رئيس الدولة ونائباه يهنئون ملك البحرين بذكرى اليوم الوطني لبلاده
ربما الترويس هو الرهان النهائي
روسيا-أوكرانيا: عودة عقيدة ليونيد بريجنيف...!
-- «لم نجد طريقة أخرى للدفاع عن حدودنا سوى توســيعها»، كتبت كاثـرين الثانيــة إلى فولتيــر
-- روسيا بوتين هي الوريث المباشر لأمراء موسكو في: فهـي تمتص وتهضـم مــا يحيط بهــا بــلا كلل
-- عزّز الضغط بمرور السنين رغبة أوكرانيا المتزايدة في الابتعاد عن روسيا ثقافيًا ولغويًا وسياسيًا واستراتيجيًا
-- هدف إمبراطوري صريح، حمله أولاً جزء من النخب الروسية، ويبــدو أنـــه لعـب دورًا متزايــدًا في رؤيــة فـلاديميـر بوتين
-- الجغرافيا السياسية هي في الواقع جوهر المشكلة، وليس تأثير أمريكا أو تهديد الناتو أو الجاذبية التي يمارسها الاتحاد الأوروبي
إن انبهار دعاة السيادة الأوروبيين بروسيا بوتين ينطوي على مفارقة، تزداد وضوحًا بمرور السنين: في مسائل العلاقات الدولية، تقترب هذه الأخيرة أكثر فأكثر من “نظرية السيادة المحدودة” التي صاغها الاتحاد السوفياتي عام 1968 لتبرير تدمير ربيع براغ. إن الطريقة البسيطة التي أجريت بها المفاوضات بشأن أوكرانيا، كما لو أن الأطراف الرئيسية المعنية ليس لها صوت في الموضوع، تعطي فكرة جيدة عن ذلك، حتى لو كنا في هذه الحالة المحددة سنشير إلى بعض التناسق بين موسكو وواشنطن التي عادت بشكل عفوي إلى عادات الحرب الباردة. لكن هناك فرقًا جوهريًا بين العاصمتين: الاستهانة الأمريكية لا تمنع الاعتراف الأساسي بحق الشعوب في تقرير المصير، بينما الروس منخرطون في مراجعة هذا المفهوم المركزي في العلاقات الدولية.
هل قلتم غريب؟
من المؤكد أن العبارات الروسية هندسة متغيرة، بل ومرنة بشكل ملحوظ في هذا الموضوع. وتشير بعض التدخلات الخارجية الى ذلك على أنه مبدأ مقدّس. نستحضر التدخل عام 2008 في جورجيا “للدفاع” عن الأوسيتيين والأبخازيين، والاستفتاء الخاطف الذي سمح بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ومنذ ما يقرب من ثماني سنوات “للدفاع” عن سكان دونباس المضطهدين من قبل “الفاشيين” في كييف.
تظاهر بوتين عام 2021 بالخوف من “إبادة جماعية” في دونباس. فهل ان روسيا هي المدافع عن الشعوب؟ لنستمع إلى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في فبراير 2014 في مؤتمر ميونيخ الأمني : “أود أيضًا أن أستشهد بكلمات الممثل الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية في قمة الناتو في بوخارست، عام 2008، والتي حفرت في ذاكرتي: ‘تأمل الولايات المتحدة أن تشكل أوكرانيا حكومة تضمن الوحدة السياسية والازدهار الاقتصادي، بدعم من صندوق النقد الدولي، واستجابة لتطلعات الشعب الأوكراني نحو المستقبل الأوروبي’. إذا كان هذا تأكيدًا على حرية الاختيار، فعندئذ يتم التعامل مع حرية الشعب الأوكراني بطريقة غريبة، لأنه في الواقع يتم فرض خيار، وهو ما لا تريده روسيا ولن تفعله أبدًا».
لموقف لافروف منطقه، وبالتأكيد موقف غريب أيضًا، غير ان الوقت أثبت ذلك. وبما ان الارتباك النسبي الذي ساد في فبراير 2014 تبدّد الآن، سنركّز هنا على تأكيدين اتضح أنهما غير صحيحين. «يتم فرض خيار”؟، لا شيء في ذلك الوقت يسمح بتأكيد ذلك بهذه الطريقة الحازمة، وكل شيء يشير اليوم إلى أن الشعب الأوكراني اختار الغرب بشكل ذاتي كامل. «ما لا تريده روسيا ولن تفعله أبدًا”؟، عام 2014، أدرك الجميع أن هذا غير صحيح، بعد تسميم مرشح رئاسي (2004)، و “حروب الغاز” الثلاث في 2005-2009، والضغوط المتعددة التي مورست للتأثير على الخيارات الأوكرانية وتقييدها خلال رئاسة يانوكوفيتش (2010-2014). ومنذ عام 2014، كانت حركة روسيا لدعم متمردي دونباس والسعي بكل الوسائل لإضعاف الدولة الأوكرانية واضحة تمامًا ويتم تنفيذها اليوم بوجه مكشوف. ومن المفارقات أن الطبيعة الهائلة والصريحة لسياسة التقييد هذه قد زادت الأوكرانيين تصلّبا، وعزّزت بمرور السنين رغبة متزايدة في الابتعاد عن روسيا ثقافيًا ولغويًا وسياسيًا واستراتيجيًا.
يمكن وصف هذا الاختلاف بشكل متزايد بأنه تجمّع لكتل متعارضة، استعادت منطق الحرب الباردة. وحتى معاهدة وارسو البائدة، تظهر مجددا في شكل منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تتدخل في كازاخستان وتقوم بمناورات ملائمة في بيلاروسيا. علاوة على ذلك، فإن شبكة القراءة هذه هي التي يفضلها الروس، الذين يستعيدون مكانة قوة عظمى في هذا البناء لعالم مستقطب بين موسكو وواشنطن.
