السلطة غاية تبرر الوسيلة

فيروس كورونا: حكومة بريطانيا تكنس التاتشرية...!

فيروس كورونا: حكومة بريطانيا تكنس التاتشرية...!

-- التدخل الحكومي والإنفاق يبشر بالانتقال إلى إدارة من نوع اشتراكي للدولة والمجتمع والاقتصاد
-- سيكون من الصعب على كير ستارمر إزاحة حزب المحافظين الذي يقدم الآن سياسة عمّاليّة
-- يفضل المحافظون الأغنياء والطبقات الوسطى على الفقراء والعمّال
-- على عكس حزب العمل، الذي يحب النقاش الأيديولوجي، يركز المحافظون على الفوز والبقاء في الحكم
-- على مدى أكثر من 300 عام، عرف حزب المحافظين  كيف يعدّل سياسته الاقتصادية للحفاظ على السلطة


 هذا هو الفكر الأحادي الجديد لبريطانيا: التدخل الحكومي الضخم والإنفاق لمحاربة فيروس كورونا، يبشر بالانتقال إلى إدارة من نوع اشتراكي للدولة والمجتمع والاقتصاد.
   وكما قال جيريمي كوربين، الزعيم اليساري الذي استقال من حزب العمل، لبي بي سي: “لقد اتّهمت برغبتي في إنفاق أموال أكثر مما نستطيع تحمّله، من أجل تصحيح الظلم الاجتماعي في هذا البلد... لم أكن أعتقد أن الأمر سيستغرق ثلاثة أشهر فقط لإثبات أنني كنت على حق تمامًا. «
   شكوى كوربين صحيحة جزئيا. لقد مزقت الحكومة البريطانية في الآونة الأخيرة أربعين عاما من الانضباط النقدي والحكمة المالية التي تكرّست خلال عهد مارغريت تاتشر”رئيسة الوزراء البريطانية من 1979 إلى 1990”.
 وكانت هذه الأخيرة قد صرحت إنها تعلّمت من والدها التاجر أنه لا يجب اقتراض أو إنفاق أموال لم تكسبها. وهكذا، بعد عام 1979، بدأت السيدة تاتشر في تفكيك دولة الاقتصاد المختلط والحماية الاجتماعية التي تأسست في بريطانيا بعد عام 1945، وسرعان ما سار رونالد ريغان على خطاها في الولايات المتحدة.

هذه الفترة التي استمرت أربعين عامًا من الممارسات الاقتصادية القائمة على تحرير القيود والخصخصة والعولمة بين 1980 و2020 انتهت تحت تأثير فيروس كورونا. لقد انقلب المحافظون أخيراً على أيقونتهم- العبء، “السيدة الحديدية” صاحبة الحقيبة اليدوية التي تريد استرداد أموالها (من الآخرين، ويفضل أن يكون ذلك في الخارج).
   إن حماية العمال في مواجهة الكارثة الاقتصادية، كما هو الحال اليوم، من خلال مساعدة مالية مباشرة، أو حظر التسريح، هي بالتأكيد ممارسة راسخة في أوروبا القارية.
لكن في سجلات الرأسمالية البريطانية، كان يمكن اعتبار مثل هذه المقترحات السياسية خيانة عظمى في المعسكر المحافظ.
 ومع ذلك، فإن جميع الخدمات العامة في المملكة المتحدة -الخدمات الاجتماعية والشرطة والمدارس والأهم من ذلك المستشفيات -تشهد الآن تدفق الأموال في جهد مشترك لدحر الآفة.

