محمد بن راشد: التنمية هي مفتاح الاستقرار .. والاقتصاد أهم سياسة
عضوية أوكرانيا عمّقت الجرح
توسّع الناتو شرقا: هكذا خدع الغرب روسيا...!
-- تعلّم بوتين الدرس، ومنذ توليه السلطة عزز بلاده، وهو الآن جاهز للمعركة
-- يُظهر تاريخ توسع الناتو كيف أن المهمّ في لعبة القوى العظمى ليس سوى الدفاع عن المصالح
-- كانت للغرب خيارات أخرى وأضاع فرصة لتحديد علاقة تكون فيها روسيا شريكًا حقيقيًا في أوروبا
-- استغل الغرب ضعف روسيا في ظل حكم جورباتشوف ويلتسين
-- كانت حدود الناتو تقع على بعد 1200 كيلومتر من سانت بطرسبرغ، واليوم هي على بعد 100 كيلومتر
هل وعد الغرب الروس بعدم توسيع الناتو إلى حدود روسيا عندما انهارت الكتلة الشرقية منذ أكثر من 30 عامًا؟ اتخذ هذا السؤال منعطفاً دراماتيكياً في الأسابيع الأخيرة بشأن عضوية أوكرانيا المحتملة في الحلف الأطلسي.
ذلك لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقتنع بأن التوسع المستمر لحدود الناتو إلى روسيا يهدد أمن بلاده، إن لم يكن بقاءها.
فقبل ثلاثين عامًا، كانت هذه الحدود تقع على بعد 1200 كيلومتر من سانت بطرسبرغ، واليوم هي على بعد 100 كيلومتر. وإذا وقعت أوكرانيا في المعسكر الغربي، فإن الناتو سيوجه أسلحته إلى قلب روسيا.
ومن هنا جاء غضب رئيس الكرملين الذي لم يتوقف عن التذكير بأنه في التسعينات، أعطى قادة الغرب تأكيدات شفوية لميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين بشأن عدم توسع الناتو شرقا. وهذه التأكيدات، كما يقول، تم انتهاكها دائمًا.
هل بوتين على حق؟ الجواب نعم. من المهم هنا أن نضع في الاعتبار التسلسل الزمني للأحداث، والكلمات التي صرح بها هذا المعسكر أو ذاك، لفهم أصول الأزمة الحالية بشكل كامل. وتساعدنا المؤرخة الأمريكية ماري إليز ساروت على رؤية ذلك بوضوح. فقد أمضت سنوات في تصفح الأرشيف، وقراءة الملاحظات المكتوبة بخط اليد، وخطب الشخصيات الرئيسية، بالإضافة إلى محاضر اجتماعاتهم. وكانت نتيجة هذا العمل الدقيق كتابًا رائعًا ظهر قبل بضعة أيام: “ولا بوصة واحدة: أمريكا وروسيا وفبركة مأزق ما بعد الحرب الباردة».
سقوط جدار برلين
بدأ كل شيء بعد أسابيع قليلة من سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989. في واشنطن، تساءل الرئيس جورج بوش الأب عما سيكون عليه الأمن في القارة الأوروبية، فالعديد من دول حلف وارسو تطالب بعضوية الناتو. وفي أروقة وزارة الخارجية الامريكية، هناك حديث عن قبول المجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، بل أن بوش يتطلع حتى إلى دول البلطيق الثلاث. لكن ليس كل قادة الغرب متفقون، على الأقل في البداية. في ألمانيا، لدى المستشار هيلموت كول هاجس وحيد: إعادة توحيد الألمانيتين. لذلك، ستتمحور مسألة توسيع الناتو حول هذا الرهان. ففي بداية عام 1990، كان الاتحاد السوفياتي لا يزال قائما وله نصف مليون جندي في ألمانيا الشرقية.
وكان على الغرب أن يقدم لموسكو شيئًا ما إذا كان يريد دفع القوات السوفياتية إلى المغادرة والإبقاء على ألمانيا الموحدة في الناتو. فتح وزير الخارجية الألماني هانز ديتريش غينشر المزاد بخطاب ألقاه في يناير: “أريد من الناتو، قال، أن يعلن بشكل لا لبس فيه أنه بغض النظر عما سيحدث في حلف وارسو، لن يكون هناك توسع لمنطقة الناتو إلى الشرق”، أي قرب حدود الاتحاد السوفياتي».
وعد لفظي
في 9 فبراير، وفي حدثين منفصلين، قدم الألمان والأمريكيون وعدًا شفهيًا. التزم غينشر: مهما حدث لحلف وارسو، كما قال، “لن يتم توسيع أراضي الناتو شرقا، أي قرب حدود الاتحاد السوفياتي”. في نفس الوقت، في موسكو، التقى وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بالزعيم السوفياتي ميخائيل جورباتشوف.