لكن دون استبعاد هذا التفسير، يجب ألا نتجاهل البعد الإقليمي لما هو على المحك. في هذا المستوى، فإن الجغرافيا السياسية هي في الواقع جوهر المشكلة، وليس تأثير أمريكا أو تهديد الناتو أو الجاذبية التي يمارسها الاتحاد الأوروبي. إنها أولاً السيادة الأوكرانية، التي يتظاهر الروس بالقلق بشأنها، لكنهم يسعون أولاً إلى تقليصها، وكما سنرى، إنكارها.
نفي الآخر
يمكننا التمييز بين ثلاثة محاور رئيسية لهذا الانزلاق التدريجي نحو ما يجب أن يسمى نفي الآخر. الأول، هو المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لروسيا، في سياق شهد تفككًا مفاجئًا لمنطقة متكاملة اقتصاديًا وسياسيًا وديموغرافيًا عام 1991. لم تختف الروابط رغم ما لحقها، من شبكات خطوط الأنابيب الى تقاطع الشتات.
موضوعيا، هناك مصالح روسية في جميع الجمهوريات السوفياتية السابقة، بدء بمواطني الاتحاد الروسي. والدفاع عن هذه المصالح، والطموح لتجديد العلاقات، يقعان في صميم عدد من المشاريع العابرة للحدود، والتي لاقت استحسانًا متنوعًا من قبل جيرانها. مع كييف، دارت توترات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حول إعادة الاندماج هذه، والتي كان من الممكن أن تكون أوكرانيا عنصرًا رئيسيًا فيها. تم وضع دستور الاتحاد الجمركي (2010) الذي أصبح الاتحاد الاقتصادي الأوراسي عام 2015، بدونها، مما أثار استياء موسكو الكبير، والتي مع ذلك ضغطت بكل ثقل قوتها، مستخدمة العصا والجزرة.
الدافع الثاني، الذي كان حساسًا بشكل خاص منذ عام 2013 ولكنه بيّن منذ عام 2004، هو قلق الكرملين في مواجهة الحركات الديمقراطية: السيادة الأوكرانية عالقة هنا في مصفاة “الثورات الملونة”، وهي بالضرورة غير شرعية وموجهة من الخارج في نظر موسكو. ومن الواضح أن حركة الاحتجاج التي سبقت وتلت الانتخابات الرئاسية الروسية لعام 2012، سجّلت تشدد نظام بوتين الحريص على تجنّب العدوى. ان البعد الأيديولوجي للدفاع عن نموذج بديل للديمقراطيات الليبرالية هو الآن مركزي، ونلاحظ هنا ارتدادًا الى عقيدة بريجنيف، التي كان رهانها المباشر الانغلاق السياسي وسحق التطلعات الديمقراطية في الدول التابعة للاتحاد السوفياتي.
الدافع الثالث، هو هدف إمبراطوري صريح، حمله أولاً جزء من النخب الروسية، والذي يبدو أنه لعب دورًا متزايدًا في رؤية فلاديمير بوتين خلال ولايتيه الأولين “1”. لم تعد الرهانات مصالح أو نفوذًا، بل القوة، الإمبراطورية، مفاهيم مختلفة سمحت بصياغتها التدريجية.
إن مفهوم “الخارج القريب”، (“قريب” و “ما وراء الحدود”)، سابق لوصول فلاديمير بوتين إلى السلطة “2”، مخصص لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق (بما في ذلك أوكرانيا وبيلاروسيا، وكازاخستان ودول البلطيق ومولدوفا). وتحيل هذه الفكرة إلى منطقة تكون فيها المصالح الروسية على المحك مباشرة، وتستمد منها عقيدة موزّعة على عدد معين من الوثائق والإعلانات، وجوهرها هو أن لروسيا حقًا قانونيًا في التدخل، في حين القوى الأخرى مطالبة بالتحفظ.
رسميًا، يغطي الفضاء الخارجي القريب رابطة الدول المستقلة، التي سبق تأسيسها في ديسمبر 1991 الحلّ الرسمي للاتحاد السوفياتي ببضعة أيام. لكن لن يكون لهذه “الجماعة” الكثير من الصلابة. إن “الخارج القريب” أقل رسمية من الناحية القانونية، ولكنه أكثر وضوحًا من الناحية السياسية، على وجه الخصوص، ولسبب بسيط: إنها ليست معاهدة تضفي الطابع الرسمي على حل وسط، ولكنها رؤية فاعل وحيد، موسكو.
أقرب زمنيّا، وأكثر غموضًا، ولكن بطريقة ما أكثر طموحًا، يأتي بعد ذلك “العالم الروسي”، وهي صيغة جيوسياسية على عدة مستويات رهانها الرئيسي المرور غير المحسوس من التقارب الثقافي والتاريخي، إلى التعايش السياسي الذي يمكن أن يتخذ شكل استيعاب. استخدمه فلاديمير بوتين عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم، وعاد بانتظام منذئذ، في الخطة الاتصالية الرسمية، ولكن أيضًا في المحادثات. في اللغة الروسية، يحمل تعبير “روسكي مير” التباسا (ظهر مع الإصلاح الإملائي لعام 1918): تشير مير إلى كل من العالم والسلام. وبالتالي فإن “روسكي مير” ليس العالم الروسي فحسب، بل السلام الروسي أيضًا، مثل صدى بعيد للشكل الإمبراطوري الآخر، باكس رومانا. ومير أخيرًا وأيضًا، القرية المنشودة لا كمكان ولكن كجماعة.
