أراد تقسيم الدول الأعضاء في الناتو... فحدث العكس تماما:
رياح الأزمة الأوكرانية تجري بما لا تشتهيه سفن بوتين...!
-- إذا قرر غزو أوكرانيا، فستكون هذه أكبر معركة في أوروبا والعملية العسكرية الأكثر تعقيدًا التي تقوم بها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية
-- ربما توقع بوتين انهيار المقاومة حتى قبل ظهورها
-- الحل الدبلوماسي للأزمة ممكن دائما
-- في الوقت الحالي، لا يبدو أن الوضع يعمل لصالح بوتين، ولكن إذا ساء، فقد يتحول إلى كارثة على الجميع
-- خطته لتقسيم أعضاء الناتو وتقليص الوجود الأمريكي بالقرب من حدود روسيا باءت بالفشل
-- التعبيرات الكبيرة عن الصداقة تميل إلى الترنّح مع بدء تدفق الدم وجفاف الموارد المالية
في الوقت الراهن، لا يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية تسير على ما يرام بالنسبة لفلاديمير بوتين.
نشر الرئيس الروسي قرابة 100 ألف جندي على الحدود الأوكرانية “وهو ما يكفي لشن غزو حقيقي، إذا كان هذا ما ينوي فعله”، لكن موقفه التهديدي تجاه أوكرانيا ليس سوى وسيلة لتحقيق أهدافه الرئيسية، أي أ. إنشاء “مجال نفوذ” من شأنه إعادة إقامة الإمبراطورية الروسية “أو السوفياتية” القديمة قدر الإمكان،
ب. تعميق التصدعات السياسية والاقتصادية في الاتحاد الأوروبي.
ج. خلق إسفين بين الولايات المتحدة وحلفاء الناتو.
ومع ذلك، فإن الأمر عكس ما فعله بمناورته العسكرية. لقد وحد التهديد العلني لأوكرانيا الدول الأوروبية حول قضية مشتركة، وأعاد إحياء مهمة الناتو الأصلية لردع التوسع الروسي والحد منه، وبالتالي شدد، أكثر من أي وقت مضى، العلاقات بين الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة “الضامن الرئيسي لأمنهم” بشكل أقوى منذ نهاية الحرب الباردة.
كان لبوتين أسباب دفعته للاعتقاد بأنّ الأمور ستسير بشكل مختلف: مشاهدة جو بايدن يمتدح الرباعية -التحالف الجديد للولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، الذي يهدف إلى توحيد الحلفاء في آسيا والمحيط الهادي ضد صعود الصين –ربما قال لنفسه أن الناتو قد فقد أهميته. ورأى أيضًا الطريقة التي انسحبت بها الولايات المتحدة من أفغانستان، ولئن استطاع فهم هذا القرار “كان محبوبه الاتحاد السوفياتي من بين الإمبراطوريات التي دُفنت هناك”، فإنه لم تفته ملاحظة عدم كفاءة هذا الانسحاب المتسرع، والقلق، إن لم نقل الذعر، الذي قد يكون سبّبه بين حلفاء الولايات المتحدة.
في الأثناء، وجدت المملكة المتحدة نفسها معزولة بعد البريكسيت، وتقاعدت أنجيلا ميركل من منصب المستشارة، تاركة أكبر وأغنى دولة في الناتو في لحظة تردد، بينما سعى إيمانويل ماكرون من جانبه إلى الاستفادة من المكاسب المفاجئة ليحل محلها كزعيم لأوروبا القارية مع الرغبة في “الاستقلالية الاستراتيجية” لأوروبا في علاقتها بواشنطن.
إمّا الآن أو أبداً
من المستحيل معرفة ما إذا كانت هذه الأفكار هي التي تدور في ذهن بوتين حقًا، ولكن، موضوعيا، لا بد أن هذه اللحظة بدت له مناسبة للتحرك -خاصة أن هذا المزعج فولوديمير زيلينسكي (الرئيس الأوكراني) كان في طريقه إلى التقارب مع الغرب مع تجديد طلبه الانضمام إلى الناتو. طلب بدا أن المسؤولين الأمريكيين يرونه بعيون خيّرة، لأنهم أكدوا أن الامر سينتهي دون شك إلى دعوته في يوم ما للانضمام إلى النادي. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة زودت الجيش الأوكراني بالسلاح والمدربين، ناهيك عن أفراد من القوات الخاصة ووكالة المخابرات المركزية، أرسلوا بلا شك إلى هناك، يرى الرئيس الروسي، لارتكاب ضرر ما.
