العواقب العسكرية لفقدانه حقيقية:

خسارة الطراد موسكفا، رمز لغرق روسي أكبر...!

خسارة الطراد موسكفا، رمز لغرق روسي أكبر...!

• لا يكفي للقوات الجمع بين الإرث العسكري السوفياتي وتحديث بوتين لتحقيق نصر عسكري حاسم وواضح
• اختفاء موسكفا له تأثير مباشر على البعد البحري للغزو الروسي
• من الواضح أن التواصل الأوكراني الحالي تأثر بمهنة زيلينسكي السابقة، وبالخبرة المكتسبة منذ أزمة 2014
• خسارة هذه السفينة لا تغير قواعد اللعبة: فهي لا تؤكد هزيمة روسيا ولا انتصار أوكرانيا
• النجاحات الرمزية ممكنة، لكن الانتصارات النهائية تبدو مستبعدة


بالنسبة لروسيا، إن العواقب العسكرية لفقدان موسكفا حقيقية، غير أن التأثير الأكثر أهمية هو تأثير رمزي.
من المغري أن نرى في خسارة الطراد الروسي موسكفا رمزا لغرق أكبر: غزو روسيا لأوكرانيا.
أولاً، لهذا الحدث نطاق عملياتي، خاصة أن الأسطول الروسي في البحر الأسود لا يمكن تعزيزه بواسطة الأسطول الشمالي عبر مضيق الدردنيل والبوسفور، الذي أغلقته تركيا منذ بداية "العملية العسكرية الخاصة" التي أطلقها الكرملين. لكن له، خصوصا، أهمية سياسية: يبدو أن فقدان السفينة الروسية الرئيسية بالقرب من الساحل الأوكراني، يوضح الانقلاب التدريجي لتوازن القوى العسكري والإعلامي والاستراتيجي بين أوكرانيا وروسيا.

على الصعيد العسكري، علاقة الضعيف بالقوي
سواء كان ذلك نتيجة هجوم أوكراني (كما تدعي كييف) أو حريق عرضي (كما تدعي موسكو)، فإن اختفاء الطراد موسكفا، السفينة الحربية الرئيسية في أسطول البحر الأسود، يسلط الضوء على العديد من العناصر الأساسية للمواجهة العسكرية المستمرة.
   دخلت الخدمة الفعلية عام 1983، هذه السفينة التي تزن أكثر من 12000 طن، وأطلق عليها في البداية اسم "سلافا" ("المجد")، هي من ارث الاتحاد السوفياتي، وقد صممها المهندسون السوفيات في سبعينات القرن الماضي لخوض الحرب الباردة الثانية، حرب عصر بريجنيف، في وقت انتشرت فيه القوات المسلحة السوفياتية في جميع القارات. تمّ سحبها من الخدمة طيلة عشر سنوات، من عام 1990 إلى عام 2000، وساهمت في تجديد الجيوش الروسية المنصوص عليها في خطة التحديث الرئيسية التي أطلقها فلاديمير بوتين عام 2009.

   إن غرقها هو رمز لحدود هذا التحديث للقوات المسلحة الذي تم تنفيذه لأكثر من عقد وشمل جميع الأبعاد (الجوية، البرية، البحرية، السيبرانية) لتأكيد قوة روسيا في البعيد (في سوريا منذ عام 2015) ولكن أيضا قريبا من حدودها (القوقاز، البلطيق، البحر الأسود، شمال الأطلسي). بعبارة أخرى، لا يكفي الجمع بين الارث العسكري السوفياتي وتحديث بوتين للقوات، لتحقيق نصر عسكري حاسم وواضح ولا جدال فيه.
   منذ بداية الغزو في فبراير، ورغم الخسائر المدنية والعسكرية الفادحة التي لحقت بأوكرانيا، ورغم تدمير العديد من البلدات والعديد من البنى التحتية، ورغم التفوق المفترض للقوات المسلحة الروسية، لم تحقق موسكو أهدافها المعلنة: تغيير الحكومة الأوكرانية وفرض حالة الحياد التام على البلاد.