تم استخدام المصطلح على نطاق واسع في العهد السوفياتي (محطة مير شاهد على ذلك)، وتحمل “قوة السلام” التي احتفى بها الشيوعيون الفرنسيون على مدى عقود، علامة لعبة التمثيلات هذه. لكن هذه الجماعة المسالمة التي تشبه أبرشية أرثوذكسية، تحمل في طياتها افتراضية أكثر إثارة للقلق: الابتعاد عن العالم الروسي هو أيضًا، حرفياً، الابتعاد عن السلام الروسي... وصناعة أعداء.
بين الخارج القريب والعالم الروسي، يمكن أن تحدث تحولات. عام 2014، سعت دعاية بوتين إلى فرض تعبير نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، للإشارة الى قطاع من الأرض يقع بين بحر آزوف والبحر الأسود. فشل الهجوم، وأصبح المصطلح أقل استخدامًا اليوم، ولكن إذا حدث هجوم جديد على هذه المنطقة التي تعتبر استراتيجية، فنحن نراهن على أن التعبير سيعود... تاريخيًا، يمكن تمديده أيضًا إلى نهر الدنيبر.
نرى هنا كيف، من خلال سحر علم التسميات والشرعية المشكوك فيها لتاريخ قديم، أن الخارج القريب يندمج بالكامل في العالم الروسي. هذا الانزلاق يستحق التساؤل، لأنه يقودنا إلى قلب المشكلة. العناصر المذكورة حتى الآن (الدفاع عن مصالحها، وكبح الديمقراطية الخطرة، وإعادة دمج الفضاء المفكك)، لا تعكس بالكامل طموحات روسيا بوتين وتطلعاتها. فكيف نسمّي الحركة متعددة الأوجه وغير المتماسكة تمامًا التي تسعى من خلالها إلى جذب جيرانها؟
«صبورة جدا وعنيدة»
لقد استخدمنا مصطلح الإمبراطورية هنا. فمفهوم مثل الإمبريالية يبدو خارج الطور إلى حد ما، لكنه يلقي الضوء على جوانب معينة لواقع معقد من خلال التذكير، على سبيل المثال، بالأهمية التاريخية، من نظام إلى آخر عبر التاريخ الروسي، لدولة مركزية تطورت من خلال الغزوات المتتالية. ان التراث الإمبراطوري ينشّط بعمق علاقة روسيا بجيرانها الغربيين (بما في ذلك نظام تبرير عمليات ضمّها الأخيرة)، ولكن أيضًا بشكل أعمق، العلاقة الغريبة التي حافظت عليها هذه الدولة الضخمة مع حدود لطالما ظلت بمثابة درجات سلم. «لم نجد طريقة أخرى للدفاع عن حدودنا سوى توسيعها”، كتبت كاثرين الثانية إلى فولتير. لا شك أنه يجب مراعاة هذا المفهوم الديناميكي للحدود، حيث يمر الدفاع عبر الغزو، من أجل فهم التلافيف الروسية. بالطبع، لا يمكن التوقف عنده، إلا لدخول عالم لم يعد لنا لا فكريًا، ولا قانونيًا عالم العلاقات الدولية، ولنعد إلى حجر زاويته، حق الشعوب في تقرير المصير.
إن الإحالة إلى عقيدة بريجنيف منيرة أيضًا –ومختلف عليها. منيرة، لأنها تجمع بين الدفاع عن الإمبراطورية ومعارضة قوية للديمقراطية، وكلاهما يركز على الغرب الجذاب والمهدِّد. ومنيرة لأن تحركات القوات العسكرية في السنوات الأخيرة تستحضر بقوة ميثاق وارسو، الذراع المسلح لهذه العقيدة التي تمت صياغتها عام 1968 لتبرير التدخل في براغ (تجدر الإشارة إلى أن السيد بوتين مر عبر بودابست في فبراير 2015، وزار قبور الجنود السوفيات المرسلين لسحق انتفاضة 1956). ومع ذلك، فإن الإحالة إلى عقيدة بريجنيف مطعون فيها، لأنها صيغت لتبرير التدخل في الديمقراطيات الشعبية، في حين أن معظم ما يُلعب اليوم يتعلق بالجمهوريات السوفياتية السابقة.
لكن هل الاختلاف في غاية الوضوح إذا أخذنا في الاعتبار الديناميكيات التاريخية؟ يواجه الأوكرانيون اليوم، بطريقة ثقافية غير مريحة، أكثر من التشيك أو البولنديين بالأمس، جرّاء تاريخهم السياسي واللغوي، ما وصفه ميلان كونديرا، في نص مدوي نُشر عام 1984، بـ “الترويس بصبر وإصرار “3 “... وربما الرهان النهائي هو هذا.
ليس لروسيا طموح استعادة مكانة القوة العظمى، أو تحديد علاقتها مع الغرب فقط، ولكن الخيط المتجدد لديناميكية الاستيعاب القومي، والهضم البطيء للشعوب المجاورة وأراضيها.
فهذه الاخيرة كانت خالية، ولم تكن أممًا: هذه البلدان، هذه الشعوب، أمم غير موجودة. وإلا فكيف نفهم المقال المذهل الذي نشره فلاديمير بوتين في يوليو 2021، والذي كتب فيه أن الروس والأوكرانيين “شعب واحد”؟ فمن وحدويّة سنوات 2014-2020 (“الدفاع” عن العرقية الروسية التي تعيش في شرق أوكرانيا)، ننتقل إلى الإنكار الصريح والبسيط للهوية الأوكرانية، وبالتالي حقيقة الأمّة الأوكرانية.