خلال المحادثة، عرض عليه صفقة في شكل سؤال: “هل تفضل أن يتم ربط ألمانيا الموحدة بحلف الناتو، مع ضمان أن منطقة الناتو لن يتم نقلها أبدًا، ولو بوصة واحدة من موقعها الحالي؟”. ورد غورباتشوف قائلا: “إن أي توسع في منطقة الناتو غير مقبول. هز بيكر رأسه، “نحن متفقون على ذلك”. لا شيء من هذا مكتوب، ولكن من هذه التصريحات يمكن استخلاص الروح.
«لن نتقدم شبرًا واحدًا” شرقًا، قال بيكر. ومع ذلك، توسع الناتو عام 1999 ثم عام 2004. لماذا؟ قدمت ماري إليز ساروت عدة تفسيرات، أحدها يلخص الوضع برمته: استغل الغرب ضعف روسيا في ظل حكم جورباتشوف ويلتسين. وبمجرد تحقيق إعادة توحيد ألمانيا، عادت الرغبة الأمريكية في توسيع الناتو إلى مركز الصدارة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي في ديسمبر 1991. أدى تفكك القوة العظمى السابقة إلى ولادة روسيا معتلّة حيث ركز الرئيس الجديد، بوريس يلتسين، كل طاقته على القضايا المحلية.
لقد سعى باستمرار، وحصل، على الأموال من الألمان والأمريكيين لدعم اقتصاد على وشك الانهيار، ولضمان استمرار سلطته. ولم يكن في وضع يسمح له بمعارضة توسيع الناتو حقًا.
هل تطلّب إصلاح نظام الأمن الأوروبي بعد الحرب الباردة توسيع الناتو؟ كتبت المؤرخة الأمريكية، أنه كانت للغرب خيارات أخرى، و”أضاع فرصة لتحديد علاقة تكون فيها روسيا شريكًا حقيقيًا في أوروبا».
يُظهر تاريخ توسع الناتو كيف أن لعبة القوى العظمى هي ساحة صراع لا يهم فيها سوى الدفاع عن المصالح. لقد تجاهل الغرب المصالح الأمنية لروسيا وهو الذي خرج منتصرا من الحرب الباردة، وما كان على روسيا الا الخضوع.
تعلّم فلاديمير بوتين الدرس، ومنذ توليه السلطة قبل عشرين عاما، عزز بلاده، وقوى جيشه، وأرسى خطوطه الحمراء... هو الآن جاهز للمعركة.
* مستشار سياسي سابق في وزارة الخارجية الكندية 2016-2017. نشر مؤخرًا كتاب “كندا والبحث عن هوية دولية».
-- يُظهر تاريخ توسع الناتو كيف أن المهمّ في لعبة القوى العظمى ليس سوى الدفاع عن المصالح
-- كانت للغرب خيارات أخرى وأضاع فرصة لتحديد علاقة تكون فيها روسيا شريكًا حقيقيًا في أوروبا
-- استغل الغرب ضعف روسيا في ظل حكم جورباتشوف ويلتسين
-- كانت حدود الناتو تقع على بعد 1200 كيلومتر من سانت بطرسبرغ، واليوم هي على بعد 100 كيلومتر
هل وعد الغرب الروس بعدم توسيع الناتو إلى حدود روسيا عندما انهارت الكتلة الشرقية منذ أكثر من 30 عامًا؟ اتخذ هذا السؤال منعطفاً دراماتيكياً في الأسابيع الأخيرة بشأن عضوية أوكرانيا المحتملة في الحلف الأطلسي.
ذلك لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقتنع بأن التوسع المستمر لحدود الناتو إلى روسيا يهدد أمن بلاده، إن لم يكن بقاءها.
فقبل ثلاثين عامًا، كانت هذه الحدود تقع على بعد 1200 كيلومتر من سانت بطرسبرغ، واليوم هي على بعد 100 كيلومتر. وإذا وقعت أوكرانيا في المعسكر الغربي، فإن الناتو سيوجه أسلحته إلى قلب روسيا.
ومن هنا جاء غضب رئيس الكرملين الذي لم يتوقف عن التذكير بأنه في التسعينات، أعطى قادة الغرب تأكيدات شفوية لميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين بشأن عدم توسع الناتو شرقا. وهذه التأكيدات، كما يقول، تم انتهاكها دائمًا.
هل بوتين على حق؟ الجواب نعم. من المهم هنا أن نضع في الاعتبار التسلسل الزمني للأحداث، والكلمات التي صرح بها هذا المعسكر أو ذاك، لفهم أصول الأزمة الحالية بشكل كامل. وتساعدنا المؤرخة الأمريكية ماري إليز ساروت على رؤية ذلك بوضوح. فقد أمضت سنوات في تصفح الأرشيف، وقراءة الملاحظات المكتوبة بخط اليد، وخطب الشخصيات الرئيسية، بالإضافة إلى محاضر اجتماعاتهم. وكانت نتيجة هذا العمل الدقيق كتابًا رائعًا ظهر قبل بضعة أيام: “ولا بوصة واحدة: أمريكا وروسيا وفبركة مأزق ما بعد الحرب الباردة».