من وجهة نظر بوتين، فإن هذا الاقتران بين التهديد والفرصة لا يمكن ان يبدو الا مشجعًا. عام 2014، سبق ان ضم شبه جزيرة القرم وشن غارات مسلحة على شرق أوكرانيا، والتي كان لها بالتأكيد بعض العواقب (العقوبات الاقتصادية، والطرد من مجموعة الثماني ومضايقات أخرى)، ولكن لم يكن هناك شيء فظيع للغاية... فلماذا سيكون الأمر مختلفًا هذه المرة؟
لهذا السبب منذ نوفمبر (أو حتى قبل ذلك)، تحركت عشرات كتائب الدبابات والصواريخ وعربات المشاة وعشرات الآلاف من الجنود باتجاه الحدود الأوكرانية. ومع ذلك، لا نعرف ما إذا كان قد خطط فعلا لغزو، أم أنه يريد فقط استخدام التهديد لإجبار خصومه على تقديم تنازلات بشأن مطالبه -أي إيقاف توسّع الناتو شرقًا، وتقليص القوات الامريكية لوجودها في المناطق التي كان يسيطر عليها الاتحاد السوفياتي سابقًا.
ربما يكون بوتين قد فكر في أنه حتى لو رد بايدن، فسيظل الأوروبيون على انقسامهم. لا شك أن بعضهم، ولا سيما الألمان، يخشون الخلاف مع موسكو، خوفًا من انقطاع إمدادات الغاز والنفط في قلب الشتاء، عندما تنخفض درجات الحرارة. ومن سيفرض مثل هذه المعاناة على نفسه من أجل عيون أوكرانيا فقط، البلد الذي لا يريد أحد في أوروبا تقريبًا أن يراه ينضم إلى الناتو؟ خاصة أن الجميع يدرك جيدًا أنها دولة ذات أهمية خاصة لروسيا.
بعبارة أخرى، ربما كان بوتين يتوقع انهيار المقاومة قبل أن تظهر، وهو ما كان سيجبر زيلينسكي على الخضوع لضغوط موسكو دون أن يضطر الروس إلى إطلاق رصاصة واحدة.
عقبة اسمها بايدن
لكن الأمور لم تسر على هذا النحو. كانت مناورات بوتين فجّة للغاية، وكان إنكاره لأي نشاط غير عادي صارخًا للغاية. ثمّ، وفي تطور آخر، أصبح بايدن ودبلوماسيوه، الذين أظهروا تعثّرا ورداءة في مناطق أخرى، فجأة في غاية الكفاءة. ان بايدن يرتاح جدًا في التعاطي مع شؤون عبر الأطلسي: كان الناتو محور السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال العقود التي خدم فيها في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، وكذلك عندما شغل منصب نائب الرئيس.
وكان وزير الخارجية أنتوني بلينكين إلى جانبه أيضًا طوال العديد من تلك السنوات. أخيرًا، كان أداء مساعد وزيرة الخارجية ويندي شيرمان متميّزا في أصعب طاولات المفاوضات. لقد نجحت جهودهم في الحفاظ على دول الناتو الثلاثين متحدة في مواجهة مناورات موسكو، والتهديد باتخاذ إجراءات حازمة في حال حدوث أي غزو جديد للأراضي الأوكرانية.
ومهما سيفعل بوتين في النهاية، فإن خطته لتقسيم أعضاء الناتو، وتقليص الوجود الأمريكي بالقرب من حدود روسيا قد باءت بالفشل. وإجمالاً، وضعت واشنطن أكثر من 8.500 جندي إضافي في حالة تأهب للانتشار في بولندا وإستونيا لتعزيز الأجنحة الشرقية لحلف الناتو. وأعلنت بولندا وبريطانيا عن “اتفاقية أمنية ثلاثية” مع أوكرانيا، ورغم عدم التأكد تمامًا مما يعنيه ذلك، فقد زاد البلدان في الوقت نفسه شحنات الأسلحة الأخيرة إلى كييف. السويد وفنلندا، جارتا روسيا في أقصى الغرب، اللتان ظلتا محايدتين عسكريًا لعقود، تدرسان الآن إمكانية الانضمام إلى الناتو.
إذن، ماذا سيفعل بوتين الآن؟ الدبابات والجنود المتمركزون على الحدود، قادرون نظريّا على هزم الجيش الأوكراني، الذي، رغم تحسنه اللافت في السنوات الأخيرة، ستتجاوزه الامور إلى حد كبير. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الجيش الروسي لم يكن جيدًا أبدًا في الحفاظ على خطوط الإمداد. وهذا سيشكل له مشكلة إذا كان عليه احتلال جزء من الأراضي الأوكرانية، وخاصة المدن.
