التراجع عن الهاوية لن يكون سهلاً

روسيا -الصين -الناتو: لهذا موسكو مستعدة للحرب...!

روسيا -الصين -الناتو: لهذا موسكو مستعدة للحرب...!

-- الاندفاع نحو المحيط الهادي لدولة يوجد سكانها بالكامل في الغرب، هو النظير لتطويق الحلف الأطلسي لروسيا
-- وصول بوتين إلى السلطة يرمز خصوصا إلى نهاية قبضة الغرب على مصير روسيا
-- تحيل المسألة الأوكرانية إلى أسس روسيا، أي مســألة الوصــول إلى البحــار الدافئـة
-- اللعبة خطرة، ولتفاديها، سيتعين علينا الخروج من المعركة الوجودية التي تمثلها الأحادية القطبية
-- بدء الحرب في البلقان، أثارت الشكوك بسرعة، وأعطت إشارة لتوسيع الناتو والاتحاد الأوروبي
-- في حقب مختلفة، استخدمت الولايات المتحدة ذرائـع متنوّعـة لتطويق روـسيا


   إن احتمال المواجهة التي ستكون أوكرانيا فيها هي الذريعة وليس الرهان، قد تفاجئ أوروبا الحسّاسة للحرب، ونسيت كيف وصلنا إلى هنا. إن التراجع عن الهاوية لن يكون سهلاً، خاصة أن الدبلوماسية قد تدهورت.    روسوفيل، ومن كبار متحدثي الروسية، مترجم بوشكين، ومخترع الأبجدية الجورجية، كان جاك ماتلوك، من 1987 إلى 1991، آخر سفير أمريكي لدى الاتحاد السوفياتي. وكان في موسكو خلال الأزمة الكوبية عام 1962، تفاوض على اتفاقيات إنهاء الحرب الباردة بين إدارتي غورباتشوف وريغان. ومن بين المعضلات التي كان لا بد من حلّها، لم تكن مسألة إعادة توحيد ألمانيا ودخولها إلى الناتو أقلها.     بعد استكمال مهمته، قام جاك ماتلوك بتقديم محاضرة في جامعة كولومبيا. دار الجدل في ذلك الوقت حول ما شكل نهاية الحرب الباردة: هل يعني ذلك إنهاء السباق على الرؤوس الحربية النووية، مع التحقق من كلا الجانبين، وإلزام روسيا بعدم التوسع إلى ما وراء الحدود المعاد تعريفها بهدف توسعي؟ أم هل كان على روسيا أن تصبح جزءًا صغيرًا من الغرب، أي ديمقراطية ليبرالية، حتى تعتبر الولايات المتحدة نفسها في سلام؟

 بالنسبة لإدارة ريغان، وبشكل أساسي للإدارة التي تلتها، كان الرد الأول كافياً، وبروح “واقعية”، بمعنى العلاقات الدولية، ركزت المفاوضات على نزع السلاح والهيكل الأمني. لذلك أكد ماتلوك ما نعرفه: كان مفهوما، وبدون توقيع معاهدة، أن الناتو لن يهدد وجود روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، والتي فقدت للتو ربع أراضيها.
   بالنسبة لمؤيدي “نهاية التاريخ”*، الذين ما زالوا قليلين في إدارة بوش الاب، فقد انتصرت الولايات المتحدة على نظام يعتبر خطيرًا لأنه لم يكن ليبراليًا. وبالتالي، فإن مذهب “تغيير النظام” المسياني، يشترط السلام لتحوّل الاتحاد السوفياتي السابق إلى ليبرالية سياسية واقتصادية. وقد أوكلت المهمة أيضًا إلى حشد من المستشارين، منهم جيفري ساكس وآخرين، الذين نزلوا إلى موسكو “لتقديم المشورة” لإدارة يلتسين بشأن كيفية المضي قدمًا.

   ان بدء الحرب في البلقان، التي أدارتها إدارة كلينتون، أثارت الشكوك بسرعة. فمن خلال إنشاء دول جديدة، أعطت هذه الحرب، التي كان لا بد أن تحدث وروسيا على ركبتيها، ينشغل سكانها بخبزهم اليومي، إشارة لتوسيع الناتو والاتحاد الأوروبي، الذي دفعته بقوة واشنطن. انضمت سلوفينيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي عام 2004. وتواريخ كرواتيا هي 2013 و2009 على التوالي، ولا تزال صربيا والبوسنة وكوسوفو وألبانيا ومقدونيا الشمالية مرشحة للانضمام إلى الاتحاد، في المرحلة النهائية بالنسبة للأخيرتين. وتتوقع موسكو منطقياً أن يتبع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو يسبقه الانضمام إلى الناتو. ومن وجهة النظر الروسية، وُلدت اتفاقية عام 1990 ميتة.

