بعد التشاور مع رئيس الدولة واعتماده.. محمد بن راشد يعلن تغييرات في حكومة الإمارات
تستند إلى الماضي القيصري والسوفياتي:
لم نفهم بعد الدبلوماسية الروسية القسرية...!
-- في الثقافة الاستراتيجية الروسية، القوة والدبلوماسية تنطلقان من نفس الحركة ويمكن استخدامهما معًا
-- الدبلوماسية هي أداة موسكو في سعيها للحصول على مكانــــة، وعلى وضـــع القـــوة العظمـى
-- يُنظر إلى الدبلوماسية على أنها وسيلة وأداة لتحقيق الأهداف وليست سياسة في حد ذاتها
-- تحتوي الاستراتيجية الروسية على مخاطر بسبب الانقسامات بين صنّاع القرار الروس
-- فتحت موسكو مجالا واسعا من الاحتمالات من أجل تحقيق أهدافها من خلال اللعب على روافع مختلفة في وقت واحد
انتشار عسكري وهجمات سيبرانية: تتميز بداية عام 2022 باستعراض روسي للقوة لا نعرف في مواجهته كيف نتصرف. ولتفسير هذه المناورات، لعلّه من الضروري العودة إلى زمن طويل من الدبلوماسية الروسية، بجذورها القيصرية والسوفياتية، حيث تمت صياغة مفهوم: الاستمرارية بين القوة والدبلوماسية.
ثلاثة مواعيد، جرت جميعها الأسبوع الماضي بين ممثلين عن الغرب، وبشكل أساسي أمريكيين وروس: حوار ثنائي بين الولايات المتحدة وروسيا من أجل الاستقرار الاستراتيجي يوم الاثنين في جنيف، تلته أول قمة بين الحلف الأطلسي وروسيا منذ عام 2019 يوم الأربعاء، والتي سبقت اجتماعًا بين ممثلي موسكو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا الخميس. وتأتي هذه القمم الثلاث في أعقاب التعبئة المسلحة لروسيا على حدود أوكرانيا، ونشر قائمة مطالب موسكو فيما يتعلق بهيكل الأمن الأوروبي.
تؤكد هذه الحلقة البُعد المركزي للاستراتيجية الروسية، الذي غالبًا ما يتم تجاهله عند رؤيته من أوروبا الغربية: الاستمرارية بين المجالين الدبلوماسي والعسكري لتحقيق الأهداف.
إن التفكير في هذين المجالين من مجالات العمل على أنهما منفصلان سيمنعنا فعلا من فهم مصالح روسيا، وكذلك المخاطر التي تصاحب أفعالها.
لذلك من المناسب العودة إلى أساس ما يشكل هذه الاستمرارية.
المفهوم
من وجهة نظر غربية *، يُنظر إلى الدبلوماسية على أنها عملية إقناع وتحريض: يمكن أن تكون غايتها أن يحترم فاعل ما المصالح أو ينحني لمطالب قوّة عظمى دون اللجوء إلى القوة أو التهديدات الصريحة. وفي الثقافة الاستراتيجية الروسية، في المقابل، تسير القوة والدبلوماسية في نفس الحركة، ويمكن استخدامهما معا.
تستند “الثقافة الاستراتيجية” الحالية لروسيا، إلى حد ما، إلى الماضي القيصري والسوفياتي: فهي تتميز ببصمة العقائد والممارسات والعادات المكتسبة بمرور الزمن.
ولم يغفل فلاديمير بوتين الإشارة في عدة مناسبات إلى أن الماضي التاريخي لروسيا هو مصدر إلهام بالنسبة له **. تتميز هذه الثقافة الاستراتيجية بشكل خاص بما يسمى بالفهم “السلبي” -من وجهة النظر الغربية -لمفهوم “السلام”: يمكن أن تكون الدبلوماسية أداة في أيدي قوة مهيمنة من أجل وضع حدّ للعنف والحرب وفقًا لشروطها ولكنها لا تسعى إلى حل الجذور العميقة للأعمال العدائية ***.
