تنتمي للاتحاد الأوروبي:

ليتوانيا، الدولة الصغيرة التي تقلق التّنين الصيني...!

ليتوانيا، الدولة الصغيرة التي تقلق التّنين الصيني...!

-- يعارض قادة ليتوانيا الصين على أمل جذب المستثمرين الذين يرغبون في نقل إنتاجهم إلى أوروبا
-- اعتبرت الصين أن أفعال فيلنيوس تشكل سابقة سيئة على المسرح الدولي
-- ليس هناك ما يشير إلى أن سياسة ليتوانيا تجاه الصين ستكسبها دعمًا إيجابيًا بين الحكومات الأوروبية
-- مبادرة ليتوانيا وتايوان تثير استياء القيادة الصينية، التي تحرص على عزل الجزيرة على الساحة الدولية


    من خلال قطعها مع الإجماع على سياسة “صين واحدة”، أثارت فيلنيوس غضب القوة العالمية الثانية على الجبهتين الدبلوماسية والاقتصادية.
   قررت ليتوانيا تعزيز علاقاتها مع تايوان. في 18 نوفمبر، تم افتتاح مكتب تمثيلي للجزيرة في فيلنيوس، عاصمة البلاد البلطيقية، تحت اسم تايوان. وهكذا كسرت الدولة تقليد إلحاق “تايبيه” باسم هذه المكاتب التمثيلية التي يمكن مقارنتها بالسفارات، ولكنها لا تتمتع بتلك المكانة. واعتبرت وزارة الخارجية الصينية، أن “هذا القرار يخلق عن قصد انطباعا خاطئا بأن هناك في العالم صين وتايوان”، بينما “تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية».    إن مبدأ “صين واحدة” (وتسمى أيضًا “الصين الواحدة”) معترف به من قبل غالبية دول العالم والتي، بالنتيجة، لا يمكنها إقامة علاقات دبلوماسية حقيقية مع تايوان.    لذلك، فإن المبادرة المشتركة لليتوانيا وتايوان، اثارت استياء القادة الصينيين، الذين يحرصون على عزل الجزيرة على الساحة الدولية. فبالنسبة للسلطة، لا توجد سوى صين واحدة في العالم، وهي لا ترى تايوان كجزيرة مستقلة، بل مقاطعة متمردة. كما تعتبر حكومة الصين الشعبية نفسها الممثل الشرعي الوحيد لجميع أراضيها.

الخوف من تأثير الدومينو
   إذا نظرنا إليها من الصين وسكانها البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة، فإن ليتوانيا، التي يبلغ عدد سكانها 2.8 مليون نسمة فقط، تُعتبر من وزن الريشة. ومع ذلك، منذ عام 2004، أصبحت جمهورية البلطيق هذه جزءً من الاتحاد الأوروبي بعد انتمائها إلى الكتلة السوفياتية من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 1989.
   لا تتسامح جمهورية الصين الشعبية مع تقارب الدول الأجنبية مع تايوان. ومما زاد الطين بلة، أن بكين تخشى أن تتبنى دول أخرى في أوروبا نفس موقف الحكومة الليتوانية تجاه الجزيرة. عام 2004، سبق ان فتحت تايوان مكتبا تمثيليا لها في سلوفاكيا، لكن في ذلك الوقت، لم تكن الصين القوة التي هي عليها اليوم، ولا أحد يتحدث اليوم عن هذا المكتب في براتيسلافا، مع انه لا يزال ينشط.

   تصاعدت التوترات بين دولة البلطيق وجمهورية الصين الشعبية منذ أغسطس الماضي عندما أعلنت ليتوانيا وتايوان أنهما ستفتتحان مكاتب تمثيلية مشتركة. وهذا التمييز مقبول من قبل جميع الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية. ومن خلال رفع تمثيل تايوان في فيلنيوس، قررت ليتوانيا تجاهل هذا الإجماع. ومع ذلك، لم تذهب حدّ تمكين الجزيرة من سفارة.