إنها هنا ليست مجرد صفاقة، حتى لو لم ينخدع أحد ببراعة يد الساحر: بدون شعب، لا يوجد حق للشعوب في تقرير المصير. لكن لفهم الشعور العميق بالشرعية الذي يبدو أنه يسكن فلاديمير بوتين، لشرح أكاذيب وتناقضات الموقف الروسي، نحن ملزمون بفهم هذا المنظور الطويل، الذي يتجاوز بوتين ولافروف بعيدا.
يجب أن نعود إلى المفهوم المذهل للحدود الذي صاغته كاترين الثانية في رسالتها إلى فولتير، والتي تعبّر عن واقع جيوسياسي في تناقض صارخ مع النظام الأكثر صرامة للعلاقات الدولية: روسيا في الأساس بلد يمتد، ليس فقط بمعنى المساحة، ولكن بمعنى التّوسّع. إن روسيا بوتين هي الوريث المباشر لأمراء موسكوفي: فهي تمتص وتهضم ما يحيط بها بلا كلل. وهذه الحركة، التي بدأت في القرن السادس عشر، لا ينبغي الخلط بينها وبين الإمبريالية الحديثة، ولا مع قومية الغزو مثل حركة الرايخ الثالث، التي ميزت بقوة الفرق بين الألمان والسلاف. إنها بالأحرى عملية “تأميم” تاريخية، على نطاق واسع، تمر عبر الترويس الذي أثاره ميلان كونديرا.
من الواضح أن هذه الحركة ليست نهرًا طويلًا هادئًا. في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، اصطدمت بعقبة غير متوقعة، مع صعود الشعور القومي فيما سيصبح مرة أخرى بولندا وفي أجزاء أخرى من الإمبراطورية “4”.
وأعيدت حينها روسيا الاستيعاب والتوحيد والترويس إلى بُعدها الإمبراطوري و”سجن الشعوب” (الصيغة مأخوذة من لينين، لكن نجد هذه الفكرة عند كوستين عام 1839). وردا على صعود القوميات السلافية، تغيّرت ديناميكية الاستيعاب رسميًا في عهد الإسكندر الثالث، إلى سياسة رسمية للترويس الثقافي والديني واللغوي “5».
وبعد أن غطاها التاريخ السوفياتي، الذي ألغاها وأعادها في نفس الوقت (بدولنة شعوب السهوب التي أصبحت أممًا)، وبعد كسرها عام 1991، استؤنفت هذه الحركة. ومرة أخرى، تصطدم ببروز شعور قومي هو بنفس القوة التي تتمتع بها، ويحوز صلابة بمقاومتها. كما أنها تصطدم ايضا بأمّة ترفع قوانينها والنظام الدولي، في مواجهة “التضخم” الجيوسياسي للتاريخ الروسي.
هذه المقاومة، بالمعنى المادي للمصطلح، هي التي تجهلها روسيا بوتين (من الرئيس إلى جزء كبير من السكان)، وتجد صعوبة في فهمها، وتعتبرها بعمق انها غير شرعية، وتحاول جاهدة أن تنكرها. إن الشعب الأوكراني، في نظر بوتين وفي لغة “العالم الروسي”، غير موجود. ليس استقلال أوكرانيا أو تحالفاتها الاقتصادية أو الاستراتيجية هي التي تهدد روسيا، وإنما الإنكار المرفوع للعالم الروسي، هذا الكيان الذي يتوسع ببطء ويرى نفسه أقوى وأقدم وأكثر شرعية من المفاهيم السخيفة للحداثة الغربية، مثل النظام الدولي أو السيادة أو حقوق الشعوب... الشعوب؟ أية شعوب؟
«1» فيما يتعلق بنقاط التحول ، حوالي 2002-2003 ، راجع كتاب كاترين بيلتون ، شعب بوتين: كيف استعاد جهاز المخابرات السوفياتية روسيا ثم هاجم الغرب، نيويورك وفارار وستراوس وجيرو ، 2020.
«2» جان سيلفستر مونجرينير وفرانسواز ثوم ، الجغرافيا السياسية لروسيا ، بوف، الطبعة الثانية ، 2018.
«3» ميلان كونديرا ، “الغرب مختطفا”، المناظرة ، نوفمبر 1983. نقتبس من طبعة المجلد الذي نشرته غاليمار عام 2021، ص. 46-يستحضر الكاتب هنا بولندا بشكل أكثر تحديداً، ومعها أوروبا الوسطى.
لكن بعد ذلك ببضع فقرات وسّع فضاء المرجع، مستحضرًا روسيا “المتجانسة، الموحّدة، المركزية، التي حوّلت بتصميم هائل جميع دول إمبراطورتيها (الأوكرانيون، البيلاروسيون، الأرمن، اللاتفيون، الليثيون، إلخ. إلى شعب روسي واحد”(ص 47-48).
«4» نشير هنا إلى التحليلات الكلاسيكية لبنديكت أندرسون ، المجتمعات المتخيلة : تأملات في أصل انتشار القومية ، فيرسو ، 1983.
«5» انظر ب. أندرسون، مرجع سابق ذكر، ص. 87 وما يليها، من أجل تاريخ موجز عن الترويس اللغوي ورهاناته السياسية داخل الإمبراطورية. من هذا التاريخ الممتد لقرون، فإن سياسة بوتين فرع واحد فقط.
فرع آخر، أدبي، يجد تجسيده في قصيدة برودسكي الشهيرة عن الاستقلال الأوكراني، حيث يخترقها ازدراء ثقافي غير عادي.