منعطف عام 2000
   عام 2000 ثورة بالمعنى اللاتيني: العجلة تدور، وبشكل راديكالي. كان لانتخاب جورج دبليو بوش رئيساً للبيت الأبيض في 12 ديسمبر عواقب وخيمة على السياسة الخارجية. تشير إدارة بوش الابن إلى تحولين: استبدال نخبة الساحل الشرقي بنخبة الساحل الغربي الأصغر، والواقعيين التقليديين بالمحافظين الجدد**. هؤلاء الأخيرون هم غزاة مصممون على شن الحملة الصليبية الليبرالية، التي حذر الفيلسوف الألماني كانط من أنها ستؤدي إلى حرب عامة. العراق وأفغانستان سيكونان جزءً من البضاعة، وقد فتحت كل من هذه الاحتلالات صندوق باندورا للكوارث المتوقعة على نطاق واسع.
   انتخب فلاديمير بوتين، وهو رجل مخابرات يتحدث الألمانية، رئيسًا لروسيا في مارس 2000، ويقضي فترة رئاسته الرابعة منذ عام 2018. وصوله إلى السلطة، يرمز خصوصا إلى نهاية قبضة الغرب على مصير روسيا. لم تصبح الصين بعد جزءً من الاستراتيجية، ولكن من المدهش أن بنكًا استثماريًا أمريكيًا هو الذي اعطى ضربة البداية.

    في الواقع، عام 2001 قام الاقتصادي جيم أونيل، الاقتصادي في جولدمان ساكس، بتسمية مجموعة البريكس (البرازيل، وروسيا، والصين، والهند، وجنوب إفريقيا) وأوصى بالمراهنة على الدول الصاعدة الرئيسية الجديدة.
   فشل في تطوير سلطته داخل الأمم المتحدة، رسم العالم الجديد مساره الخاص، كما أنه أبلى بلاءً حسنًا في “الحرب ضد الإرهاب”، وهي الفكرة المهيمنة على إدارات بوش، من خلال إنشاء منظمة شنغهاي للتعاون من أجل الأمن في آسيا الوسطى عام 2001. وانضمت الهند وإيران إلى الأعضاء المؤسسين (روسيا والصين وكازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان) في 2016 و2021 على التوالي.

الصراع السوري
   تحيل المسألة الأوكرانية إلى أسس روسيا، أي مسألة الوصول إلى البحار الدافئة. نشأت روس القديمة، النواة الصلبة للإمبراطورية التي انتشرت من الغرب إلى الشرق، عندما نزلت الشعوب الاسكندنافية إلى البحر الأسود بحثًا عن منافذ تجارية لجلودهم وسلع أخرى.
   منذ 1200 عام، كان هذا التحدي جزءً من الحمض النووي الروسي. لذلك لا غرابة في أن أوكرانيا والقوقاز وتركيا وإيران وأفغانستان، تعود مثل الألحان في السياسة الخارجية، القيصرية وكذلك السوفياتية، وتصطدم بالطموحات الغربية، بما في ذلك طموحات الولايات المتحدة منذ دخولها الحرب العالمية الأولى. وعلى هذا النحو، قدم انتصار البلاشفة في نوفمبر 1917 ذريعة مثالية للحزام الصحي. وبالمثل، يمكن القول إن الحرب الباردة بدأت في إيران عام 1943.
   روسية منذ نهاية القرن الثامن عشر، توفر شبه جزيرة القرم منفذًا إلى البحر الأبيض المتوسط ، وهو أمر غير قابل للتفاوض بالنسبة لموسكو. وبالتالي، فإن احتمال تطويق الناتو يعدّ سببًا للحرب، وعلى هذا النحو، فإن العرض الأمريكي المطروح حاليًا على الطاولة لا يضع علامة على المربعات.
  بالنسبة لروسيا، كان الصراع السوري، فرصة لا ينبغي تفويتها. وللأسف، دفعت فرنسا ثمن هذه العودة، عبر الإلغاء القسري بضغط من واشنطن لعقد ميسترال. لا بأس: بحاملة طائرات واحدة ورغم الحوادث، عادت روسيا للمساومة الإقليمية.