من جهة اخرى، لن يواجه الروس الجيش النظامي فحسب، بل سيواجهون أيضًا مقاتلي المقاومة المدنية، الذين ستقدم لهم الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي -كما حذر المسؤولون -مساعدة في شكل أسلحة ودعم لوجستي واستخبارات.
الحذر وفق بوتين
خلال الـ 22 عامًا التي قضاها على رأس روسيا، سواء كرئيس أو رئيس وزراء، كان فلاديمير بوتين دائمًا حذرًا للغاية في أعماله العسكرية. تم ضم القرم دون إراقة دماء أو إطلاق رصاصة (معظم السكان اعتبروا أنفسهم روسا). وبالمثل، كان غزوه في شرق أوكرانيا يهدف في المقام الأول إلى مساعدة الانفصاليين الروس.
ويواصل مسؤولو الكرملين إنكار أن جنود الجيش الروسي استطاعوا عبور الحدود، رغم أن التقديرات تشير إلى أن حوالي 500 منهم (وأكثر من 14000 أوكراني) لقوا حتفهم في الحرب التي استمرت ثماني سنوات. في حين استغرق غزوه لجورجيا أقل من أسبوع. والمرة الوحيدة التي أرسل فيها قوات برية إلى سوريا، تم صدهم خلال مواجهة مسلحة مع الأمريكيين، ونتيجة لذلك لم يعد يساعد نظام الأسد إلا بسلاحه الجوي أو تقريبًا.
إذا قرر غزو أوكرانيا، فستكون هذه أكبر معركة في أوروبا -وأيضًا العملية العسكرية الأكثر تعقيدًا التي تقوم بها روسيا -منذ الحرب العالمية الثانية. أيضًا، سيكون الجنود الروس الذين سيعودون إلى منازلهم في أكياس جثث قد ماتوا، هذه المرة ليس دفاعًا عن وطنهم الأم (كما فعلوا ضد النازيين)، ولكن في محاولة لغزو دولة مجاورة.
أخيرًا، إذا انتهى الأمر بفرض الولايات المتحدة عقوبات شديدة على روسيا كما يصوّرها بايدن -من بينها حظر البنوك الكبرى والأوليغارش من إجراء المعاملات بالدولار، فضلاً عن تعليق واردات المكونات من الولايات المتحدة (مما قد يؤدي إلى تدمير قطاع التكنولوجيا العالية الروسية) -قد يبدأ سكان البلاد ونخبها في التذمّر من خطط بوتين المضطربة. هذا ما فعله مفوضو الكرملين عندما ألقوا باللوم على خروتشوف في أزمة الصواريخ الكوبية، التي انتهت بهزيمة روسيا، ودفعت الولايات المتحدة إلى زيادة ترسانتها النووية بشكل كبير.
الناتو على قلق
ومع ذلك، إذا عبرت الدبابات الروسية الحدود، فقد يتم تقويض وحدة الناتو المزعومة. وإذا ردّ بوتين على العقوبات بقطع إمدادات الغاز والنفط عن أوروبا، فإن ألمانيا، التي تعتمد بشكل خاص على الطاقة الروسية، يمكن أن تستسلم: لقد سبق ان منعت إستونيا من بيع أسلحة ألمانية إلى أوكرانيا، وحظرت الطائرات البريطانية من نقل أسلحة إلى أوكرانيا عبر المجال الجوي الألماني. وقد استثمر العديد من الأوليغارش الروس أموالاً طائلة في العقارات في لندن؛ وإذا لم يعد بإمكانهم دفع قروضهم العقارية أو ضرائب الممتلكات، فإن الشركات البريطانية وبوريس جونسون -أو من سيخلفه -سيفقدون صبرهم أيضًا.
يعرف بايدن جيدًا أن التعبيرات الكبيرة عن الصداقة تميل إلى الترنّح مع بدء تدفق الدم وجفاف الموارد المالية. وهذا بلا شك سبب تفضيله، إلى جانب الدول الغربية الأخرى، أن يتم حل الوضع دبلوماسياً في أسرع وقت ممكن. لا أحد يعرف ماذا سيكون اختيار بوتين. فإذا كان يبحث عن مخرج في منتصف هذا الطريق السريع المؤدي إلى كارثة، فستكون المسألة هي معرفة كيف يتم ايصاله الى اتخاذ مثل هذا القرار مع السماح له بالحفاظ على ماء الوجه. قد يؤدي دفعه إلى الحائط إلى تشجيعه على مضاعفة عدوانيته.
خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم الثلاثاء، 1 فبراير مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ألمح فلاديمير بوتين -الذي لم يقل أي كلمة علنية حتى ذلك الحين عن أوكرانيا منذ ديسمبر -إلى مخرج ممكن. لأكون صريحًا، اتخذ خاصة موقفًا متشائمًا، حيث اشتكى من أن واشنطن تجاهلت مطلبه الرئيسي، وهو حظر أوكرانيا بشكل دائم من الانضمام إلى الناتو. وساعده أوربان من خلال الوقوف إلى جانبه علنا، وهكذا أصبح -وهو أمر متوقع -أول عضو في الناتو يقفز من قطار الحلف وهو يسير.
أمل جديد
ومع ذلك، أدلى الرئيس الروسي أيضًا بتعليقين يمكن -أشدد يمكن –ان يلقيا بعض الضوء على هذا المشهد القاتم. أولاً، قال إنه لم يرد بعد على الرسالة التي كتبها جو بايدن ردًا على طلباته... بعبارة أخرى، الحل الدبلوماسي ممكن دائمًا. ثم أشار (دون ذكرها) إلى العديد من اتفاقيات الشرق والغرب الموقعة على مر السنين -اتفاقيات هلسنكي لعام 1975، وميثاق باريس لأوروبا الجديدة لعام 1990، وإعلان اسطنبول لعام 1999 -والتي أشارت إليها السلطات الأمريكية أيضًا. وأشار الأمريكيون إلى أن هذه الاتفاقيات تسمح لجميع الدول باختيار تحالفاتها الدفاعية، مما يعني أنه ليس من حقّ روسيا إملاء ما إذا كانت أوكرانيا ستنضم إلى الناتو أم لا.
في غضون ذلك، أشار بوتين إلى أن هذه الاتفاقيات نفسها تنص أيضًا على أنه لا يمكن لأي دولة زيادة أمنها بتهديد أمن الآخرين. ويرى الرئيس الروسي أن توسيع حلف الناتو، الذي سيشمل أوكرانيا، سيشكل تهديدًا لأمن بلاده.
يمكن تخيّل أن بايدن يعترف بحجة بوتين ويدعو إلى فتح مفاوضات بشأن تشكيل الأمن الأوروبي في القرن الحادي والعشرين بطريقة تحمي مصالح جميع الأطراف، بما في ذلك مصالح روسيا. كخطوة أولى، يمكن أن يعرض بايدن على روسيا سحب بعض جنودها ودباباتها على الأقل من الحدود الأوكرانية. في المقابل، يمكن للولايات المتحدة تعليق أنشطتها العسكرية في أوكرانيا، وفي الوقت الحالي، في بقية أوروبا الشرقية.
يمكن أيضًا مقاطعة التدريبات البحرية في البحر الأسود على الأقل طوال مدة المفاوضات، ويمكن للمفتشين الدوليين مراقبة جميع تحركات الأسلحة وتعليقها، ويمكن للروس أن يتفقدوا مواقع الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية للتحقق من عدم إمكانية استخدامها لدعم الصواريخ الهجومية، كما يعتقد الروس.
لا حرب على المدى القصير
الأساسي -على الأقل أقصى ما يمكن فعله راهنا-هو نزع فتيل التوتر، وجعل جميع الأنشطة العسكرية أكثر شفافية، وتقليل مخاطر الحسابات الخاطئة التي قد تؤدي إلى الحرب. في مرحلة ما، سيتعين على بايدن إيجاد طريقة لطمأنة بوتين -بمجرد أن آلاف فوهات الدبابات لم تعد تستهدف الأوكرانيين -بأن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو في وقت قريب. وبما أن هذا الاحتمال لن يحدث في المستقبل القريب، فلا يجب أن يكون سببًا للحرب.
بالتوازي ، توجه بوتين إلى بكين لحضور دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. ولعله لا يرغب في تحويل الانتباه عن المشهد الكبير الذي قدمه الرئيس الصيني شي جين بينغ -الذي أصبح مؤخرًا، من الناحية الجيوسياسية، أفضل صديق جديد له -من خلال غزو أوكرانيا. وهكذا من غير المرجح أن تندلع حرب في الأسبوعين المقبلين.
يجب أن ينتهز بايدن وحلف الناتو الفرصة لمواصلة إظهار اتحادهما وتخفيف الضغط -حث بوتين بهدوء على تغيير نواياه قليلاً من خلال السماح له بإيجاد حل دبلوماسي. في الوقت الحالي، لا يبدو أن الوضع يعمل لصالح بوتين، ولكن إذا ساء، فقد يتحول إلى كارثة على الجميع.