*مؤرخ للأفكار، درّس في السوربون وفي مدرسة العلوم السياسية بباريس. يكتب مقالات اقتصادية على موقع تيلوس، وهو مركز أبحاث لليسار الإصلاحي، ويساهم في مجلة اسبري. من مؤلفاته “الفالس الأوروبي، المراحل الثلاث للأزمة».
-- روسيا بوتين هي الوريث المباشر لأمراء موسكو في: فهـي تمتص وتهضـم مــا يحيط بهــا بــلا كلل
-- عزّز الضغط بمرور السنين رغبة أوكرانيا المتزايدة في الابتعاد عن روسيا ثقافيًا ولغويًا وسياسيًا واستراتيجيًا
-- هدف إمبراطوري صريح، حمله أولاً جزء من النخب الروسية، ويبــدو أنـــه لعـب دورًا متزايــدًا في رؤيــة فـلاديميـر بوتين
-- الجغرافيا السياسية هي في الواقع جوهر المشكلة، وليس تأثير أمريكا أو تهديد الناتو أو الجاذبية التي يمارسها الاتحاد الأوروبي
إن انبهار دعاة السيادة الأوروبيين بروسيا بوتين ينطوي على مفارقة، تزداد وضوحًا بمرور السنين: في مسائل العلاقات الدولية، تقترب هذه الأخيرة أكثر فأكثر من “نظرية السيادة المحدودة” التي صاغها الاتحاد السوفياتي عام 1968 لتبرير تدمير ربيع براغ. إن الطريقة البسيطة التي أجريت بها المفاوضات بشأن أوكرانيا، كما لو أن الأطراف الرئيسية المعنية ليس لها صوت في الموضوع، تعطي فكرة جيدة عن ذلك، حتى لو كنا في هذه الحالة المحددة سنشير إلى بعض التناسق بين موسكو وواشنطن التي عادت بشكل عفوي إلى عادات الحرب الباردة. لكن هناك فرقًا جوهريًا بين العاصمتين: الاستهانة الأمريكية لا تمنع الاعتراف الأساسي بحق الشعوب في تقرير المصير، بينما الروس منخرطون في مراجعة هذا المفهوم المركزي في العلاقات الدولية.
هل قلتم غريب؟
من المؤكد أن العبارات الروسية هندسة متغيرة، بل ومرنة بشكل ملحوظ في هذا الموضوع. وتشير بعض التدخلات الخارجية الى ذلك على أنه مبدأ مقدّس. نستحضر التدخل عام 2008 في جورجيا “للدفاع” عن الأوسيتيين والأبخازيين، والاستفتاء الخاطف الذي سمح بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ومنذ ما يقرب من ثماني سنوات “للدفاع” عن سكان دونباس المضطهدين من قبل “الفاشيين” في كييف.
تظاهر بوتين عام 2021 بالخوف من “إبادة جماعية” في دونباس. فهل ان روسيا هي المدافع عن الشعوب؟ لنستمع إلى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في فبراير 2014 في مؤتمر ميونيخ الأمني : “أود أيضًا أن أستشهد بكلمات الممثل الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية في قمة الناتو في بوخارست، عام 2008، والتي حفرت في ذاكرتي: ‘تأمل الولايات المتحدة أن تشكل أوكرانيا حكومة تضمن الوحدة السياسية والازدهار الاقتصادي، بدعم من صندوق النقد الدولي، واستجابة لتطلعات الشعب الأوكراني نحو المستقبل الأوروبي’. إذا كان هذا تأكيدًا على حرية الاختيار، فعندئذ يتم التعامل مع حرية الشعب الأوكراني بطريقة غريبة، لأنه في الواقع يتم فرض خيار، وهو ما لا تريده روسيا ولن تفعله أبدًا».
لموقف لافروف منطقه، وبالتأكيد موقف غريب أيضًا، غير ان الوقت أثبت ذلك. وبما ان الارتباك النسبي الذي ساد في فبراير 2014 تبدّد الآن، سنركّز هنا على تأكيدين اتضح أنهما غير صحيحين. «يتم فرض خيار”؟، لا شيء في ذلك الوقت يسمح بتأكيد ذلك بهذه الطريقة الحازمة، وكل شيء يشير اليوم إلى أن الشعب الأوكراني اختار الغرب بشكل ذاتي كامل. «ما لا تريده روسيا ولن تفعله أبدًا”؟، عام 2014، أدرك الجميع أن هذا غير صحيح، بعد تسميم مرشح رئاسي (2004)، و “حروب الغاز” الثلاث في 2005-2009، والضغوط المتعددة التي مورست للتأثير على الخيارات الأوكرانية وتقييدها خلال رئاسة يانوكوفيتش (2010-2014). ومنذ عام 2014، كانت حركة روسيا لدعم متمردي دونباس والسعي بكل الوسائل لإضعاف الدولة الأوكرانية واضحة تمامًا ويتم تنفيذها اليوم بوجه مكشوف. ومن المفارقات أن الطبيعة الهائلة والصريحة لسياسة التقييد هذه قد زادت الأوكرانيين تصلّبا، وعزّزت بمرور السنين رغبة متزايدة في الابتعاد عن روسيا ثقافيًا ولغويًا وسياسيًا واستراتيجيًا.
يمكن وصف هذا الاختلاف بشكل متزايد بأنه تجمّع لكتل متعارضة، استعادت منطق الحرب الباردة. وحتى معاهدة وارسو البائدة، تظهر مجددا في شكل منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تتدخل في كازاخستان وتقوم بمناورات ملائمة في بيلاروسيا. علاوة على ذلك، فإن شبكة القراءة هذه هي التي يفضلها الروس، الذين يستعيدون مكانة قوة عظمى في هذا البناء لعالم مستقطب بين موسكو وواشنطن.
