يمزج التحقيق البوليسي، بسوداوية الجريمة والتساؤلات الوجودية

ليلة الثاني عشر.. غموض وتشويق لتفكيك أسرار الجريمة

ليلة الثاني عشر..  غموض وتشويق  لتفكيك أسرار الجريمة

يتبدّى تدبير التركيز المزدوج على عيش رجال الشرطة، والتحقيق في جريمة قتل تحصل، في قلب مقاربة "ليلة الثاني عشر" (2022) لدومينيك مول (نال 7 جوائز "سيزار" في 24 فبراير/ شباط 2023، بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج)، منذ المشهد الأول، المتمحور حول حفلة مغادرة عميد شرطة مُحال على التقاعد، ولوحة الـ"جينريك" التي تسبقه، مُعلنةً عن أن 800 تحقيق في جرائم قتل تُفتح كلّ عام في فرنسا، 20 بالمائة منها تظلّ غير محلولة، وأنّ ما سنراه مستوحى من إحداها.
 
يندرج الفيلم في تقليد سينمائي عريق، يمزج التحقيق البوليسي، وما يحمله من غموض وتشويق، بسوداوية الجريمة والتساؤلات الوجودية التي يستدعيها التفكير في دوافعها. وإذْ يتبنّى السيناريو (جيل مارشان وأوليفييه مارغوري ودومينيك مول) مفاتيح معتادة للنوع الهجين هذا، كالتداعيات المدمِّرة للتحقيق في جرائم القتل على التوازن النفسي لرجال الشرطة، وحياتهم العاطفية، يبلور تصوّراً، فيه جدّة، يجعل من التحقيق في جريمة قتل شابّة جميلة في منطقة "سان ـ جان ـ دي ـ موريان" الجبلية استعارةً عن خَطب غير سوي يعتري العلاقة بين الرجال والنساء اليوم، بطرحه أسئلة كثيرة عن المتّهمين، وخلفياتهم السوسيولوجية المختلفة.
 
تبقى نقطة القوّة الأساسية للسيناريو، المقتبس عن كتاب "18.3 ـ عامٌ برفقة شرطة التحقيق" (2020) لبولين غينا، مقاربةً تتلافى السقوط في بعض فخاخ عصرنا، كمانوية المقاربات النسوية، أو تسطيح النظرة الذكورية للأشياء.
 
تلقى الشابّة كلارا حتفها مُختنقةً، بعد تعرّضها للحرق في متنزهٍ على يديّ رجل مجهول، عند عودتها من منزل صديقتها، في ساعة متأخرة من ليل 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2016. يتولّى يوهان (باستيان بويّون)، مُحقّق الشرطة القضائية، التحقيق في جوّ من التوتر، عماده التنافس الاعتيادي بين الشرطة والدرك في فرنسا، وعوائق قلّة الإمكانات المتاحة للفريق. تنافس لا يلبث أنْ يؤجّجه نزوع مساعده مارسو (بولي لانّيرز) إلى النرفزة في الاستنطاقات، قبل أنْ يُصارحه هذا الأخير بقرب انفصاله عن زوجته، ليأخذ بُعد الحياة الخاصة للمحقِّقَين أهمية متزايدة في الحكي، يصبح بموجبها وجهاً آخر لعملة السوداوية المرتبطة بالجريمة، التي تلفّ الطرح.نلملم، على طريقة البازل، تفاصيل حياة كلارا، التي تتشكّل بالتوازي مع تنامي الغموض حول هوية القاتل، من بين رجال كثيرين أحبّتهم أو واعدتهم سابقاً، ما يذكّر بلورا بالمر، مغدورة مَعْلَمة مسلسلات الجريمة والغموض "توين بيكس" (1990 ـ 1991) لديفيد لينش، قبل أن يذهب تطوّر العثور على فيديو، التقطته القتيلة قبل ثوانٍ من مصرعها، إلى نوع من التّحيين لفكرة "بلو آبْ" (1966) لمايكل آنجلو أنتونيوني، ونزعة البحث عن الحقيقة في خلفيات الصُور، التي تحمل مزيداً من التساؤلات المحيّرة.
 