وبهذا المعنى، تهدف الدبلوماسية إلى الحفاظ على النفوذ وليس هدفها الوحيد إنهاء التوترات.
علاوة على ذلك، وفقًا للعقيدة اللينينية التي تم تبنيها بعد الثورة، يجب أن يتم السعي وراء النفوذ من خلال نشر مجموعة واسعة من الأدوات المستخدمة في وقت واحد. وعلى هذا النحو، لا يمكن للدبلوماسية أن تكون فعالة إلا إذا كانت مصحوبة بتهديد جدي باستخدام القوة المسلحة.
كما يُنظر إليها على أنها وسيلة وأداة لتحقيق الأهداف وليست سياسة في حد ذاتها.
عام 2022، لا تزال الدبلوماسية الروسية تتمتع بالعديد من الخصائص الموروثة من الحقبة السوفياتية. وبالتالي، يعتقد القادة الروس أن الدبلوماسية غير القسرية ليست قادرة على أن تؤدي إلى تغيير الوضع القائم لصالح مصالح موسكو في مرحلة تظهر فيها روسيا نفسها أكثر ميلًا للرغبة في التأثير، أو حتى السيطرة، على تطورات فضائها الخارجي القريب.
وقد سبق ان ظهر هذا الاتجاه عام 2008 أثناء الصراع مع جورجيا: استخدمت روسيا حينها القوة المسلحة والدبلوماسية في نفس الوقت لضمان أن تسمح المفاوضات التي أجريت مع الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، بتعزيز مصالح الروس.
وبالمثل، في سوريا، لم تدخل روسيا في وساطة مع أعضاء المعارضة الا بعد التأكد من إضعافها بسبب الضربات الجوية وفرض الحصار على المدن.
ووفقًا للخبراء الغربيين، فإن الأساليب الدبلوماسية الروسية لا علاقة لها بالدبلوماسية تقريبًا.
يوم الجمعة 17 ديسمبر 2021، قدمت موسكو قائمة بـ “المطالب” المتعلقة بمستقبل الناتو: لا مزيد من توسيع الحلف، ولا تدريبات عسكرية بالقرب من الحدود الروسية، وعدم نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى تطال روسيا، ووقف الدعم العسكري الغربي المقدّم لأوكرانيا.
ونُشرت هذه القائمة، التي تشبه الإنذار، بعد انتشار حوالي 120 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية.
والغرض من المناورة واضح: وضع موسكو في موقع قوة عندما تبدأ المفاوضات.
توضح هذه المطالب المتطرفة تمامًا مبدأ أساسيًا للاستراتيجية الروسية أعلنه الفريق إيفجيني مارتينوف منذ عام 1899: “من المهم أن يكون الهدف السياسي المختار كبيرًا بقدر الإمكان، مما يسمح للبلد بدفع الفكرة الوطنية إلى أقصى حد ممكن”.
وفي هذا الصدد، حرص الرئيس فلاديمير بوتين أيضًا على تحديد أنه يمكن اتخاذ “تدابير عسكرية تقنية مناسبة” ضد كييف في حال فشل المناقشات حول هذه المطالب التي تعتبر غير مقبولة إلى حد كبير من قبل الحلف الأطلسي.
أخيرًا، بعد ساعات فقط من انتهاء القمة بين منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وممثلي روسيا، استُهدفت مواقع الحكومة الأوكرانية بهجوم إلكتروني نسبته كييف إلى روسيا.
وهكذا تشكل حلقة بداية العام هذه مثالًا نموذجيًا للدبلوماسية القسرية الروسية: انها تفتح مجالًا واسعًا من الاحتمالات من أجل تحقيق أهدافها من خلال اللعب على روافعها المختلفة في وقت واحد.
الأهداف
من خلال نشر هذه الاستراتيجية، تسعى موسكو إلى هدفين:
من ناحية، تهدف روسيا إلى الحصول على ضمانات أمنية على طول حدودها. بالتأكيد، يعتبر الناتو العديد من المطالب الروسية المذكورة سابقًا مستحيلة.