سقوط جدار برلين
بدأ كل شيء بعد أسابيع قليلة من سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989. في واشنطن، تساءل الرئيس جورج بوش الأب عما سيكون عليه الأمن في القارة الأوروبية، فالعديد من دول حلف وارسو تطالب بعضوية الناتو. وفي أروقة وزارة الخارجية الامريكية، هناك حديث عن قبول المجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، بل أن بوش يتطلع حتى إلى دول البلطيق الثلاث. لكن ليس كل قادة الغرب متفقون، على الأقل في البداية. في ألمانيا، لدى المستشار هيلموت كول هاجس وحيد: إعادة توحيد الألمانيتين. لذلك، ستتمحور مسألة توسيع الناتو حول هذا الرهان. ففي بداية عام 1990، كان الاتحاد السوفياتي لا يزال قائما وله نصف مليون جندي في ألمانيا الشرقية.
وكان على الغرب أن يقدم لموسكو شيئًا ما إذا كان يريد دفع القوات السوفياتية إلى المغادرة والإبقاء على ألمانيا الموحدة في الناتو. فتح وزير الخارجية الألماني هانز ديتريش غينشر المزاد بخطاب ألقاه في يناير: “أريد من الناتو، قال، أن يعلن بشكل لا لبس فيه أنه بغض النظر عما سيحدث في حلف وارسو، لن يكون هناك توسع لمنطقة الناتو إلى الشرق”، أي قرب حدود الاتحاد السوفياتي».
وعد لفظي
في 9 فبراير، وفي حدثين منفصلين، قدم الألمان والأمريكيون وعدًا شفهيًا. التزم غينشر: مهما حدث لحلف وارسو، كما قال، “لن يتم توسيع أراضي الناتو شرقا، أي قرب حدود الاتحاد السوفياتي”. في نفس الوقت، في موسكو، التقى وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بالزعيم السوفياتي ميخائيل جورباتشوف.
خلال المحادثة، عرض عليه صفقة في شكل سؤال: “هل تفضل أن يتم ربط ألمانيا الموحدة بحلف الناتو، مع ضمان أن منطقة الناتو لن يتم نقلها أبدًا، ولو بوصة واحدة من موقعها الحالي؟”. ورد غورباتشوف قائلا: “إن أي توسع في منطقة الناتو غير مقبول. هز بيكر رأسه، “نحن متفقون على ذلك”. لا شيء من هذا مكتوب، ولكن من هذه التصريحات يمكن استخلاص الروح.
«لن نتقدم شبرًا واحدًا” شرقًا، قال بيكر. ومع ذلك، توسع الناتو عام 1999 ثم عام 2004. لماذا؟ قدمت ماري إليز ساروت عدة تفسيرات، أحدها يلخص الوضع برمته: استغل الغرب ضعف روسيا في ظل حكم جورباتشوف ويلتسين. وبمجرد تحقيق إعادة توحيد ألمانيا، عادت الرغبة الأمريكية في توسيع الناتو إلى مركز الصدارة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي في ديسمبر 1991. أدى تفكك القوة العظمى السابقة إلى ولادة روسيا معتلّة حيث ركز الرئيس الجديد، بوريس يلتسين، كل طاقته على القضايا المحلية.
لقد سعى باستمرار، وحصل، على الأموال من الألمان والأمريكيين لدعم اقتصاد على وشك الانهيار، ولضمان استمرار سلطته. ولم يكن في وضع يسمح له بمعارضة توسيع الناتو حقًا.
هل تطلّب إصلاح نظام الأمن الأوروبي بعد الحرب الباردة توسيع الناتو؟ كتبت المؤرخة الأمريكية، أنه كانت للغرب خيارات أخرى، و”أضاع فرصة لتحديد علاقة تكون فيها روسيا شريكًا حقيقيًا في أوروبا».
يُظهر تاريخ توسع الناتو كيف أن لعبة القوى العظمى هي ساحة صراع لا يهم فيها سوى الدفاع عن المصالح. لقد تجاهل الغرب المصالح الأمنية لروسيا وهو الذي خرج منتصرا من الحرب الباردة، وما كان على روسيا الا الخضوع.
تعلّم فلاديمير بوتين الدرس، ومنذ توليه السلطة قبل عشرين عاما، عزز بلاده، وقوى جيشه، وأرسى خطوطه الحمراء... هو الآن جاهز للمعركة.
* مستشار سياسي سابق في وزارة الخارجية الكندية 2016-2017. نشر مؤخرًا كتاب “كندا والبحث عن هوية دولية».