   تعد ليتوانيا مركزًا ماليًا رئيسيًا للتكنولوجيا، وترى مصلحة مؤكدة بإقامة روابط مع تايوان، وهي المزوّد الرئيسي لأشباه الموصلات والليزر وغيرها من الصناعات ذات تقنية عالية. وفي مقابلة مع “بي بي سي”، يعتقد نائب الوزير الليتواني مانتاس أدوميناس، أن بلاده “تؤكد على دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم”، وتعتبر تايوان “معقلًا مهمًا للغاية الديمقراطية”. ويضيف: “تايوان بلد تقدمي جدا، وديناميكي للغاية، ويظهر أفضل مزايا نظام السوق الحرة والنظام السياسي الديمقراطي».

مواجهة دبلوماسية
   ردت السلطات الصينية بسرعة على الإعلان الصادر في فيلنيوس. وتمثّل الإجراء الأول في استدعاء شين زيفي، السفير الصيني لدى ليتوانيا، إلى بكين. في 7 أغسطس، قبل مغادرته، نشر مقالًا في صحافة فيلنيوس المحلية اعتبر فيه أنه من المؤسف أن الحكومة الليتوانية “انتهكت بوقاحة مبدأ “الصين الواحدة”، والمعايير التي تحكم العلاقات الدولية مع تايوان».
   مباشرة، حث السياسيون الصينيون ديانا ميكيفيسيني، سفيرة ليتوانيا لدى الصين، على مغادرة البلاد.
 وكانت هذه الأخيرة قد وصلت لتوها إلى بكين، ومثل أي شخص يسافر من بلد إلى آخر في عصر كوفيد، كانت تحت الحجر الصحي الإلزامي طيلة 21 يومًا وفقًا للقواعد المعمول بها في الصين آنذاك.

 وأبلغت السلطات في البلاد انها “سأغادر حالما ينتهي الأمر وأستطيع التّنقّل».
   في فيلنيوس، تم التعبير عن “الأسف” لرد الفعل الصيني. وقالت وزارة الخارجية الليتوانية إنها “مصممة على تطوير علاقات تقوم على المنافع المتبادلة مع تايوان، ومع احترام مبدأ “صين واحدة”.
غير ان الوزارة الصينية لم تقبل وجهة النظر المتوازنة هذه وردت: “لا يمكن من ناحية أن نقول إننا نحترم مبدأ “صين واحدة”، ومن ناحية أخرى، تربطنا علاقات رسمية مكشوفة مع السلطات التايوانية.»

   ومع ذلك، لم يمنع غضب بكين اتمام العملية المعلنة. في 18 نوفمبر، افتتحت تايوان مكتبًا تمثيليًا في فيلنيوس، وأعربت الصين على الفور عن “سخطها الشديد”، وأخبرت أنها لن تكون ممثلة في فيلنيوس إلا من قبل “قائم بالأعمال” وليس سفيرا.
   بالتوازي، تم إخبار الدبلوماسيين الليتوانيين المتمركزين في بكين أنه سيتم إلغاء تأشيراتهم، وأنّ عليهم إعادة اعتمادهم. وهو الأمر الذي ردت عليه الحكومة الليتوانية بالطلب من التسعة عشر دبلوماسيًا مغادرة جمهورية الصين الشعبية بسبب “خطر على أمنهم”.

وفي 15 ديسمبر، استقلوا الطائرة برفقة عائلاتهم وعادوا إلى فيلنيوس.
  ببساطة، حرصت الحكومة الليتوانية على إعلان أنها “مستعدة لمواصلة الحوار مع الصين وإعادة وظائف سفارتها كاملة بمجرد التوصل إلى اتفاق مفيد للطرفين”. أما سفارة ليتوانيا في الصين فهي لم تغلق وانما، اشارت فيلنيوس، “تم تحييدها».