لكن بينما ترغب الإدارة الأمريكية في التركيز على الصين، تبدو موسكو في موقع قوة بما يكفي لاعتبار نفسها قادرة على تعزيز مصالحها.
تعتبر روسيا أنه لم يكن لها رأي في نهاية الحرب الباردة فيما يتعلق بالهيكل الأمني في أوروبا، وترغب الآن في فرض اتفاقية تعترف بالمصالح الروسية في محيطها الخارجي القريب. وتم فعلا الفوز بجزء من هذا الرهان لأن مطالب موسكو المتطرفة سمحت ببدء مفاوضات مع واشنطن حول مواضيع رفض الغرب، وفقًا لوجهة النظر الروسية، مناقشتها مع جارتها.
وهكذا، تعزز استخدام روسيا للدبلوماسية والقوة المسلحة معا، وستواصل الضغط بقوة على واشنطن حتى يتم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين. وقد نفخ المسؤولون الروس الأسبوع الماضي الحار والبارد، قائلين إنهم مسرورون لأن “الأمريكيين “أخذوا” المقترحات الروسية على محمل الجد”، بينما يأسفون “لنفاد صبرهم».
إلى جانب هذه المطالب، تريد روسيا أن تطمئن على تصورها لنفسها بأنها “قوة عظمى”. ان الدبلوماسية هي أداة بالنسبة لموسكو في سعيها للحصول على مكانة.
فمن خلال التفاوض على قدم المساواة مع الأمريكيين، مع إبعاد أوكرانيا والقوى الأوروبية إلى المرتبة الثانية، تسعى موسكو للحصول على وضع القوة العظمى، الأمر الذي يبدو منطقيًا من منظور علائقي لمفهوم المكانة حيث يتم منح هذه الميزة من قبل القوى العظمى الأخرى إلى روسيا.
مخاطر
يبدو أن روسيا قادرة على تحقيق بعض هذه الأهداف من خلال الدبلوماسية القسرية -وبالتالي تفادي تصعيد الصراع مع أوكرانيا على الصعيد العسكري البحت.
وفي الواقع، رغم أن القبول الرسمي من جانب واشنطن بعدم دمج أعضاء جدد في الناتو أمر مستبعد، بلا شك، يبدو أنه من الممكن أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق بشأن نقاط معينة؛ مثل عدم نشر الصواريخ في نطاق روسيا، وتقليص التدريبات العسكرية.
من جهة اخرى، من شأن مثل هذه الاتفاقيات أن تعزز مكانة روسيا كقوة تفرض قواعدها على جيرانها الذين تعتبرهم شبه سياديين. ومع ذلك، تحتوي الاستراتيجية الروسية على مخاطر بسبب الانقسامات بين صناع القرار الروس.
في الواقع، يمكن النظر الى النظام الروسي على انه منافسة أفكار وسياسات بين مختلف الفروع -العسكرية والشؤون الخارجية على وجه الخصوص. ويتولى الرئيس بوتين دور الحكم لصالح هذا المعسكر أو ذاك.
وبهذا المعنى، فإن التقدم في المجال الدبلوماسي الذي حققه الرجل الثاني في الدبلوماسية الروسية، سيرجي ريابكوف، قد يصبح لاغياً وباطلاً بسبب ضغوط الصقور في موسكو التي تدفع باتجاه تبني موقف أكثر حزماً وعدوانية.
بالنظر الى طبيعة الاستراتيجية التي تستخدمها موسكو، من السابق لأوانه الحديث عن أي نجاح أو فشل لدبلوماسيتها. ستواصل موسكو الضغط على الجبهة العسكرية -من خلال الانتشار العسكري أو الهجمات الإلكترونية -وعلى الغربيين أثناء الانخراط في المفاوضات. وبعد أسبوع تميّز بثلاث قمم دبلوماسية، ما زالت روسيا تبدو حريصة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ومع ذلك، فإن خطر انتهاء الدبلوماسية ولجوء موسكو إلى الوسائل “العسكرية التقنية” ضد أوكرانيا وشركائها الغربيين، على حد تعبير فلاديمير بوتين، سيظل مرتفعاً حتى تنال موسكو ما يرضيها على الجبهة الدبلوماسية.