لكن دون استبعاد هذا التفسير، يجب ألا نتجاهل البعد الإقليمي لما هو على المحك. في هذا المستوى، فإن الجغرافيا السياسية هي في الواقع جوهر المشكلة، وليس تأثير أمريكا أو تهديد الناتو أو الجاذبية التي يمارسها الاتحاد الأوروبي. إنها أولاً السيادة الأوكرانية، التي يتظاهر الروس بالقلق بشأنها، لكنهم يسعون أولاً إلى تقليصها، وكما سنرى، إنكارها.
نفي الآخر
يمكننا التمييز بين ثلاثة محاور رئيسية لهذا الانزلاق التدريجي نحو ما يجب أن يسمى نفي الآخر. الأول، هو المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لروسيا، في سياق شهد تفككًا مفاجئًا لمنطقة متكاملة اقتصاديًا وسياسيًا وديموغرافيًا عام 1991. لم تختف الروابط رغم ما لحقها، من شبكات خطوط الأنابيب الى تقاطع الشتات.
موضوعيا، هناك مصالح روسية في جميع الجمهوريات السوفياتية السابقة، بدء بمواطني الاتحاد الروسي. والدفاع عن هذه المصالح، والطموح لتجديد العلاقات، يقعان في صميم عدد من المشاريع العابرة للحدود، والتي لاقت استحسانًا متنوعًا من قبل جيرانها. مع كييف، دارت توترات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حول إعادة الاندماج هذه، والتي كان من الممكن أن تكون أوكرانيا عنصرًا رئيسيًا فيها. تم وضع دستور الاتحاد الجمركي (2010) الذي أصبح الاتحاد الاقتصادي الأوراسي عام 2015، بدونها، مما أثار استياء موسكو الكبير، والتي مع ذلك ضغطت بكل ثقل قوتها، مستخدمة العصا والجزرة.
الدافع الثاني، الذي كان حساسًا بشكل خاص منذ عام 2013 ولكنه بيّن منذ عام 2004، هو قلق الكرملين في مواجهة الحركات الديمقراطية: السيادة الأوكرانية عالقة هنا في مصفاة “الثورات الملونة”، وهي بالضرورة غير شرعية وموجهة من الخارج في نظر موسكو. ومن الواضح أن حركة الاحتجاج التي سبقت وتلت الانتخابات الرئاسية الروسية لعام 2012، سجّلت تشدد نظام بوتين الحريص على تجنّب العدوى. ان البعد الأيديولوجي للدفاع عن نموذج بديل للديمقراطيات الليبرالية هو الآن مركزي، ونلاحظ هنا ارتدادًا الى عقيدة بريجنيف، التي كان رهانها المباشر الانغلاق السياسي وسحق التطلعات الديمقراطية في الدول التابعة للاتحاد السوفياتي.
الدافع الثالث، هو هدف إمبراطوري صريح، حمله أولاً جزء من النخب الروسية، والذي يبدو أنه لعب دورًا متزايدًا في رؤية فلاديمير بوتين خلال ولايتيه الأولين “1”. لم تعد الرهانات مصالح أو نفوذًا، بل القوة، الإمبراطورية، مفاهيم مختلفة سمحت بصياغتها التدريجية.
إن مفهوم “الخارج القريب”، (“قريب” و “ما وراء الحدود”)، سابق لوصول فلاديمير بوتين إلى السلطة “2”، مخصص لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق (بما في ذلك أوكرانيا وبيلاروسيا، وكازاخستان ودول البلطيق ومولدوفا). وتحيل هذه الفكرة إلى منطقة تكون فيها المصالح الروسية على المحك مباشرة، وتستمد منها عقيدة موزّعة على عدد معين من الوثائق والإعلانات، وجوهرها هو أن لروسيا حقًا قانونيًا في التدخل، في حين القوى الأخرى مطالبة بالتحفظ.
رسميًا، يغطي الفضاء الخارجي القريب رابطة الدول المستقلة، التي سبق تأسيسها في ديسمبر 1991 الحلّ الرسمي للاتحاد السوفياتي ببضعة أيام. لكن لن يكون لهذه “الجماعة” الكثير من الصلابة. إن “الخارج القريب” أقل رسمية من الناحية القانونية، ولكنه أكثر وضوحًا من الناحية السياسية، على وجه الخصوص، ولسبب بسيط: إنها ليست معاهدة تضفي الطابع الرسمي على حل وسط، ولكنها رؤية فاعل وحيد، موسكو.
أقرب زمنيّا، وأكثر غموضًا، ولكن بطريقة ما أكثر طموحًا، يأتي بعد ذلك “العالم الروسي”، وهي صيغة جيوسياسية على عدة مستويات رهانها الرئيسي المرور غير المحسوس من التقارب الثقافي والتاريخي، إلى التعايش السياسي الذي يمكن أن يتخذ شكل استيعاب. استخدمه فلاديمير بوتين عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم، وعاد بانتظام منذئذ، في الخطة الاتصالية الرسمية، ولكن أيضًا في المحادثات. في اللغة الروسية، يحمل تعبير “روسكي مير” التباسا (ظهر مع الإصلاح الإملائي لعام 1918): تشير مير إلى كل من العالم والسلام. وبالتالي فإن “روسكي مير” ليس العالم الروسي فحسب، بل السلام الروسي أيضًا، مثل صدى بعيد للشكل الإمبراطوري الآخر، باكس رومانا. ومير أخيرًا وأيضًا، القرية المنشودة لا كمكان ولكن كجماعة.