الصين تلوّح بالعقوبات الاقتصادية
    لكن الأزمة المفتوحة بين البلدين لم تقف عند هذا الحد. في 22 نوفمبر، أصدرت الحكومة الصينية بيانًا طويلاً: “نحث الجانب الليتواني على تصحيح أخطائه على الفور وعدم التقليل من إصرار الشعب الصيني وإرادته وقدرته على الدفاع عن السيادة الوطنية وسلامة أراضي بلاده”. وأضاف البيان، أن “الحكومة الليتوانية يجب أن تتحمل كل العواقب المترتبة عليها”، مضيفا أن أفعالها “شكلت سابقة سيئة على المسرح الدولي».
   وارسلت بكين انذارا إلى تايوان: “نحن نصدر أيضًا هذا التحذير الرسمي للسلطات التايوانية: تايوان لن تكون أبدًا دولة. وبغض النظر عن الكيفية التي تحاول بها قوى “استقلال تايوان” تشويه الحقائق وخلط الأبيض والأسود، فلا يمكن تغيير الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن البر الرئيسي وتايوان ينتميان إلى نفس الصين، وان أيّ محاولة للحصول على دعم أجنبي للتلاعب السياسي لن تفضي الى نتيجة».
   لم تقتصر الصين على هذه التصريحات الصارمة والحادة. وفي حركة انتقامية، فتحت المعركة بمهاجمة خصمها على الجبهة الاقتصادية. في 2 ديسمبر، أفادت وسيلة إعلام ليتوانية، أن ليتوانيا أعلنت أن الإدارة الصينية قامت بمسحها من سجلاتها الجمركية، مما منع بحكم الامر الواقع كل تجارة بين البلدين.

   غير ان القوة العالمية الثانية اختارت لحظتها بشكل سيئ: اتضح أن الاتحاد الأوروبي على بعد خمسة أيام من الكشف، في 8 ديسمبر، عن ترسانة من الإجراءات تهدف إلى تثبيط الحروب التجارية. فهل تراجعت الصين خوفا من أن تكون تجارتها مع أوروبا مستهدفة مباشرة من قبل المفوضية الأوروبية؟ في كل الاحوال، في 7 ديسمبر، عادت منتجات التصدير الليتوانية إلى الظهور على قوائم الجمارك الصينية، وأعلنت سلطات بكين وقوع “خلل فني”. في يوم 8، استخدمت المفوضية الأوروبية مثال دولة البلطيق للتأكيد على أهمية الاتحاد الأوروبي للدفاع عن مصالحه، وأعلنت أنها “مستعدة للوقوف ضد جميع أنواع الضغوط السياسية والإجراءات القهرية المتخذة ضد دولة عضو».

   ان ليتوانيا أقل ارتهانا من الدول الأوروبية الأخرى للاستثمار الصيني والتجارة مع جمهورية الصين الشعبية. لكن من المحتمل جدًا، في الأشهر المقبلة، أن يتم تعليق استيراد المنتجات الغذائية الليتوانية إلى الصين، واساسا منتجات الألبان. خاصة أن بكين قررت قطع خط الشحن بالسكك الحديدية بين الصين والاتحاد الأوروبي باتجاه ليتوانيا. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن الشركات الأوروبية التي تتعامل مع مزودين ليتوانيين يتم إبعادها تدريجياً عن المشتريات العامة الصينية.