المصادر
غريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف، “ليست مثل الدبلوماسية”، بي بي سي، 13 يناير 2022.
فيونا هيل وكليفورد جادي، “بوتين واستخدامات التاريخ”، مجلة ناشيونال إنترست، يناير 2012.
إفغينيا باكالوفا وكونستانزي يونغلنغ، “الصراع على السلام؟”، دراسات أوروبا وآسيا، مارس 2020 وغريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف “ليست مثل الدبلوماسية””، بي بي سي، 13 يناير 2022.
بيوتر سمولار، “موسكو تقدم مطالبها المستحيلة للناتو”، لوموند، 18 ديسمبر 2021.
بافيل بوليتيوك وستيف هولاند، “الهجوم الإلكتروني يضرب أوكرانيا بينما تحذر الولايات المتحدة من أن روسيا تستعد للحرب”، رويترز، 14 يناير 2022.
مكسيم سوشكوف، “ما هو منطق روسيا في الأزمة الحالية؟”، الحرب على الصخور، 7 يناير 2020.
غريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف، “ليست مثل الدبلوماسية””، بي بي سي، 13 يناير 2022.
غريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف، “ليست مثل الدبلوماسية””، بي بي سي، 13 يناير 2022.
ديمتري ترينين، “ما يريده بوتين حقًا في أوكرانيا”، فورين أفيرز، 28 ديسمبر 2021.
أنطون ترويانوفسكي، “الخطوة التالية لبوتين في أوكرانيا لغز وبالطريقة التي يحبها بالضبط “، نيويورك تايمز، 11 يناير 2022.
- باحث تشمل اهتماماته البحثية العلاقات المدنية العسكرية والسياسات الأمنية في روسيا وبيلاروسيا والسياسة الخارجية لروسيا في الشرق الأوسط
-- الدبلوماسية هي أداة موسكو في سعيها للحصول على مكانــــة، وعلى وضـــع القـــوة العظمـى
-- يُنظر إلى الدبلوماسية على أنها وسيلة وأداة لتحقيق الأهداف وليست سياسة في حد ذاتها
-- تحتوي الاستراتيجية الروسية على مخاطر بسبب الانقسامات بين صنّاع القرار الروس
-- فتحت موسكو مجالا واسعا من الاحتمالات من أجل تحقيق أهدافها من خلال اللعب على روافع مختلفة في وقت واحد
انتشار عسكري وهجمات سيبرانية: تتميز بداية عام 2022 باستعراض روسي للقوة لا نعرف في مواجهته كيف نتصرف. ولتفسير هذه المناورات، لعلّه من الضروري العودة إلى زمن طويل من الدبلوماسية الروسية، بجذورها القيصرية والسوفياتية، حيث تمت صياغة مفهوم: الاستمرارية بين القوة والدبلوماسية.
ثلاثة مواعيد، جرت جميعها الأسبوع الماضي بين ممثلين عن الغرب، وبشكل أساسي أمريكيين وروس: حوار ثنائي بين الولايات المتحدة وروسيا من أجل الاستقرار الاستراتيجي يوم الاثنين في جنيف، تلته أول قمة بين الحلف الأطلسي وروسيا منذ عام 2019 يوم الأربعاء، والتي سبقت اجتماعًا بين ممثلي موسكو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا الخميس. وتأتي هذه القمم الثلاث في أعقاب التعبئة المسلحة لروسيا على حدود أوكرانيا، ونشر قائمة مطالب موسكو فيما يتعلق بهيكل الأمن الأوروبي.