-- ربما توقع بوتين انهيار المقاومة حتى قبل ظهورها
-- الحل الدبلوماسي للأزمة ممكن دائما
-- في الوقت الحالي، لا يبدو أن الوضع يعمل لصالح بوتين، ولكن إذا ساء، فقد يتحول إلى كارثة على الجميع
-- خطته لتقسيم أعضاء الناتو وتقليص الوجود الأمريكي بالقرب من حدود روسيا باءت بالفشل
-- التعبيرات الكبيرة عن الصداقة تميل إلى الترنّح مع بدء تدفق الدم وجفاف الموارد المالية
في الوقت الراهن، لا يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية تسير على ما يرام بالنسبة لفلاديمير بوتين.
نشر الرئيس الروسي قرابة 100 ألف جندي على الحدود الأوكرانية “وهو ما يكفي لشن غزو حقيقي، إذا كان هذا ما ينوي فعله”، لكن موقفه التهديدي تجاه أوكرانيا ليس سوى وسيلة لتحقيق أهدافه الرئيسية، أي أ. إنشاء “مجال نفوذ” من شأنه إعادة إقامة الإمبراطورية الروسية “أو السوفياتية” القديمة قدر الإمكان،
ب. تعميق التصدعات السياسية والاقتصادية في الاتحاد الأوروبي.
ج. خلق إسفين بين الولايات المتحدة وحلفاء الناتو.
ومع ذلك، فإن الأمر عكس ما فعله بمناورته العسكرية. لقد وحد التهديد العلني لأوكرانيا الدول الأوروبية حول قضية مشتركة، وأعاد إحياء مهمة الناتو الأصلية لردع التوسع الروسي والحد منه، وبالتالي شدد، أكثر من أي وقت مضى، العلاقات بين الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة “الضامن الرئيسي لأمنهم” بشكل أقوى منذ نهاية الحرب الباردة.
كان لبوتين أسباب دفعته للاعتقاد بأنّ الأمور ستسير بشكل مختلف: مشاهدة جو بايدن يمتدح الرباعية -التحالف الجديد للولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، الذي يهدف إلى توحيد الحلفاء في آسيا والمحيط الهادي ضد صعود الصين –ربما قال لنفسه أن الناتو قد فقد أهميته. ورأى أيضًا الطريقة التي انسحبت بها الولايات المتحدة من أفغانستان، ولئن استطاع فهم هذا القرار “كان محبوبه الاتحاد السوفياتي من بين الإمبراطوريات التي دُفنت هناك”، فإنه لم تفته ملاحظة عدم كفاءة هذا الانسحاب المتسرع، والقلق، إن لم نقل الذعر، الذي قد يكون سبّبه بين حلفاء الولايات المتحدة.
في الأثناء، وجدت المملكة المتحدة نفسها معزولة بعد البريكسيت، وتقاعدت أنجيلا ميركل من منصب المستشارة، تاركة أكبر وأغنى دولة في الناتو في لحظة تردد، بينما سعى إيمانويل ماكرون من جانبه إلى الاستفادة من المكاسب المفاجئة ليحل محلها كزعيم لأوروبا القارية مع الرغبة في “الاستقلالية الاستراتيجية” لأوروبا في علاقتها بواشنطن.
إمّا الآن أو أبداً
من المستحيل معرفة ما إذا كانت هذه الأفكار هي التي تدور في ذهن بوتين حقًا، ولكن، موضوعيا، لا بد أن هذه اللحظة بدت له مناسبة للتحرك -خاصة أن هذا المزعج فولوديمير زيلينسكي (الرئيس الأوكراني) كان في طريقه إلى التقارب مع الغرب مع تجديد طلبه الانضمام إلى الناتو. طلب بدا أن المسؤولين الأمريكيين يرونه بعيون خيّرة، لأنهم أكدوا أن الامر سينتهي دون شك إلى دعوته في يوم ما للانضمام إلى النادي. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة زودت الجيش الأوكراني بالسلاح والمدربين، ناهيك عن أفراد من القوات الخاصة ووكالة المخابرات المركزية، أرسلوا بلا شك إلى هناك، يرى الرئيس الروسي، لارتكاب ضرر ما.