   بالنسبة لأوكرانيا، التي تدعي أنها أغرقت السفينة كعمل استثنائي، تشكل هذه الحلقة رمزًا كاملاً للأمل على المستوى العسكري: انتُقد لفترة طويلة، وتم إصلاحه مؤخرًا، ولم يستفد حتى وقت قريب إلا من دعم محدود من الغرب، اخذ الجيش الأوكراني ثأره من مناعة مفترضة للجيش الروسي ومن مبنى شلّ عمله في البحر، ورغم الحجم الهائل من الخسائر، أفشل غزوا انتشر على أربعة محاور، على الأقل، مدعومًا بقوات جوية من الدرجة الأولى ويملك خبرة في العمليات الخارجية.

   علاوة على ذلك، فإن اختفاء موسكفا له تأثير مباشر على البعد البحري للغزو الروسي. إذا كانت ماريوبول في الشرق وأوديسا في الغرب أهدافًا استراتيجية لروسيا، فذلك لأن غزو هذه المدن سيشكل بالنسبة لموسكو استكمالًا استراتيجيًا لضم شبه جزيرة القرم. في الواقع، سيمكنها ذلك من إعادة تحويل البحر الأسود إلى "بحيرة روسية" كما كان خلال الحقبة السوفياتية وحرمان أوكرانيا من واجهة بحرية. لكن مثل هذا الغزو يعتمد بشكل كبير على قدرة السفن الروسية على دعم الهجوم البري من البحر ...

   من غرق طراد يبلغ من العمر 40 عامًا إلى الانتصار على روسيا، هناك قفزة مهمة، لكن هذه الحلقة تؤكد ما هو واضح: على المستوى العسكري، تمكنت أوكرانيا من إقامة علاقة بين الضعيف والقوي مما يحرم روسيا من الانتصار الذي سعت إليه منذ ما يقارب الشهرين.

في الفضاء الإعلامي، صراع أجيال
   سرعان ما أصبح مصير موسكفا رهان صراع بعيد كل البعد عن البحر الأسود والعمليات البحرية. ومنذ عدة ساعات، يجسد المواجهة بين السرديات.
    من ناحية، تقلل روسيا من أهمية الحدث لأنها تحاول تخفيف الانطباع بعزلتها الدولية، والتقليل من عدد جنودها الذين قتلوا في أوكرانيا، وتنفي تهم جرائم الحرب.
    الاتصال الحربي الروسي مصقول من خلال التجربة: لقد بيّن مداه منذ بداية العملية الروسية في سوريا. كما انه مدعوم بحرفيّة "مصانع الترول" المنتشرة في كل مكان على الشبكات الاجتماعية، وتنقلها وسائل الإعلام التقليدية التي تسيطر عليها الحكومة بشكل متزايد باسم الوحدة المقدسة، والجهود الحربية، والولاء للبلد.
   ومع ذلك، في حالة فقدان موسكفا، برز الاتصال الروسي الرسمي بانه تقليد قديم عفا عليه الزمن: يستمد قالبه من الدعاية الرسمية زمن الاتحاد السوفياتي، الغارقة في عبادة الشخصية التلفزيونية للرئيس الروسي، فهو يكرّر موضوعات كلاسيكية تبدو وكأنه أعيد صياغتها وتجد صعوبة في التأثير والتعبئة.