تؤكد هذه الحلقة البُعد المركزي للاستراتيجية الروسية، الذي غالبًا ما يتم تجاهله عند رؤيته من أوروبا الغربية: الاستمرارية بين المجالين الدبلوماسي والعسكري لتحقيق الأهداف.
إن التفكير في هذين المجالين من مجالات العمل على أنهما منفصلان سيمنعنا فعلا من فهم مصالح روسيا، وكذلك المخاطر التي تصاحب أفعالها.
لذلك من المناسب العودة إلى أساس ما يشكل هذه الاستمرارية.
المفهوم
من وجهة نظر غربية *، يُنظر إلى الدبلوماسية على أنها عملية إقناع وتحريض: يمكن أن تكون غايتها أن يحترم فاعل ما المصالح أو ينحني لمطالب قوّة عظمى دون اللجوء إلى القوة أو التهديدات الصريحة. وفي الثقافة الاستراتيجية الروسية، في المقابل، تسير القوة والدبلوماسية في نفس الحركة، ويمكن استخدامهما معا.
تستند “الثقافة الاستراتيجية” الحالية لروسيا، إلى حد ما، إلى الماضي القيصري والسوفياتي: فهي تتميز ببصمة العقائد والممارسات والعادات المكتسبة بمرور الزمن.
ولم يغفل فلاديمير بوتين الإشارة في عدة مناسبات إلى أن الماضي التاريخي لروسيا هو مصدر إلهام بالنسبة له **. تتميز هذه الثقافة الاستراتيجية بشكل خاص بما يسمى بالفهم “السلبي” -من وجهة النظر الغربية -لمفهوم “السلام”: يمكن أن تكون الدبلوماسية أداة في أيدي قوة مهيمنة من أجل وضع حدّ للعنف والحرب وفقًا لشروطها ولكنها لا تسعى إلى حل الجذور العميقة للأعمال العدائية ***.
وبهذا المعنى، تهدف الدبلوماسية إلى الحفاظ على النفوذ وليس هدفها الوحيد إنهاء التوترات.
علاوة على ذلك، وفقًا للعقيدة اللينينية التي تم تبنيها بعد الثورة، يجب أن يتم السعي وراء النفوذ من خلال نشر مجموعة واسعة من الأدوات المستخدمة في وقت واحد. وعلى هذا النحو، لا يمكن للدبلوماسية أن تكون فعالة إلا إذا كانت مصحوبة بتهديد جدي باستخدام القوة المسلحة.
كما يُنظر إليها على أنها وسيلة وأداة لتحقيق الأهداف وليست سياسة في حد ذاتها.
عام 2022، لا تزال الدبلوماسية الروسية تتمتع بالعديد من الخصائص الموروثة من الحقبة السوفياتية. وبالتالي، يعتقد القادة الروس أن الدبلوماسية غير القسرية ليست قادرة على أن تؤدي إلى تغيير الوضع القائم لصالح مصالح موسكو في مرحلة تظهر فيها روسيا نفسها أكثر ميلًا للرغبة في التأثير، أو حتى السيطرة، على تطورات فضائها الخارجي القريب.
وقد سبق ان ظهر هذا الاتجاه عام 2008 أثناء الصراع مع جورجيا: استخدمت روسيا حينها القوة المسلحة والدبلوماسية في نفس الوقت لضمان أن تسمح المفاوضات التي أجريت مع الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، بتعزيز مصالح الروس.
وبالمثل، في سوريا، لم تدخل روسيا في وساطة مع أعضاء المعارضة الا بعد التأكد من إضعافها بسبب الضربات الجوية وفرض الحصار على المدن.
ووفقًا للخبراء الغربيين، فإن الأساليب الدبلوماسية الروسية لا علاقة لها بالدبلوماسية تقريبًا.
يوم الجمعة 17 ديسمبر 2021، قدمت موسكو قائمة بـ “المطالب” المتعلقة بمستقبل الناتو: لا مزيد من توسيع الحلف، ولا تدريبات عسكرية بالقرب من الحدود الروسية، وعدم نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى تطال روسيا، ووقف الدعم العسكري الغربي المقدّم لأوكرانيا.