تكييف السياسة الاقتصادية
   ما الذي يفسر حقاً هذا الطلاق مع التاتشرية؟ على مدى أكثر من 300 عام، عرف حزب المحافظين كيف يعدّل سياسته الاقتصادية للحفاظ على السلطة. في البداية، كان الممثل الأكثر حماسة لمصالح الملكية العقارية. ثم، مع تلاشي الزراعة وزيادة الإنتاج الصناعي، أصبح المحافظون حزب أصحاب المصانع.
وبالطبع، كانوا دائمًا حزب السيتي، الحي المالي في لندن، ورأسماليته الريعية.
وكان لحماستهم في تعظيم الثروة الشخصية والوطنية من خلال أدوات مالية تتطور باستمرار ويتم تداولها حول العالم، هدف نفعي واضح: ملء خزائن حملة الحزب.
   نعم، يفضّل المحافظون الأغنياء والطبقات الوسطى على الفقراء والعمّال. ولكن، للدفاع عن أنفسهم ضد الليبراليين في مانشستر الذين استخفوا بالطبقات الدنيا، كان للمحافظين -حتى وقت تاتشر -سياسة “كرم النّبلاء” تجاه العمال من أجل منع أي ثورة، والفوز بأصوات جزء من الطبقة العاملة بمجرد حصولها على حق التصويت.
    عام 1919، أعلن الملك جورج الخامس، الذي يجسد الإرهاب المحافظ في مواجهة الثورة البلشفية، أمام البرلمان: “يجب ألا نتوقف عند أي تضحية بالمصلحة أو الامتياز للقضاء على الفقر غير المستحق، والحد من البطالة، وتوفير السكن اللائق، لتحســـين الأمــة والصحة والرفـــــاه في جميع فئات المجتمع. «
   بعد انهيار عام 1929، ترك المحافظون المعيار الذهبي، واستثمروا في السكن الاجتماعي والرعاية الصحية، وأصدروا تشريعًا لأول مرة لصالح الإجازة مدفوعة الأجر.
   وبالمثل، في الخمسينات، تخلى المحافظون عن معظم المستعمرات البريطانية، وبنوا 300 ألف منزل سنويًا، وعززوا نظام الرعاية الصحية الذي تديره الدولة والممول من معدلات ضريبية عالية جدًا، وأكسبهم هذا ثلاثة انتخابات متتالية.

«إنها سياستي»
   الآن، يأخذ بوريس جونسون زمام المبادرة. وحتى قبل وصول فيروس كورونا، وعد رئيس الوزراء البريطاني -الذي اصيب بكوفيد-19، وفي العناية المركزة-وعد في 6 أبريل بزيادة الإنفاق العام، حتى لو كان ذلك يعني الاقتراض وتوسيع العجز، لتجديد النقل والسكن والرعاية الصحية في المناطق المحرومة في شمال إنجلترا.
 ورفّـــع الحد الأدنى للأجـور، وقـــال إنه لن يفقــــد أي عامل وظيفتــــه بســـبب إغـلاق الشركات الخاصـة جــــراء فيــــروس كورونا.
   وكل هذا، يجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لكير ستارمر، الزعيم الجديد لحزب العمل، لكسب الناخبين من خلال الدعوة إلى حماية وظيفية أفضل، وسياسة إسكان أكثر نشاطًا، وخدمات عامة لائقة. لهذا، يمكن لبوريس جونسون الإجابة ببساطة، “هذه هي سياستي، وهذا ما يفعله المحافظون. «
   كان المحافظون أول من دخل وخرج من الرأسمالية الزراعية والصناعية.
 وكانوا أول من اندفع إلى الإمبريالية الأوروبية في الخارج، لكنهم خرجوا من هذه اللعبة الفوضوية عندما توقفت عن كونها مربحة. وكان المحافظون أيضًا، أول من تبنّى رأسمالية العائدات والتمويل العالمي للاقتصاد البريطاني بعد عام 1980، ولكن يمكن رميه أيضًا في سلة المهملات، إذا لم يجلب أي ناخبين جدد.
   وعلى عكس حزب العمل البريطاني، الذي يحب النقاش الأيديولوجي الذي لا نهاية له، يركّز المحافظون البريطانيون على الفوز والحفاظ على السلطة.
 وعلى عكس حـــزب العمل، بالنسبة للمحافظين، ما يتم القيام بـــــــه مــا ان يستلموا السلطة بمفردات الضرورة هـــــوـــــ ثانوي.
 ولهذا السبب، يخاطر حزب العمل، حتى بعد اقصاء جيريمي كوربين، بالبقاء في المعارضة لفترة أطول مما يعتقد. وحتى مع زعيمه الجديد، المحامي كير ستارمر. المثير للإعجاب، والمعتدل، والسياسي المتوازن، سيكون من الصعب إزاحة حزب المحافظين الذي يقدم الآن سياسة عمّاليّة.