من وجهة نظر بوتين، فإن هذا الاقتران بين التهديد والفرصة لا يمكن ان يبدو الا مشجعًا. عام 2014، سبق ان ضم شبه جزيرة القرم وشن غارات مسلحة على شرق أوكرانيا، والتي كان لها بالتأكيد بعض العواقب (العقوبات الاقتصادية، والطرد من مجموعة الثماني ومضايقات أخرى)، ولكن لم يكن هناك شيء فظيع للغاية... فلماذا سيكون الأمر مختلفًا هذه المرة؟
لهذا السبب منذ نوفمبر (أو حتى قبل ذلك)، تحركت عشرات كتائب الدبابات والصواريخ وعربات المشاة وعشرات الآلاف من الجنود باتجاه الحدود الأوكرانية. ومع ذلك، لا نعرف ما إذا كان قد خطط فعلا لغزو، أم أنه يريد فقط استخدام التهديد لإجبار خصومه على تقديم تنازلات بشأن مطالبه -أي إيقاف توسّع الناتو شرقًا، وتقليص القوات الامريكية لوجودها في المناطق التي كان يسيطر عليها الاتحاد السوفياتي سابقًا.
ربما يكون بوتين قد فكر في أنه حتى لو رد بايدن، فسيظل الأوروبيون على انقسامهم. لا شك أن بعضهم، ولا سيما الألمان، يخشون الخلاف مع موسكو، خوفًا من انقطاع إمدادات الغاز والنفط في قلب الشتاء، عندما تنخفض درجات الحرارة. ومن سيفرض مثل هذه المعاناة على نفسه من أجل عيون أوكرانيا فقط، البلد الذي لا يريد أحد في أوروبا تقريبًا أن يراه ينضم إلى الناتو؟ خاصة أن الجميع يدرك جيدًا أنها دولة ذات أهمية خاصة لروسيا.
بعبارة أخرى، ربما كان بوتين يتوقع انهيار المقاومة قبل أن تظهر، وهو ما كان سيجبر زيلينسكي على الخضوع لضغوط موسكو دون أن يضطر الروس إلى إطلاق رصاصة واحدة.
عقبة اسمها بايدن
لكن الأمور لم تسر على هذا النحو. كانت مناورات بوتين فجّة للغاية، وكان إنكاره لأي نشاط غير عادي صارخًا للغاية. ثمّ، وفي تطور آخر، أصبح بايدن ودبلوماسيوه، الذين أظهروا تعثّرا ورداءة في مناطق أخرى، فجأة في غاية الكفاءة. ان بايدن يرتاح جدًا في التعاطي مع شؤون عبر الأطلسي: كان الناتو محور السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال العقود التي خدم فيها في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، وكذلك عندما شغل منصب نائب الرئيس.
وكان وزير الخارجية أنتوني بلينكين إلى جانبه أيضًا طوال العديد من تلك السنوات. أخيرًا، كان أداء مساعد وزيرة الخارجية ويندي شيرمان متميّزا في أصعب طاولات المفاوضات. لقد نجحت جهودهم في الحفاظ على دول الناتو الثلاثين متحدة في مواجهة مناورات موسكو، والتهديد باتخاذ إجراءات حازمة في حال حدوث أي غزو جديد للأراضي الأوكرانية.
ومهما سيفعل بوتين في النهاية، فإن خطته لتقسيم أعضاء الناتو، وتقليص الوجود الأمريكي بالقرب من حدود روسيا قد باءت بالفشل. وإجمالاً، وضعت واشنطن أكثر من 8.500 جندي إضافي في حالة تأهب للانتشار في بولندا وإستونيا لتعزيز الأجنحة الشرقية لحلف الناتو. وأعلنت بولندا وبريطانيا عن “اتفاقية أمنية ثلاثية” مع أوكرانيا، ورغم عدم التأكد تمامًا مما يعنيه ذلك، فقد زاد البلدان في الوقت نفسه شحنات الأسلحة الأخيرة إلى كييف. السويد وفنلندا، جارتا روسيا في أقصى الغرب، اللتان ظلتا محايدتين عسكريًا لعقود، تدرسان الآن إمكانية الانضمام إلى الناتو.
إذن، ماذا سيفعل بوتين الآن؟ الدبابات والجنود المتمركزون على الحدود، قادرون نظريّا على هزم الجيش الأوكراني، الذي، رغم تحسنه اللافت في السنوات الأخيرة، ستتجاوزه الامور إلى حد كبير. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الجيش الروسي لم يكن جيدًا أبدًا في الحفاظ على خطوط الإمداد. وهذا سيشكل له مشكلة إذا كان عليه احتلال جزء من الأراضي الأوكرانية، وخاصة المدن.
