فيلم للمخرجة الأميركية كاثرين بيغلو عن الآليات الباردة للبيروقراطية
"بيت الديناميت"... رؤية سينمائية لنهاية العالم
وسط المناخ المقلق للجغرافيا السياسية في القرن الـ21، عاد التهديد النووي بهدوء ليحتل مخيلة العالم مرة أخرى. وبينما تملأ شاشاتنا أفلام الأبطال الخارقين وهم ينقذون العالم، تذكّرنا المخرجة الأميركية كاثرين بيغلو بأن الخطر الحقيقي لا يكمن في الوحوش أو الدول المارقة، بل في الآليات الباردة للبيروقراطية، تلك الأنظمة الواسعة والعديمة الوجه التي يفترض أن تحمينا، لكنها ربما تدمرنا تحت أدنى ضغط.
كثيراً ما نسب التقدير لبيغلو كواحدة من أكثر المخرجات دقة في السينما الأميركية المعاصرة، صانعة أفلام تقاس عبقريتها غالباً بالدقة التي تصور بها الذكاء أثناء العمل تحت الضغط، فجسّد فيلم "ذا هيرت لوكر" 2008 (The Hurt Locker) فضولاً فنياً متخصصاً في القنابل يكاد يكون قاتلاً بصبر ساحر، أما "زيرو دارك ثيرتي" 2012 (Zero Dark Thirty) فتابع صرامة محللة وكالة الاستخبارات الأميركية أخلاقياً ومهنياً في مطاردة أسامة بن لادن.
في كل حال، أظهرت بيغلو اهتماماً شبه أنثروبولوجي بالمنطق الإجرائي، كيف يواجه الأفراد المدربون جيداً الأخطار ويقيسون الاحتمالات ويوازنون بين الغريزة والبروتوكول، فعدد قليل فقط من المخرجين يستطيع جعل الخطر يبدو عملياً وإنسانياً في آن واحد وبهذه الدرجة من الإقناع. مع ذلك، يمثل أحدث أعمالها، "بيت الديناميت" الذي يعرض على "نتفليكس" وفي بعض الصالات العالمية، انحرافاً صادماً عن تلك البراعة، إذ يصور الفيلم ضربة نووية مفاجئة على مدينة أميركية كبيرة، ومنذ البداية يتضح أن دقة بيغلو محاطة بإطار من القيود، إطلاق الصاروخ والفوضى بين الوكالات والمناقشات في غرفة الموقف، كل ذلك ضمن نافذة زمنية مدتها 18 دقيقة. وتبدو هنا البنية السينمائية أقل كآلية مضبوطة بدقة، وأكثر كمحاكاة مفرطة النشاط، تسكنها شخصيات تعمل أقل ككائنات بشرية مكتملة وأكثر كعقد ضمن مخطط طوارئ.
وكثيراً ما نسب إلى بيغلو الإعجاب بواقعيتها الحسية وقدرتها على التحكم في التوتر، وهنا تخرج الفيلم بعين عالمة أنثروبولوجيا سياسية تفكك طقوس القوة الأميركية.
وضمن أفلامها السابقة استكشفت الأفراد داخل آلة الصراع، أما "بيت الديناميت"، فيحول التركيز إلى الآلة نفسها. الأشخاص الذين يسكنونها، ضباط ومحللون ومساعدون والرئيس، مجرد امتدادات لنظام عصبي بيروقراطي، مدرب على الاستجابة بدلاً من التفكير. وبهذه الطريقة، يكون الفيلم أقل عن الحرب وأكثر عن الإجراءات، ماذا يحدث عندما يواجه العالم الإبادة، والشيء الوحيد الفاصل بين الحياة والموت هو مجموعة من كتيبات السياسات.
الحكاية
تبدأ القصة بالرتابة. صباح عادي عبر أميركا، هواتف ترن والقهوة تحضر وحديث قصير بين موظفي الحكومة.
ومع ذلك، تجعل كاميرا بيغلو هذا الاعتياد يبدو بدقة مهيبة، كما لو أن كل سطر من الحوار رمز ينتظر التفعيل. ثم تأتي الشرارة إطلاق صاروخ من مكان ما في المحيط الهادئ. في البداية، تفترض أنظمة الدفاع أنه اختبار، وخلال دقائق يصبح "الاختبار" أزمة وجودية. الهدف، شيكاغو، ستصاب في أقل من 20 دقيقة.