ونُشرت هذه القائمة، التي تشبه الإنذار، بعد انتشار حوالي 120 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية.
والغرض من المناورة واضح: وضع موسكو في موقع قوة عندما تبدأ المفاوضات.
توضح هذه المطالب المتطرفة تمامًا مبدأ أساسيًا للاستراتيجية الروسية أعلنه الفريق إيفجيني مارتينوف منذ عام 1899: “من المهم أن يكون الهدف السياسي المختار كبيرًا بقدر الإمكان، مما يسمح للبلد بدفع الفكرة الوطنية إلى أقصى حد ممكن”.
وفي هذا الصدد، حرص الرئيس فلاديمير بوتين أيضًا على تحديد أنه يمكن اتخاذ “تدابير عسكرية تقنية مناسبة” ضد كييف في حال فشل المناقشات حول هذه المطالب التي تعتبر غير مقبولة إلى حد كبير من قبل الحلف الأطلسي.
أخيرًا، بعد ساعات فقط من انتهاء القمة بين منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وممثلي روسيا، استُهدفت مواقع الحكومة الأوكرانية بهجوم إلكتروني نسبته كييف إلى روسيا.
وهكذا تشكل حلقة بداية العام هذه مثالًا نموذجيًا للدبلوماسية القسرية الروسية: انها تفتح مجالًا واسعًا من الاحتمالات من أجل تحقيق أهدافها من خلال اللعب على روافعها المختلفة في وقت واحد.
الأهداف
من خلال نشر هذه الاستراتيجية، تسعى موسكو إلى هدفين:
من ناحية، تهدف روسيا إلى الحصول على ضمانات أمنية على طول حدودها. بالتأكيد، يعتبر الناتو العديد من المطالب الروسية المذكورة سابقًا مستحيلة.
لكن بينما ترغب الإدارة الأمريكية في التركيز على الصين، تبدو موسكو في موقع قوة بما يكفي لاعتبار نفسها قادرة على تعزيز مصالحها.
تعتبر روسيا أنه لم يكن لها رأي في نهاية الحرب الباردة فيما يتعلق بالهيكل الأمني في أوروبا، وترغب الآن في فرض اتفاقية تعترف بالمصالح الروسية في محيطها الخارجي القريب. وتم فعلا الفوز بجزء من هذا الرهان لأن مطالب موسكو المتطرفة سمحت ببدء مفاوضات مع واشنطن حول مواضيع رفض الغرب، وفقًا لوجهة النظر الروسية، مناقشتها مع جارتها.
وهكذا، تعزز استخدام روسيا للدبلوماسية والقوة المسلحة معا، وستواصل الضغط بقوة على واشنطن حتى يتم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين. وقد نفخ المسؤولون الروس الأسبوع الماضي الحار والبارد، قائلين إنهم مسرورون لأن “الأمريكيين “أخذوا” المقترحات الروسية على محمل الجد”، بينما يأسفون “لنفاد صبرهم».
إلى جانب هذه المطالب، تريد روسيا أن تطمئن على تصورها لنفسها بأنها “قوة عظمى”. ان الدبلوماسية هي أداة بالنسبة لموسكو في سعيها للحصول على مكانة.
فمن خلال التفاوض على قدم المساواة مع الأمريكيين، مع إبعاد أوكرانيا والقوى الأوروبية إلى المرتبة الثانية، تسعى موسكو للحصول على وضع القوة العظمى، الأمر الذي يبدو منطقيًا من منظور علائقي لمفهوم المكانة حيث يتم منح هذه الميزة من قبل القوى العظمى الأخرى إلى روسيا.
مخاطر
يبدو أن روسيا قادرة على تحقيق بعض هذه الأهداف من خلال الدبلوماسية القسرية -وبالتالي تفادي تصعيد الصراع مع أوكرانيا على الصعيد العسكري البحت.