من جهة اخرى، لن يواجه الروس الجيش النظامي فحسب، بل سيواجهون أيضًا مقاتلي المقاومة المدنية، الذين ستقدم لهم الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي -كما حذر المسؤولون -مساعدة في شكل أسلحة ودعم لوجستي واستخبارات.
الحذر وفق بوتين
خلال الـ 22 عامًا التي قضاها على رأس روسيا، سواء كرئيس أو رئيس وزراء، كان فلاديمير بوتين دائمًا حذرًا للغاية في أعماله العسكرية. تم ضم القرم دون إراقة دماء أو إطلاق رصاصة (معظم السكان اعتبروا أنفسهم روسا). وبالمثل، كان غزوه في شرق أوكرانيا يهدف في المقام الأول إلى مساعدة الانفصاليين الروس.
ويواصل مسؤولو الكرملين إنكار أن جنود الجيش الروسي استطاعوا عبور الحدود، رغم أن التقديرات تشير إلى أن حوالي 500 منهم (وأكثر من 14000 أوكراني) لقوا حتفهم في الحرب التي استمرت ثماني سنوات. في حين استغرق غزوه لجورجيا أقل من أسبوع. والمرة الوحيدة التي أرسل فيها قوات برية إلى سوريا، تم صدهم خلال مواجهة مسلحة مع الأمريكيين، ونتيجة لذلك لم يعد يساعد نظام الأسد إلا بسلاحه الجوي أو تقريبًا.
إذا قرر غزو أوكرانيا، فستكون هذه أكبر معركة في أوروبا -وأيضًا العملية العسكرية الأكثر تعقيدًا التي تقوم بها روسيا -منذ الحرب العالمية الثانية. أيضًا، سيكون الجنود الروس الذين سيعودون إلى منازلهم في أكياس جثث قد ماتوا، هذه المرة ليس دفاعًا عن وطنهم الأم (كما فعلوا ضد النازيين)، ولكن في محاولة لغزو دولة مجاورة.
أخيرًا، إذا انتهى الأمر بفرض الولايات المتحدة عقوبات شديدة على روسيا كما يصوّرها بايدن -من بينها حظر البنوك الكبرى والأوليغارش من إجراء المعاملات بالدولار، فضلاً عن تعليق واردات المكونات من الولايات المتحدة (مما قد يؤدي إلى تدمير قطاع التكنولوجيا العالية الروسية) -قد يبدأ سكان البلاد ونخبها في التذمّر من خطط بوتين المضطربة. هذا ما فعله مفوضو الكرملين عندما ألقوا باللوم على خروتشوف في أزمة الصواريخ الكوبية، التي انتهت بهزيمة روسيا، ودفعت الولايات المتحدة إلى زيادة ترسانتها النووية بشكل كبير.
الناتو على قلق
ومع ذلك، إذا عبرت الدبابات الروسية الحدود، فقد يتم تقويض وحدة الناتو المزعومة. وإذا ردّ بوتين على العقوبات بقطع إمدادات الغاز والنفط عن أوروبا، فإن ألمانيا، التي تعتمد بشكل خاص على الطاقة الروسية، يمكن أن تستسلم: لقد سبق ان منعت إستونيا من بيع أسلحة ألمانية إلى أوكرانيا، وحظرت الطائرات البريطانية من نقل أسلحة إلى أوكرانيا عبر المجال الجوي الألماني. وقد استثمر العديد من الأوليغارش الروس أموالاً طائلة في العقارات في لندن؛ وإذا لم يعد بإمكانهم دفع قروضهم العقارية أو ضرائب الممتلكات، فإن الشركات البريطانية وبوريس جونسون -أو من سيخلفه -سيفقدون صبرهم أيضًا.
يعرف بايدن جيدًا أن التعبيرات الكبيرة عن الصداقة تميل إلى الترنّح مع بدء تدفق الدم وجفاف الموارد المالية. وهذا بلا شك سبب تفضيله، إلى جانب الدول الغربية الأخرى، أن يتم حل الوضع دبلوماسياً في أسرع وقت ممكن. لا أحد يعرف ماذا سيكون اختيار بوتين. فإذا كان يبحث عن مخرج في منتصف هذا الطريق السريع المؤدي إلى كارثة، فستكون المسألة هي معرفة كيف يتم ايصاله الى اتخاذ مثل هذا القرار مع السماح له بالحفاظ على ماء الوجه. قد يؤدي دفعه إلى الحائط إلى تشجيعه على مضاعفة عدوانيته.
خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم الثلاثاء، 1 فبراير مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ألمح فلاديمير بوتين -الذي لم يقل أي كلمة علنية حتى ذلك الحين عن أوكرانيا منذ ديسمبر -إلى مخرج ممكن. لأكون صريحًا، اتخذ خاصة موقفًا متشائمًا، حيث اشتكى من أن واشنطن تجاهلت مطلبه الرئيسي، وهو حظر أوكرانيا بشكل دائم من الانضمام إلى الناتو. وساعده أوربان من خلال الوقوف إلى جانبه علنا، وهكذا أصبح -وهو أمر متوقع -أول عضو في الناتو يقفز من قطار الحلف وهو يسير.
أمل جديد
ومع ذلك، أدلى الرئيس الروسي أيضًا بتعليقين يمكن -أشدد يمكن –ان يلقيا بعض الضوء على هذا المشهد القاتم. أولاً، قال إنه لم يرد بعد على الرسالة التي كتبها جو بايدن ردًا على طلباته... بعبارة أخرى، الحل الدبلوماسي ممكن دائمًا. ثم أشار (دون ذكرها) إلى العديد من اتفاقيات الشرق والغرب الموقعة على مر السنين -اتفاقيات هلسنكي لعام 1975، وميثاق باريس لأوروبا الجديدة لعام 1990، وإعلان اسطنبول لعام 1999 -والتي أشارت إليها السلطات الأمريكية أيضًا. وأشار الأمريكيون إلى أن هذه الاتفاقيات تسمح لجميع الدول باختيار تحالفاتها الدفاعية، مما يعني أنه ليس من حقّ روسيا إملاء ما إذا كانت أوكرانيا ستنضم إلى الناتو أم لا.
في غضون ذلك، أشار بوتين إلى أن هذه الاتفاقيات نفسها تنص أيضًا على أنه لا يمكن لأي دولة زيادة أمنها بتهديد أمن الآخرين. ويرى الرئيس الروسي أن توسيع حلف الناتو، الذي سيشمل أوكرانيا، سيشكل تهديدًا لأمن بلاده.
يمكن تخيّل أن بايدن يعترف بحجة بوتين ويدعو إلى فتح مفاوضات بشأن تشكيل الأمن الأوروبي في القرن الحادي والعشرين بطريقة تحمي مصالح جميع الأطراف، بما في ذلك مصالح روسيا. كخطوة أولى، يمكن أن يعرض بايدن على روسيا سحب بعض جنودها ودباباتها على الأقل من الحدود الأوكرانية. في المقابل، يمكن للولايات المتحدة تعليق أنشطتها العسكرية في أوكرانيا، وفي الوقت الحالي، في بقية أوروبا الشرقية.
يمكن أيضًا مقاطعة التدريبات البحرية في البحر الأسود على الأقل طوال مدة المفاوضات، ويمكن للمفتشين الدوليين مراقبة جميع تحركات الأسلحة وتعليقها، ويمكن للروس أن يتفقدوا مواقع الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية للتحقق من عدم إمكانية استخدامها لدعم الصواريخ الهجومية، كما يعتقد الروس.
لا حرب على المدى القصير
الأساسي -على الأقل أقصى ما يمكن فعله راهنا-هو نزع فتيل التوتر، وجعل جميع الأنشطة العسكرية أكثر شفافية، وتقليل مخاطر الحسابات الخاطئة التي قد تؤدي إلى الحرب. في مرحلة ما، سيتعين على بايدن إيجاد طريقة لطمأنة بوتين -بمجرد أن آلاف فوهات الدبابات لم تعد تستهدف الأوكرانيين -بأن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو في وقت قريب. وبما أن هذا الاحتمال لن يحدث في المستقبل القريب، فلا يجب أن يكون سببًا للحرب.
بالتوازي ، توجه بوتين إلى بكين لحضور دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. ولعله لا يرغب في تحويل الانتباه عن المشهد الكبير الذي قدمه الرئيس الصيني شي جين بينغ -الذي أصبح مؤخرًا، من الناحية الجيوسياسية، أفضل صديق جديد له -من خلال غزو أوكرانيا. وهكذا من غير المرجح أن تندلع حرب في الأسبوعين المقبلين.
يجب أن ينتهز بايدن وحلف الناتو الفرصة لمواصلة إظهار اتحادهما وتخفيف الضغط -حث بوتين بهدوء على تغيير نواياه قليلاً من خلال السماح له بإيجاد حل دبلوماسي. في الوقت الحالي، لا يبدو أن الوضع يعمل لصالح بوتين، ولكن إذا ساء، فقد يتحول إلى كارثة على الجميع.