وما يلي ليس عرضاً بصرياً، بل شللاً. يعيد الفيلم عرض الدقائق الـ18 نفسها ثلاث مرات، كل مرة من مستوى مختلف في التسلسل الهرمي الأميركي، القاعدة في ألاسكا وغرفة الموقف في واشنطن، وأخيراً المكتب البيضاوي نفسه. ويكشف التكرار ليس فقط عن تفكك الاتصال، بل أيضاً وهم السيطرة، فكلما ارتفعت الرتبة ضعفت الفاعلية.
الرئيس الذي يؤدي دوره إدريس إلبا، سريع الغضب وغارق، يعكس أمة فخورة جداً لدرجة أنها لا تعترف بعجزها. الكابتن أوليفيا ووكر التي تؤديها ريبيكا فيرغسون، المركز العاطفي الوحيد في الفيلم، تقدم لمحة عن الوضوح والكفاءة، لكنها تبتلع في جمود النظام. ومن منظور الأمن العالمي، يقدم الفيلم تأملاً في الاستراتيجية النووية وهشاشة الدولة. الأصل غير المحدد للصاروخ، إرهابي أو دولة مارقة، أو قائد غواصة مضطرب، يسلط الضوء على عشوائية الردع في عصر ترسانات متزايدة.
قرار بيغلو بترك المصدر غامضاً يحول السرد إلى دراسة حول الضعف النظامي، فالعدو ليس فاعلاً واحداً بل هيكل الحكم العسكري الحديث نفسه. وفي هذا، يكرر الفيلم القلق المألوف لصانعي السياسات، أنه لا بروتوكول، ولا سلسلة قيادة، يمكن أن تحوي بالكامل المتغيرات غير المتوقعة في لعبة الردع النووي.
وما تلتقطه بيغلو بفاعلية كبيرة هو علم نفس البيروقراطية تحت الضغط، فلا أحد في قيادة حقيقية، والجميع ينتظر التصريح أو التأكيد أو الإذن، والحوار مليء بالاختصارات والبروتوكولات والتأكيدات عديمة المعنى.
الغريزة الإجرائية
عندما تلوح الكارثة، تحل الغريزة الإجرائية محل الغريزة البشرية. بهذا المعنى، العدو الحقيقي للفيلم ليس دولة معادية، بل هيكل الحكم الأميركي نفسه، آلة متطورة لدرجة أنها لم تعد تعرف إن كانت تدافع عن نفسها أو تنفجر.
ويدعم الأسلوب البصري هذا الموضوع، فالتصوير اليدوي لباري أكرويد، المعروف من "ذا هيرت لوكر"، متعمد ليكون خانقاً، ممرات مضاءة بأنوار فلورية وشاشات تطن ولقطات مقربة لأوجه قلقة.
لا توجد ساحات معارك، فقط مكاتب، وفي هذه المساحات تتكشف نهاية العالم بهدوء. وحتى تصميم الصوت يسخر من جدية اللحظة، إذ تبرز نغمات فولكر بيرتلمان الثقيلة والمهيبة عبثية الذعر البيروقراطي.
يبدو أن نهاية العالم لا تأتي بالفوضى، بل بالأوراق. نص السيناريست أوبنهايم الذي يكون أحياناً ميكانيكياً، يستخدم تكراره بتأثير مدمر، فكل إعادة للعد التنازلي تكشف عن طبقة جديدة من العجز، من بيانات الأقمار الاصطناعية الفاشلة والتأخيرات في التصاريح وسوء تفسير الاتصالات.