وفي الواقع، رغم أن القبول الرسمي من جانب واشنطن بعدم دمج أعضاء جدد في الناتو أمر مستبعد، بلا شك، يبدو أنه من الممكن أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق بشأن نقاط معينة؛ مثل عدم نشر الصواريخ في نطاق روسيا، وتقليص التدريبات العسكرية.
من جهة اخرى، من شأن مثل هذه الاتفاقيات أن تعزز مكانة روسيا كقوة تفرض قواعدها على جيرانها الذين تعتبرهم شبه سياديين. ومع ذلك، تحتوي الاستراتيجية الروسية على مخاطر بسبب الانقسامات بين صناع القرار الروس.
في الواقع، يمكن النظر الى النظام الروسي على انه منافسة أفكار وسياسات بين مختلف الفروع -العسكرية والشؤون الخارجية على وجه الخصوص. ويتولى الرئيس بوتين دور الحكم لصالح هذا المعسكر أو ذاك.
وبهذا المعنى، فإن التقدم في المجال الدبلوماسي الذي حققه الرجل الثاني في الدبلوماسية الروسية، سيرجي ريابكوف، قد يصبح لاغياً وباطلاً بسبب ضغوط الصقور في موسكو التي تدفع باتجاه تبني موقف أكثر حزماً وعدوانية.
بالنظر الى طبيعة الاستراتيجية التي تستخدمها موسكو، من السابق لأوانه الحديث عن أي نجاح أو فشل لدبلوماسيتها. ستواصل موسكو الضغط على الجبهة العسكرية -من خلال الانتشار العسكري أو الهجمات الإلكترونية -وعلى الغربيين أثناء الانخراط في المفاوضات. وبعد أسبوع تميّز بثلاث قمم دبلوماسية، ما زالت روسيا تبدو حريصة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ومع ذلك، فإن خطر انتهاء الدبلوماسية ولجوء موسكو إلى الوسائل “العسكرية التقنية” ضد أوكرانيا وشركائها الغربيين، على حد تعبير فلاديمير بوتين، سيظل مرتفعاً حتى تنال موسكو ما يرضيها على الجبهة الدبلوماسية.
المصادر
غريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف، “ليست مثل الدبلوماسية”، بي بي سي، 13 يناير 2022.
فيونا هيل وكليفورد جادي، “بوتين واستخدامات التاريخ”، مجلة ناشيونال إنترست، يناير 2012.
إفغينيا باكالوفا وكونستانزي يونغلنغ، “الصراع على السلام؟”، دراسات أوروبا وآسيا، مارس 2020 وغريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف “ليست مثل الدبلوماسية””، بي بي سي، 13 يناير 2022.
بيوتر سمولار، “موسكو تقدم مطالبها المستحيلة للناتو”، لوموند، 18 ديسمبر 2021.
بافيل بوليتيوك وستيف هولاند، “الهجوم الإلكتروني يضرب أوكرانيا بينما تحذر الولايات المتحدة من أن روسيا تستعد للحرب”، رويترز، 14 يناير 2022.
مكسيم سوشكوف، “ما هو منطق روسيا في الأزمة الحالية؟”، الحرب على الصخور، 7 يناير 2020.
غريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف، “ليست مثل الدبلوماسية””، بي بي سي، 13 يناير 2022.
غريغور أتانيسيان وبيتر كوزلوف، “ليست مثل الدبلوماسية””، بي بي سي، 13 يناير 2022.
ديمتري ترينين، “ما يريده بوتين حقًا في أوكرانيا”، فورين أفيرز، 28 ديسمبر 2021.
أنطون ترويانوفسكي، “الخطوة التالية لبوتين في أوكرانيا لغز وبالطريقة التي يحبها بالضبط “، نيويورك تايمز، 11 يناير 2022.
- باحث تشمل اهتماماته البحثية العلاقات المدنية العسكرية والسياسات الأمنية في روسيا وبيلاروسيا والسياسة الخارجية لروسيا في الشرق الأوسط