الأزمة في أوكرانيا:

غيرهارد شرودر، رمز التناقض الألماني...!

غيرهارد شرودر، رمز التناقض الألماني...!

-- فكرة تجاهل الولايات المتحدة والحلف الأطلسي للمخاوف الأمنية لروسيا منتشرة في اليسار الألماني منذ فترة طويلة
-- خوفًا من قطع الحوار، لم تتخذ برلين أبدًا إجراءات انتقامية حقيقية ضد موسكو
-- توجد في الجناح اليساري للحزب الاشتراكي الديمقراطي معاداة لأمريكا أقوى من الخوف من روسيا


    من خلال اتهام كييف باستفزاز الروس، يعمل المستشار السابق على التشويش على السياسة الخارجية للحكومة الألمانية -المتضاربة للغاية اصلا -. لأن برلين، التي ترفض تسليم أسلحة إلى أوكرانيا، تجد صعوبة في التخلي عن سياستها التقليدية المعروفة بـ “أوست بوليتيك” أو “السياسة تجاه الشرق”، في السبعينات.
   هل سيقبل الاشتراكيون الديمقراطيون لفترة طويلة رؤية غيرهارد شرودر يدمر سياستهم الخارجية؟ عاد المستشار السابق (1998-2005) فجأة إلى واجهة المشهد السياسي بالدفاع عن صديقه الكبير فلاديمير بوتين.

رئيس هيئة الرقابة في شركة النفط الروسية العملاقة روسنفت، لم يجد أي حرج في قلب الأدوار في الأزمة الأوكرانية من خلال مطالبة كييف بتهكم بـ “وقف قرقعة الأحذية”، في مواجهة 100 ألف جندي روسي منتشرين على الحدود.
   في خدمة موسكو منذ ستة عشر عامًا، لا يزال غيرهارد شرودر كبير اللوبييست من أجل الغاز الروسي في ألمانيا. وكان المستشار السابق هو البادئ -يشغل حينها منصبه -في بناء خطوط أنابيب الغاز نورد ستريم 1، ومؤخراً، نورد ستريم 2. وهذه البنية التحتية، التي لم يتم تشغيلها بعد، يمكن أن تخضع للعقوبات الغربية، في حال قررت موسكو مهاجمة أوكرانيا.

«موظف عند بوتين»
   «غيرهارد شرودر، هو موظف عند بوتين. ومثل أي موظف، ليس له أي تأثير على رئيسه”، يلخص ماركوس ليندن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ترير وعضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لكنه في المقابل يحتفظ بهالة في بلاده باعتباره ابو “المعجزة الاقتصادية الألمانية الثانية”. و”رغم ذلك، يجب على الحزب الاشتراكي الديمقراطي أن ينأى بنفسه تمامًا”، يحذر ماركوس ليندن.

   لم تتأخر المعارضة المحافظة في الرد على تصريحاته المؤيدة لبوتين من خلال وصم الصداقة السامة التي تربطه بالرئيس الروسي. وطالب كريستوف بلوس، رئيس الاتحاد المسيحي الديمقراطي في هامبورغ، بحرمانه من مكتب برلين الذي يتمتع به كمستشار سابق، إلى جانب العديد من المساعدين والسائقين والحراس الشخصيين. مؤكدا أن “دافعي الضرائب ليسوا مضطرين لتمويل عمل لوبي للدولة الروسية في ألمانيا”. وماذا قال اليسار الألماني؟ “هناك مستشار واحد فقط هو أنا”، صرح أولاف شولتز، منزعجًا بشكل واضح من ظهور سلفه.

    سيُستقبل في البيت الأبيض يوم الاثنين المقبل، سيتوجه المستشار الجديد، الذي لمع حتى الآن بغيابه في الأزمة الأوكرانية، إلى موسكو. أما لارس كلينجبيل، الرئيس الجديد للحزب الاشتراكي الديمقراطي، فقد فضّل ان يختبئ وراء حرية التعبير، مكررا ببساطة “كثيرون هم من يعبرون عن آرائهم”. الاشتراكي الديمقراطي مايكل روث، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الفيدرالية (البوندستاغ)، رأى أنه من المناسب أن يناقض المستشار السابق -دون أن يسميه -من خلال اعتبار الحاجة إلى حماية أوكرانيا “مفهومة”، وأن ذلك لا علاقة له بقعقعة الأحذية.

حنين إلى “السياسة»
   إن فكرة تجاهل الولايات المتحدة والحلف الأطلسي للمخاوف الأمنية لروسيا، منتشرة على نطاق واسع في اليسار الألماني منذ فترة طويلة.  ولا يزال الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يحتضن في صفوفه العديد من “ المتفهّمين لبوتين”، ويناصرون استمرار “أوست بوليتيك” لمعبود السبعينات ويلي برانت.
   وخوفًا من قطع الحوار، لم تتخذ برلين أبدًا إجراءات انتقامية حقيقية ضد موسكو، سواء بعد محاولة اغتيال المعارض أليكسي نافالني (تمت معالجته في برلين) أو إعدام معارض شيشاني في قلب العاصمة وبرعاية موسكو، حسب العدالة الألمانية (تم طرد دبلوماسيين روسيين فقط). “ستجدون في الجناح اليساري للحزب معاداة لأمريكا أقوى من الخوف من روسيا”، يحلل ستيفان مايستر، أستاذ العلوم السياسية في المعهد الألماني للسياسة الخارجية.

   خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 هو رمز لهذا “الحوار البناء” الذي جعل ألمانيا رهينة موسكو. ومثل أنجيلا ميركل، دافع أولاف شولتز دائمًا عن مشروع “قطاع خاص بحت” من خلال تفادي تسييس ملف جيوستراتيجي.

   مانويلا شفيزيغ، وهي الأمل الأنثوي الكبير للحزب الاشتراكي الديمقراطي، قاتلت في كل الاتجاهات لاستكمال خط أنابيب الغاز هذا الذي يؤدي إلى سواحل بحر البلطيق، في المنطقة التي تقودها، مكلنبورغ. ولإنهاء تنفيذ المشروع، لم تتردد في الالتفاف على العقوبات الأمريكية من خلال إنشاء مؤسسة-واجهة في منطقتها، وبتمويل ... غازبروم، عملاق الغاز الروسي.

حكاية خرافية
   بينما تطمح الحكومة الجديدة إلى الزعامة السياسية في أوروبا، يشعر الألمان بالارتياح لرؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يملأ الفراغ في أزمة أوكرانيا. “منذ نهاية الحرب، لم تتم مناقشة مسألة الأمن الخارجي في ألمانيا”، تعرب الليبرالية ماري أغنيس ستراك زيمرمان (الحزب الليبرالي الديمقراطي)، رئيسة لجنة الدفاع في الجمعية الفيدرالية (البوندستاغ) عن أسفها.
   واستشهدت بالرئيس الاشتراكي الديمقراطي السابق يوهانس راو الذي قال في العقد الأول من القرن الحالي: “ألمانيا محاطة بالأصدقاء”... رغم سياسة بوتين العدوانية، لا يزال الألمان يرفضون الخروج من هذه الحكاية الخرافية.