تم استخدام المصطلح على نطاق واسع في العهد السوفياتي (محطة مير شاهد على ذلك)، وتحمل “قوة السلام” التي احتفى بها الشيوعيون الفرنسيون على مدى عقود، علامة لعبة التمثيلات هذه. لكن هذه الجماعة المسالمة التي تشبه أبرشية أرثوذكسية، تحمل في طياتها افتراضية أكثر إثارة للقلق: الابتعاد عن العالم الروسي هو أيضًا، حرفياً، الابتعاد عن السلام الروسي... وصناعة أعداء.
بين الخارج القريب والعالم الروسي، يمكن أن تحدث تحولات. عام 2014، سعت دعاية بوتين إلى فرض تعبير نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، للإشارة الى قطاع من الأرض يقع بين بحر آزوف والبحر الأسود. فشل الهجوم، وأصبح المصطلح أقل استخدامًا اليوم، ولكن إذا حدث هجوم جديد على هذه المنطقة التي تعتبر استراتيجية، فنحن نراهن على أن التعبير سيعود... تاريخيًا، يمكن تمديده أيضًا إلى نهر الدنيبر.
نرى هنا كيف، من خلال سحر علم التسميات والشرعية المشكوك فيها لتاريخ قديم، أن الخارج القريب يندمج بالكامل في العالم الروسي. هذا الانزلاق يستحق التساؤل، لأنه يقودنا إلى قلب المشكلة. العناصر المذكورة حتى الآن (الدفاع عن مصالحها، وكبح الديمقراطية الخطرة، وإعادة دمج الفضاء المفكك)، لا تعكس بالكامل طموحات روسيا بوتين وتطلعاتها. فكيف نسمّي الحركة متعددة الأوجه وغير المتماسكة تمامًا التي تسعى من خلالها إلى جذب جيرانها؟
«صبورة جدا وعنيدة»
لقد استخدمنا مصطلح الإمبراطورية هنا. فمفهوم مثل الإمبريالية يبدو خارج الطور إلى حد ما، لكنه يلقي الضوء على جوانب معينة لواقع معقد من خلال التذكير، على سبيل المثال، بالأهمية التاريخية، من نظام إلى آخر عبر التاريخ الروسي، لدولة مركزية تطورت من خلال الغزوات المتتالية. ان التراث الإمبراطوري ينشّط بعمق علاقة روسيا بجيرانها الغربيين (بما في ذلك نظام تبرير عمليات ضمّها الأخيرة)، ولكن أيضًا بشكل أعمق، العلاقة الغريبة التي حافظت عليها هذه الدولة الضخمة مع حدود لطالما ظلت بمثابة درجات سلم. «لم نجد طريقة أخرى للدفاع عن حدودنا سوى توسيعها”، كتبت كاثرين الثانية إلى فولتير. لا شك أنه يجب مراعاة هذا المفهوم الديناميكي للحدود، حيث يمر الدفاع عبر الغزو، من أجل فهم التلافيف الروسية. بالطبع، لا يمكن التوقف عنده، إلا لدخول عالم لم يعد لنا لا فكريًا، ولا قانونيًا عالم العلاقات الدولية، ولنعد إلى حجر زاويته، حق الشعوب في تقرير المصير.
إن الإحالة إلى عقيدة بريجنيف منيرة أيضًا –ومختلف عليها. منيرة، لأنها تجمع بين الدفاع عن الإمبراطورية ومعارضة قوية للديمقراطية، وكلاهما يركز على الغرب الجذاب والمهدِّد. ومنيرة لأن تحركات القوات العسكرية في السنوات الأخيرة تستحضر بقوة ميثاق وارسو، الذراع المسلح لهذه العقيدة التي تمت صياغتها عام 1968 لتبرير التدخل في براغ (تجدر الإشارة إلى أن السيد بوتين مر عبر بودابست في فبراير 2015، وزار قبور الجنود السوفيات المرسلين لسحق انتفاضة 1956). ومع ذلك، فإن الإحالة إلى عقيدة بريجنيف مطعون فيها، لأنها صيغت لتبرير التدخل في الديمقراطيات الشعبية، في حين أن معظم ما يُلعب اليوم يتعلق بالجمهوريات السوفياتية السابقة.
لكن هل الاختلاف في غاية الوضوح إذا أخذنا في الاعتبار الديناميكيات التاريخية؟ يواجه الأوكرانيون اليوم، بطريقة ثقافية غير مريحة، أكثر من التشيك أو البولنديين بالأمس، جرّاء تاريخهم السياسي واللغوي، ما وصفه ميلان كونديرا، في نص مدوي نُشر عام 1984، بـ “الترويس بصبر وإصرار “3 “... وربما الرهان النهائي هو هذا.
ليس لروسيا طموح استعادة مكانة القوة العظمى، أو تحديد علاقتها مع الغرب فقط، ولكن الخيط المتجدد لديناميكية الاستيعاب القومي، والهضم البطيء للشعوب المجاورة وأراضيها.
فهذه الاخيرة كانت خالية، ولم تكن أممًا: هذه البلدان، هذه الشعوب، أمم غير موجودة. وإلا فكيف نفهم المقال المذهل الذي نشره فلاديمير بوتين في يوليو 2021، والذي كتب فيه أن الروس والأوكرانيين “شعب واحد”؟ فمن وحدويّة سنوات 2014-2020 (“الدفاع” عن العرقية الروسية التي تعيش في شرق أوكرانيا)، ننتقل إلى الإنكار الصريح والبسيط للهوية الأوكرانية، وبالتالي حقيقة الأمّة الأوكرانية.