   تم تنظيمها بالكامل من خلال "عمودية السلطة" التي، كما في الحقبة السوفياتية، تجعل القائد يظهر بمفرده في قمة السلطة والسيطرة، تردد دون توقف أن روسيا موضوع مؤامرة إعلامية غربية تشوه الواقع عن قصد، كما هو الحال مع الحريق العرضي "البسيط" على السفينة الحربية موسكفا. باختصار، استراتيجية اتصالية من القرن العشرين مجهزة بتقنيات القرن الحادي والعشرين ... تمامًا مثل موسكفا، حيث تم تحديثها بمعدات من القرن الحادي والعشرين.
   تقطع الاستراتيجية الإعلامية لأوكرانيا مع القرن العشرين. وتنطبق هذه المعاينة بشكل عام على الخطة الاتصالية للرئيس زيلينسكي، وعلى وجه الخصوص، فيما يتعلق بحادثة فقدان موسكفا -السفينة التي سبق ان استهزأت بها أوكرانيا في بداية الحرب، عندما رد بحارة أوكرانيون في جزيرة الثعابين على تهديد هذا الطراد الضخم وأوامره لهم بالاستسلام، بعبارات قاسية.

   التحدث مباشرة إلى الرأي العام والقادة السياسيين في جميع أنحاء العالم، غالبًا بلغتهم الخاصة، وإلقاء الضوء على الأفراد أو المقاومين أو ضحايا الغزو الروسي، والإشارة إلى جميع الثغرات في النظام العسكري الروسي، يتقن الرئيس الأوكراني ووكالات الاتصال العامة الأوكرانية قواعد ومفردات الإعلام المعاصر.
   متخليا عن احتكار السردية، وإعطاء التواصل الرسمي مظهر تلفزيون الواقع شبه التلقائي، من الواضح أن التواصل الأوكراني الحالي تأثر بمهنة زيلينسكي السابقة، ولكن أيضًا بالخبرة المكتسبة منذ أزمة 2014.

   تشن الوكالات العامة والخاصة هجمات مضادة فيروسية ضد الدعاية الروسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. باختصار، في المجال الإعلامي، كما في المدن الأوكرانية، تشن الحكومة الأوكرانية حرب عصابات تفضل الحركة والمراوغة والمعدات الخفيفة، مثل الصواريخ المضادة للسفن والدبابات ... ومقاطع الفيديو ذاتية الصنع لرئيس أوكرانيا.

   في الصراع بين أوكرانيا وروسيا من أجل فرض السردية، كان عدم تناسق الوسائل وعدم تجانس الاستراتيجيات مدهشًا في حالة موسكفا. من جهة، دعاية دولة متكلّفة قائمة على الإنكار المنهجي. ومن الجهة الأخرى، جيل جديد من المتصلين، تفاعلي ورشيق.

انتصار غير محتمل، مفاوضات مستحيلة
   تؤكد خسارة الطراد موسكفا أيضًا حالة توازن القوى السياسي والدبلوماسي بين روسيا التي تتعثّر في تحقيق النصر، وأوكرانيا التي أُضعفت بشكل دائم. لقد سمحت هذه السفينة بالفعل لأسطول البحر الأسود الروسي بلعب تفوقه العسكري. وبفضل قوتها النارية، فرضت روسيا حصارًا على السواحل الأوكرانية، مما أعاق الحياة الاقتصادية للمناطق الجنوبية من البلاد وتأكيد السيادة الأوكرانية على مياهها الإقليمية.
   واليوم، فإن خسارة هذه السفينة لا "تغير قواعد اللعبة": فهي لا تؤكد هزيمة روسيا ولا انتصار أوكرانيا. كما أن هذا الحدث لا يعجّل بمحادثات وقف إطلاق النار، ناهيك عن التحضير لمفاوضات سلام. ومثل العديد من حلقات الحرب، لا يوحي هذا بأي مخرج.
   وهنا كل مأساة هذه الحرب: النجاحات الرمزية ممكنة، لكن الانتصارات النهائية تبدو مستبعدة. ونتيجة لذلك، يبدو أن الأعمال العدائية ستستمر على حساب العديد من الأرواح البشرية، ولا سيما بين المدنيين الأوكرانيين.
-----------
* أستاذ محاضر في معهد الدراسات السياسية بباريس، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة موسكو.