تنوّع المتهمين بقتل كلارا، بين الشاب المرهف، الحريص على إخفاء علاقاته السابقة عن رفيقته، واليافع ذي التصرّفات الكلبية، الذي لا يستطيع كتم ضحكته، رغم هول الجريمة محور الاستنطاق، وهاوي موسيقى الـ"راب"، الذي لا يزن انعكاسات كلمات أغانيه العنيفة، وغريب الأطوار، الذي لا يجد غضاضة في الاعتراف بمضاجعة شابة مدمنة، يجد صداه في تباين شخصيتَي المحقِّقَين: يوهان، المتحكّم في مشاعره (ظاهرياً على الأقل)، الذي لا يفتأ يُذكّر بضرورة الاقتصار على الحقائق، وعدم إقحام المشاعر في مجريات التحقيق، ومارسو، الرومانسي الذي يستشهد بأبيات من قصيدة لبول فيرلين، تقول بلغة الشعر وحدة مُحققَين هائمين في ليل الجريمة البهيم: "في المتنزه العتيق، المتجمّد والوحيد، مرّ ظلّان قبل هنيهة. عيونهما ميّتة، وشفاههما مرتخية. نسمع بالكاد كلامهما. في المتنزه العتيق، المتجمّد والوحيد، طيفان تجاذبا الماضي".
 
هناك جدليةٌ عميقة بين يوهان، الشاب الطموح، الذي يظنّ أنّ العالم يمكن أن يُستوعَب بمنظار الحقائق والمنطق، فيلفي نفسه وسط حلقة مفرغة (تتمثّلها، ببراعة، مشاهد طوافه المحموم في مدار الدراجات الهوائية)، ومارسو، الكهل الساعي إلى فهم ما وراء الأشياء (حتى التدخّل في سيرها يفشل)، والبحث عن حيّز توافق بين مسحة روحانية ومهنةٍ جاحدة، ترمي أبناءها في الهاوية، التي تُعبّر عنها جملة الحوار، عندما يتعطّل لسان يوهان عن النطق، حين يرى صورة للضحية طفلةً، مع قطّها الأسود، فيتحدّث عن "شعور الثقب الأسود".
 
ديناميكية القلب والعقل، التي تحرّك حبكة "ليلة الثاني عشر"، تكمن أيضاً خلف خطاب النوع، على غرار "مذكّرات القتل" (2003) لبونغ جون هو، و"حدث ذات مرّة في الأناضول" (2011) لنوري بيلغي جيلان.
رغم أن دومينيك مول يطرح إشكالات حارقة، منها الثقافة الذكورية التي تُحمّل الأنثى مسؤولية الجرائم، حتّى تلك التي تسقط ضحية لها (مشهد الملاسنة الحادّة بين يوهان وأحد أعضاء فريقه، تعجّب من كيف أنّ الضحية لا تعشق سوى المخبولين، مُلمّحاً إلى أنّها "ربما بحثت عمّا وقع لها")، فإنّه يفعل ذلك برهافةٍ، تنوء به عن التناول البرهاني أو المتشنّج.
 
يعانق "ليلة الثاني عشر" أفقاً جمالياً رحباً، يلامس بفضله دواخل شخصياته، ويفرد أمام المشاهد طرحاً مُعقّداً وغير أحادي، لا يستعين بالانقلابات الدرامية التي تشكّل عصب أفلام التحقيق، سوى للتنبيه إلى خطورة الأحكام المسبقة، أو لاستكشاف أعمق لغياهب النفس البشرية، المتأرجحة بين كابوس إضرام النار في جسدٍ حيّ، ونهاية مفتوحة على ملائكية أنْ تتعاطف مع إنسانٍ لم تلتق به يوماً، كأنّه حبيبٌ مُقرّب.
 
 

Daftar Situs Ladangtoto Link Gampang Menang Malam ini Slot Gacor Starlight Princess Slot