إنها هنا ليست مجرد صفاقة، حتى لو لم ينخدع أحد ببراعة يد الساحر: بدون شعب، لا يوجد حق للشعوب في تقرير المصير. لكن لفهم الشعور العميق بالشرعية الذي يبدو أنه يسكن فلاديمير بوتين، لشرح أكاذيب وتناقضات الموقف الروسي، نحن ملزمون بفهم هذا المنظور الطويل، الذي يتجاوز بوتين ولافروف بعيدا.
يجب أن نعود إلى المفهوم المذهل للحدود الذي صاغته كاترين الثانية في رسالتها إلى فولتير، والتي تعبّر عن واقع جيوسياسي في تناقض صارخ مع النظام الأكثر صرامة للعلاقات الدولية: روسيا في الأساس بلد يمتد، ليس فقط بمعنى المساحة، ولكن بمعنى التّوسّع. إن روسيا بوتين هي الوريث المباشر لأمراء موسكوفي: فهي تمتص وتهضم ما يحيط بها بلا كلل. وهذه الحركة، التي بدأت في القرن السادس عشر، لا ينبغي الخلط بينها وبين الإمبريالية الحديثة، ولا مع قومية الغزو مثل حركة الرايخ الثالث، التي ميزت بقوة الفرق بين الألمان والسلاف. إنها بالأحرى عملية “تأميم” تاريخية، على نطاق واسع، تمر عبر الترويس الذي أثاره ميلان كونديرا.
من الواضح أن هذه الحركة ليست نهرًا طويلًا هادئًا. في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، اصطدمت بعقبة غير متوقعة، مع صعود الشعور القومي فيما سيصبح مرة أخرى بولندا وفي أجزاء أخرى من الإمبراطورية “4”.
وأعيدت حينها روسيا الاستيعاب والتوحيد والترويس إلى بُعدها الإمبراطوري و”سجن الشعوب” (الصيغة مأخوذة من لينين، لكن نجد هذه الفكرة عند كوستين عام 1839). وردا على صعود القوميات السلافية، تغيّرت ديناميكية الاستيعاب رسميًا في عهد الإسكندر الثالث، إلى سياسة رسمية للترويس الثقافي والديني واللغوي “5».
وبعد أن غطاها التاريخ السوفياتي، الذي ألغاها وأعادها في نفس الوقت (بدولنة شعوب السهوب التي أصبحت أممًا)، وبعد كسرها عام 1991، استؤنفت هذه الحركة. ومرة أخرى، تصطدم ببروز شعور قومي هو بنفس القوة التي تتمتع بها، ويحوز صلابة بمقاومتها. كما أنها تصطدم ايضا بأمّة ترفع قوانينها والنظام الدولي، في مواجهة “التضخم” الجيوسياسي للتاريخ الروسي.
هذه المقاومة، بالمعنى المادي للمصطلح، هي التي تجهلها روسيا بوتين (من الرئيس إلى جزء كبير من السكان)، وتجد صعوبة في فهمها، وتعتبرها بعمق انها غير شرعية، وتحاول جاهدة أن تنكرها. إن الشعب الأوكراني، في نظر بوتين وفي لغة “العالم الروسي”، غير موجود. ليس استقلال أوكرانيا أو تحالفاتها الاقتصادية أو الاستراتيجية هي التي تهدد روسيا، وإنما الإنكار المرفوع للعالم الروسي، هذا الكيان الذي يتوسع ببطء ويرى نفسه أقوى وأقدم وأكثر شرعية من المفاهيم السخيفة للحداثة الغربية، مثل النظام الدولي أو السيادة أو حقوق الشعوب... الشعوب؟ أية شعوب؟
«1» فيما يتعلق بنقاط التحول ، حوالي 2002-2003 ، راجع كتاب كاترين بيلتون ، شعب بوتين: كيف استعاد جهاز المخابرات السوفياتية روسيا ثم هاجم الغرب، نيويورك وفارار وستراوس وجيرو ، 2020.
«2» جان سيلفستر مونجرينير وفرانسواز ثوم ، الجغرافيا السياسية لروسيا ، بوف، الطبعة الثانية ، 2018.
«3» ميلان كونديرا ، “الغرب مختطفا”، المناظرة ، نوفمبر 1983. نقتبس من طبعة المجلد الذي نشرته غاليمار عام 2021، ص. 46-يستحضر الكاتب هنا بولندا بشكل أكثر تحديداً، ومعها أوروبا الوسطى.
لكن بعد ذلك ببضع فقرات وسّع فضاء المرجع، مستحضرًا روسيا “المتجانسة، الموحّدة، المركزية، التي حوّلت بتصميم هائل جميع دول إمبراطورتيها (الأوكرانيون، البيلاروسيون، الأرمن، اللاتفيون، الليثيون، إلخ. إلى شعب روسي واحد”(ص 47-48).
«4» نشير هنا إلى التحليلات الكلاسيكية لبنديكت أندرسون ، المجتمعات المتخيلة : تأملات في أصل انتشار القومية ، فيرسو ، 1983.
«5» انظر ب. أندرسون، مرجع سابق ذكر، ص. 87 وما يليها، من أجل تاريخ موجز عن الترويس اللغوي ورهاناته السياسية داخل الإمبراطورية. من هذا التاريخ الممتد لقرون، فإن سياسة بوتين فرع واحد فقط.
فرع آخر، أدبي، يجد تجسيده في قصيدة برودسكي الشهيرة عن الاستقلال الأوكراني، حيث يخترقها ازدراء ثقافي غير عادي.
*مؤرخ للأفكار، درّس في السوربون وفي مدرسة العلوم السياسية بباريس. يكتب مقالات اقتصادية على موقع تيلوس، وهو مركز أبحاث لليسار الإصلاحي، ويساهم في مجلة اسبري. من مؤلفاته “الفالس الأوروبي، المراحل الثلاث للأزمة».