عابرة لسيبيريا جديدة
   في غضون ذلك، يطور شقيقان عدوان تعاونًا شاملاً دون التوقيع على تحالف عسكري رسمي. أسسا بنكًا للتنمية، وتعاونا في ترميم طريق الحرير البحري والبري. ومن 1.2 تريليون دولار عام 2000، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى ما يقرب من 18 تريليون دولار عام 2021. وتحتل روسيا، مدعومة بصادرات السلع الأساسية، أدنى مرتبة من بين العشرة الأوائل من الناتج المحلي الإجمالي في العالم.     العقوبات، تخدم المصالح الروسية بشكل مؤلم من خلال إجبارها على التنويع التكنولوجي الذي أخرته موسكو لفترة طويلة. دخل خط أنابيب الغاز العابر لسيبيريا “سيبيريا فورس”، الذي بدأ العمل فيه عام 2014، حيز الخدمة نهاية عام 2019. وفي نفس الوقت، دخلت روسيا الأسواق العسكرية لجنوب شرق آسيا، وتحاول جذب مستثمرين إلى المنطقة الاقتصادية في فلاديفوستوك. هذا الاندفاع نحو المحيط الهادئ لدولة يوجد سكانها بالكامل في الغرب، هو النظير لتطويق الحلف الأطلسي لروسيا.
   مجهزة عسكريا من قبل روسيا في السابق، الهند، المهددة من قبل الصين دون ان يتم تأمينها من قبل الولايات المتحدة، تلعب موقف الترقب السلمي الذي عفا عليه الزمن بشكل متزايد. حوالي عام 2017، اكتشفت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، أن الكتلة الأوراسية هي مركز العالم؛ في الواقع، لم يكن هناك ابدا مركز آخر.

أحادية القطبية
   كان من المقرر أن تواجه الكتلة الإقليمية الأكبر في العالم الكتلة الثالثة (الثانية، كندا، ليس لها أهداف إمبريالية)، خاصة أن ثروتهما الهيدروكربونية كانت تؤجج نيران التنافس بينهما منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

    وفي حقب مختلفة، استخدمت الولايات المتحدة ذرائع متنوّعة لتطويق روسيا. الشيوعية، الوحدوية، تحالف مجنون طيلة عامين مع النازية، واليوم رفضها أن تصبح نسخة من “الديمقراطية الليبرالية” التي أقيمت كدين آخر الازمنة: كل شيء مرّ. ليس مهمّا أن الثورة الفرنسية اخترعت أساليب الإرهاب السياسي الإبادة الجماعية: نفاق اللحظة الحالية، التي ترضع من فقدان الذاكرة الناتج عن الشبكات الاجتماعية، لن يضيره إنكار اخر. لقد أصبحت أيديولوجية “تغيير النظام” لجورج دبليو بوش هي أيديولوجية الديمقراطيين. ومع ذلك، فإن الدعاية هي دائما دعاية المعسكر المقابل. وهكذا، استغل الرئيس الفرنسي زيارة فلاديمير بوتين إلى فرساي في مايو 2017 للتنديد بوسائل الإعلام “الموالية لروسيا”، سبوتنيك وروسيا اليوم، وهو إلى جانب نظيره.

   لا تتمثل مهمة الدبلوماسي في اختزال العالم إلى نمطية تبسيطية، ولكن إدارة التعقيد ومنع الحرب. كما أن الإذلال ليس الأداة المفضلة للنضج السياسي. ساد زمن كان فيه هذا التفاهم متبادلاً بين الشرق والغرب. لقد فقدت روسيا 25 مليون من مواطنيها في الحرب العالمية الثانية، وكانت الصين في حالة حرب من عام 1912 إلى عام 1949. الاولى، إمبراطورية عمرها ألف عام، وألفيات متعددة بالنسبة للثانية، ولا هذه ولا تلك ستقبل ان تُخرجها من التاريخ دولة عمرها 250 عامًا، وكلاهما يعرف ثمن التضحية. ان اللعبة خطرة... ولتفاديها، سيتعين علينا الخروج من المعركة الوجودية التي تمثلها الأحادية القطبية.

* نشر فرانسيس فوكوياما كتاب “نهاية التاريخ والانسان الأخير” عام 1992.
** يتجمّع المحافظون الجدد بشكل خاص حول جامعة ستانفورد بكاليفورنيا ، حيث تدرس كوندوليزا رايس ، وهي أيضًا مختصة في العالم السوفياتي، ومستشارة للأمن القومي لإدارة بوش الأولى ووزيرة خارجية للإدارة الثانية. وتشمل مؤسسات أخرى معهد هوفر في ستانفورد. في الاقتصاد، “المحافظون الجدد” قريبون من الليبرتاريين، الذين يقودهم الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر والروائية آين راند، والذين يعملون في مؤسسات مثل معهد ميلكن في سانتا مونيكا. أعداؤهم من اليسار، البنيويون والبنائيون وغيرهم من الماويين الجدد ما بعد عام 1968، يلتقون حول جامعة بيركلي، حتى لو كان أحد أساتذتهم هو نعوم تشومسكي. يشترك هذان المجالان في عدم الثقة في دور الدولة ومفهوم السيادة.
- تخرجت من كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا، في مسيرتها 25 عامًا من العمل في الشؤون المالية والدبلوماسية المتعددة الأطراف والاستشارات وتعليم العلاقات الدولية. من بين كتبها، “الأمم المتحدة والأعمال: شراكة تعافت”. وعملت مستشارة لوكالات الأمم المتحدة وشركات بشأن توسعها المستدام في البلدان الصاعدة والنامية