الحال بالكثير الى الأموال الأوروبية، وإلى حرية حركة العمالة ورأس المال فضلاً عن انفتاح الاقتصاد البولندي. وأصبحت البلاد أحد مصانع أوروبا.
   بالمقابل، لا ينبغي التغاضي عن أن الاقتصاد الأوروبي يدين بالكثير لبولندا: فهي أحد الاقتصادات الأوروبية التي تبدو آفاق النمو الهيكلي فيها إيجابية بشكل واضح. ولا تزال بولندا سوقًا متنامية كبيرة وخزّانا للعمالة الماهرة لأوروبا بأكملها.
   أخيرًا، سابقة البريكسيت لها جانب مثير للاشمئزاز: فقد استغرق الأمر ما يقرب من خمس سنوات للتوصل إلى اتفاق، مع أن المملكة المتحدة هي إدارة عمرها قرون واستطاعت السيطرة على إمبراطورية ضخمة. ورغم القدرة التفاوضية لدولة عضو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن الصعوبات كانت عديدة، من تجديد القومية الإسكتلندية إلى المسألة الأيرلندية، مرورا بالنقص في المواد والمستلزمات الحالي -الذي يذكّر ببولندا الأمس أكثر من حلم بريطانيا العالمية!
   فلا جغرافيتها ولا طموحاتها تهيئ بولندا لمحاولة السير بمفردها، الأمر الذي كان تاريخياً غير مواتٍ لها. علاوة على ذلك، إذا اتبعت هذا المسار حقًا، فمن يدري كيف يمكن أن تؤثر على الخيارات الأوروبية من الخارج، أو تجد ظروف انطلاق لا تنطوي على إلحاق ضرر جسيم بالمصالح البولندية؟
   تدفع بولندا الآن ثمن جزء من عدوانية حزب القانون والعدالة عندما تكون ليتوانيا هي الوسيط في الأزمة البيلاروسية؛ وترى للتو حليفًا، رئيس الوزراء التشيكي ميلوس بابيس، غير قادر على البقاء سيد اللعبة في براغ. وهذا الصيف، اعتُبر استكمال خط أنابيب الغاز نورد ستريم، بعد مفاوضات ألمانية أمريكية، بمثابة الإذلال والإهانة الجيوسياسية. ولا شك أن الحصول على مزيد من الغاز الروسي لأوروبا ليس من رغبات القادة البولنديين! لكن إذا كانت بولندا تكافح من أجل التمسك بموقفها ضد الروس من خلال التواجد داخل الاتحاد الأوروبي، فماذا لو كانت خارجه؟ في وارسو، هذا احتمال لا يراد تخيّله.
   بعبارة أخرى، إن فرضية الـ “بوليكسيت”، هي خطأ في التقييم حول مكانة بولندا، ومن خلالها، الدول الأعضاء من وسط وشرق أوروبا: بولندا طرف فاعل مهم في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على الحدود الشرقية من القارة، لكنها تعلم أيضًا أن علاقاتها مع روسيا سيئة بشكل دائم، وأنها بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي لمقاومة ذلك.

توترات واردة،
 قطيعة مستبعدة
   في جميع الاحتمالات، ولأسباب داخلية، ستضطر الحكومة الحالية إلى تغيير موقفها، إلا إذا أرادت تعريض نفسها لخطر انعدام الشعبية المرتبط بتصاعد قلق اجتماعي وسياسي في هذه الأزمة. هل ينبغي إذن أن نستنتج أن استراتيجية التوتر هذه ربما تكون قد وصلت إلى ذروتها؟ لا شيء مؤكد. لئن يمكن أن تكون بمثابة خط أحمر بالنسبة للذين هم أكثر اعتدالًا، فلا شيء يقول أن الأزمة الحالية لن تؤدي إلى مزايدة داخلية في صلب حزب القانون والعدالة، على غرار ما رأيناه بالنسبة للمحافظين البريطانيين.
   لذلك من المرجح أن تستمر التوترات، ولا تزال المسافة بعيدة لتناوب محتمل إذ ستجرى الانتخابات العامة القادمة عام 2023. ومن ناحية أخرى، إذا كان الانفصال عن الاتحاد الأوروبي غير مرجح، فإن الحكومة البولندية تخاطر بمواصلة البحث عن كبش فداء في الخارج... فهذا ليس جيدًا لأوروبا، التي تحتاج إلى بولندا بنّاءة، ولا لبولندا نفسها وطموحاتها.
ترجمة خيرة الشيباني
* أستاذ محاضر في معهد الدراسات السياسية في باريس، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة موسكو.
**الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، وأستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، باحث مشارك في المركز الجغراسياسي للمدرسة العليا للتجارة.