ليتوانيا تهاجم الصين
 في نقاط ضعفها
   يتم تنظيم هزات ارتدادية متنوعة في فيلنيوس منذ أغسطس. فقد أصدر البرلمان ليتوانيا قرارًا لصالح الدفاع عن الأويغور وآخر للمطالبة باحترام حقوق الإنسان في هونغ كونغ.
   وتضرب ليتوانيا أيضًا في مجال التكنولوجيا. منذ يناير 2021، حظرت المعدات الأمنية الصينية في مطاراتها. وفي سبتمبر، أوصى مركز الأمن السيبراني الوطني الليتواني، وهو منظمة حكومية تعد جزءً لا يتجزأ من وزارة الدفاع، المستخدمين بالتخلي عن الهواتف المصنوعة في الصين، لأنها مزودة بنظام لجمع البيانات الشخصية ومراقبة بعض المحتويات. تنفي شركتا شاومى وهواوي الصينيتان ذلك. وتتمتع النماذج الصينية بميزة كونها الأرخص، فهي تزود حوالي 200 إدارة أو كيان عام في ليتوانيا. لذا فإن أي تعديل على قانون المشتريات العامة سيمنعهم قريبًا من شراء معدات تعتبر غير آمنة.
   بالإضافة إلى ذلك، منذ إنشائها عام 2012، شاركت ليتوانيا في مجموعة “17 + 1” التي تجمع دول وسط وشرق أوروبا إلى جانب الصين من أجل تطوير مشاريع مشتركة في إطار “طرق الحرير الجديدة”. ومن “17 + 1”، أصبحت “16 + 1”: في مايو، انسحبت فيلنيوس من المجموعة. وقبل شهرين، شكك غابريليوس لاندسبيرجيس، وزير خارجية ليتوانيا، في المصلحة من المشاركة في هذه المجموعة، معتبراً أنها “ليست مفيدة لأوروبا”، وليست سوى عامل “انقسام».
   ليتوانيا، وهي دولة صغيرة على بحر البلطيق، مصممة على إظهار معارضة شديدة للصعود الصاروخي للصين. حتى أنه يوجد لدى قادتها أمل في جذب المستثمرين الذين يرغبون في نقل إنتاجهم إلى أوروبا بعد تثبيته في الصين. وكتبت “أخبار الأعمال”، إحدى الصحف الاقتصادية البارزة في فيلنيوس، في 20 مايو، أنه “من خلال الاستعداد بشكل صحيح، والتحرك في الوقت المناسب، يمكن لليتوانيا أن تجتذب استثمارات كبيرة، بل وتصبح الصين الصغيرة في أوروبا”. وزير الخارجية الليتواني، غابريليوس لاندسبيرجيس، اوضح في مقابلة مع وكالة فرانس برس في 24 نوفمبر، إن “أحد أكبر الدروس التي يمكن لليتوانيا تقديمها، هو أن التخويف الاقتصادي لا يجبر بالضرورة بلدًا على التراجع عن اتخاذ قراراته في السياسة الخارجية بشكل مستقل».

رغبة في المقاومة لا
تحظى بالإجماع في أوروبا
   وإذا كان موقف الحكومة الليتوانية يتمتع بصدى جيد، خاصة في الدول الاسكندنافية، فليس هناك ما يشير إلى أن سياستها تجاه الصين ستكسبها دعمًا إيجابيًا بين الحكومات الأوروبية. في قضية أخرى، دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، التي ستقام في الفترة من 4 إلى 20 فبراير، وجدت ليتوانيا نفسها وحيدة في الدفاع عن المقاطعة الدبلوماسية. وهكذا انضمت إلى الموقف الذي أطلقته الولايات المتحدة وبدعم من عدة دول أنجلو ساكسونية، لكنها لم تجد حلفاء في الاتحاد الأوروبي.
من ناحية أخرى، منذ يونيو الماضي، تواجه ليتوانيا صعوبة كبيرة: على غرار بولندا، يجب أن تحتوي تدفّقا غير مسبوق للاجئين من العراق وسوريا ارسلهم إلى حدودها الرئيس البيلاروسي المتهم بقيادة “حرب هجينة”.
 فبالنسبة لألكسندر لوكاشينكو، يتعلق الأمر بالرد على حكومة فيلنيوس، التي توافق بشكل منهجي على العقوبات الأوروبية ضد مينسك والتي، بالإضافة إلى ذلك، استقبلت العديد من المعارضين للنظام البيلاروسي. منذ 9 نوفمبر، فرضت ليتوانيا حالة الطوارئ لأول مرة منذ استقلالها على طول 670 كيلومترًا من حدودها مع بيلاروسيا.
   أما بالنسبة للنظام الصيني، وفي سياق تراجع شعبيته الدولية إلى أدنى مستوياتها، فهو يواصل غضبه، ويخشى الخطر الذي يمثله في نظره موقف حكومة فيلنيوس الذي يمكن أن يصبح نموذجا تقدمه ليتوانيا لبلدان اخرى.
  من المحتمل ألا تتوقف الدعاية الصينية في الأشهر المقبلة، تنديدا بسلوك هذا البلد المطل على بحر البلطيق مع المخاطرة برفع أسهم ليتوانيا ومزيد تسليط الأضواء عليها.