ويصبح هيكل الفيلم استعارة لدورة الفشل المؤسسي، فالحكومة تتدرب على دمارها في الوقت الفعلي. وعندما يصيب الصاروخ الهدف أخيراً (خارج الشاشة)، يكون شعور الدمار أقل جسدية وأكثر أخلاقية، ويترك الجمهور بإدراك مروع، إذ لم تحدث نهاية العالم لأميركا، بل حدثت عبرها. في النهاية، "بيت الديناميت" هو تأمل في مفارقة الحداثة، فكلما أصبح النظام أكثر تطوراً، زاد احتمال فشله الكارثي. إنه فيلم عن الكفاءة بلا تطهير وجداني، البروتوكول بلا نبض. وبراعة بيغلو في تصوير الذكاء والمهارة الإجرائية واضحة، لكنها محصورة ضمن فيلم يتجاوز قدرته على الأداء العاطفي والدرامي. والنهاية المفتوحة، تدمير شيكاغو والرئيس يزن خياراته والعالم معلّق، تجبر الجمهور على مواجهة هشاشة افتراضاتهم حول الأمان والقيادة وموثوقية المؤسسات.
ومع اقتراب الفيلم من ذروته، تضع بيغلو التزام الإجراءات فوق العرض البصري، تاركة المشاهدين في توتر فكري أكثر من جسدي. والدقائق الأخيرة تتنقل بين مداولات الرئيس في البيت الأبيض وسهر الرائد غونزاليس اليائس في ألاسكا، مع فرار آلاف المدنيين إلى مخبأ رافن روك في بنسلفانيا.
وهذا التجريد يثير شعوراً بعدم الراحة عند النظر من منظور الأمن الدولي. النهاية المفتوحة، من دون نسب واضحة ومن دون ضربة مضادة محددة، تعكس الغموض الاستراتيجي الذي يحدد الردع النووي الواقعي. ويظل السجل العاطفي للفيلم خافتاً، إذ إن البعد البشري، الخوف والحزن والتردد الأخلاقي، مفلتر عبر البروتوكول، تاركاً الجمهور منضوياً فكرياً لكن منفصلاً عاطفياً. بهذا المعنى، تمكن قراءة أعمال بيغلو كمرآة لصنع السياسات المعاصرة، عقلاني جداً ومدرب بعناية، لكنه أحياناً صمّ للأحاسيس الحية للسكان والقادة على حد سواء. وتجريد العنف إلى جداول بيانات واختصارات وجداول زمنية يعكس تجريد الاستراتيجية النووية نفسها، حساب الردع غالباً ما يتطلب تقييم الأرواح قبل تقدير قيمتها.
وفي هذا الفضاء الهجين بين السينما والاستراتيجية، صنعت بيغلو إثارة تجمع بين الجاذبية الفكرية والجدية الأخلاقية. وبالنسبة إلى محبي السينما، قد يكون الناتج غير مرضٍ كترفيه تقليدي، وبالنسبة إلى صانعي السياسات والمراقبين الدوليين، يعمل كتأمل صارخ في هشاشة أنظمة الأمن المعاصرة. وفي عالم أصبح بيتاً مزوداً بالديناميت، قد يكون الإنجاز الحقيقي للمخرجة أقل جمالية وأكثر أخلاقية، لقد جعلت غير المرئي مرئياً و"درّمت" الإجرائي وذكرتنا بأن أقوى الانفجارات غالباً ما تكون تلك التي لا تصل أبداً إلى الشاشة.
"بيت الديناميت" ليس انتصاراً للمشهد البصري، بل تأملاً في هشاشة النظام، فكاثرين بيغلو التي كثيراً ما أشيد بقدرتها على تصوير براعة البشر تحت أقصى الضغط، هنا توجه عدستها نحو حدود الاستعداد ذاته. ودقة الإجراءات في الفيلم تتبع مسارات الصواريخ وبروتوكولات استجابة للأزمات معدة مسبقاً وسلسلة القيادة متعددة المستويات، هي فضيلته وعيبه في آن. النهاية المفتوحة، مع الرئيس متأهباً لخياراته والرائد غونزاليس يحدق بلا حول في ليل ألاسكا، تؤكد حقيقة أساسية عن السياسة النووية، البقاء يعتمد بقدر ما على الحظ والتوقيت كما يعتمد على المهارة أو التخطيط. بهذا المعنى، يتجاوز صدى الفيلم حدود الأراضي الأميركية، مذكّراً صانعي السياسات في أي مكان بأن حتى أكثر أنظمة الردع تطوراً تحمل أخطاراً باقية، وأن التدريب ووضوح القيادة والإجراءات المتأصلة لا تقل أهمية عن المفاوضات الدبلوماسية أو المواقف الاستراتيجية.