رئيس الدولة ورئيس الوزراء البريطاني يبحثان هاتفياً التطورات الإقليمية
لأسباب تاريخية وثقافية ودبلوماسية:
هل كان فسخ أستراليا «لعقد القرن» مفاجئًا...؟
-- أخطأت فرنسا حين اعتقدت أن بإمكانها تحويل أكثر من 200 عام من التاريخ الدبلوماسي الأسترالي لصالحها
-- تستضيف أستراليا على أراضيها قواعد أميركية، وتعتبرهــا بكـين دولـــة تــدور في فــلك واشــنطن
-- كانبيرا هنا مجرد بيدق صغير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه فرنسا وخاصة الاتحاد الأوروبي
-- أدت التوترات القوية مع الصين على مدى السنوات الثلاث الماضية إلى عودة أستراليا إلى الحظيرة الأمريكية
بالنسبة إلى كانبيرا، المعضلة بسيطة: التصرف كدولة ذات سيادة واحترام العقد مع فرنسا، أو إعطاء الأولوية لأمنها وعلاقتها العريقة بواشنطن.
إذا كان إنشاء تحالف اوكوس الجديد -أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة -يمثل “ضربة في الظهر” لفرنسا، و “خيانة” لا يمكن تصورها “بين حلفاء”، فإن إلغاء أستراليا من جانب واحد لعقد شراء الغواصات الفرنسية يشكل، من جانبه، إهانة للدبلوماسية الفرنسية. لكن هل كان هذا الإلغاء غير متوقع؟ الجواب لا، لعدة أسباب تاريخية وثقافية ودبلوماسية.
رهانات العقد لفرنسا
نستحضر بداية، رهانات “عقد القرن” الشهير هذا، الذي تم التصديق على اتفاقيته من حيث المبدأ بين باريس وكانبيرا في أبريل 2016، قبل التوقيع الرسمي في ديسمبر من العام نفسه. رأس حربة هذه السياسة الاستراتيجية، كان على فرنسا أن تزود أستراليا بغواصات باراكودا تعمل بالديزل والكهرباء بقيمة 34 مليار يورو، مع التزام مجموعة نافال على مدى خمسة وعشرين عامًا.
بالنسبة لفرنسا، كان الأمر يتعلق بتطوير شراكة رئيسية مع أهم دولة في جنوب المحيط الهادئ، وهي شراكة كان من المفترض أن تبني توافقا وثيقا ودائما على مدى نصف قرن، وبالتالي تقوية الشبكة الدبلوماسية والاستراتيجية والعسكرية الفرنسية في فضاء في قلب كل التجاذبات.
هذه الخطة، التي في الوقت نفسه حكيمة -لأنها تقترح طريقا دبلوماسيا ثالثا للمنطقة، متحررا من الكمّاشة الصينية الأمريكية -وطموحة -لأنها تهدف إلى إعطاء قوة غير مسبوقة من الامتداد لفرنسا “وفي فلكها أوروبا” في منطقة المحيطين الهندي والهادئ –تتضمن مع ذلك، نقطتي ضعف نسفتا الخطة والطموحات الفرنسية.
الولايات المتحدة
في المحيط الهادئ
أولاً، تجدر الإشارة إلى أنه لئن تظل أوقيانوسيا أصغر قارة اقتصاديًا وديموغرافيًا حتى يومنا هذا، فقد سيطرت عليها الولايات المتحدة وتراقبها منذ عام 1945، ولديها شبكة من القواعد العسكرية في جميع أنحاء المنطقة، وأقاليم خاصة وجمعيات سياسية قديمة، وولاية تابعة لاتحادها.
مستفيدة من التراجع النسبي لوجودها في المحيط الهادئ تحت إدارة أوباما “التي كان جو بايدن نائبًا للرئيس فيها”، شدّدت الصين إلى حد كبير سياستها التوسعية في المنطقة، مما أدى بدوره، خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى تحوّل أمريكي.
هنا وفي هذا المكان، تدخل الورقة الأسترالية المباراة. يريد الأمريكيون إلغاء العقد الذي وقعته كانبيرا مع فرنسا واستبداله بعقد أبرم مع واشنطن -مما سيسمح لهم بضمان سيطرتهم على أسطول من الغواصات سيتولون بناءه بأنفسهم.
وهكذا تعود الولايات المتحدة إلى عقيدة “معنا أو ضدنا” التي بدأت عام 2001: لم يعد بإمكانها، بالتالي، أن تتسامح مع طريق ثالث في المحيط الهادئ. إن عدم المرونة الأمريكية، لن يؤدي إلا إلى تصعيد التوترات بين واشنطن وبكين. بالإضافة إلى ذلك، سينتج عنه سلوك غير ودي من قبل الولايات المتحدة تجاه حلفائها، بدءًا من فرنسا.
أستراليا البريطانية
تبحث عن الأخ الأكبر
ثانيًا، كان كل من كاي دورسيه والإليزيه، ضحيتين لجهلهما الخاص بذهنيّة الأستراليين من خلال الاعتقاد بأن بإمكان فرنسا تحويل أكثر من 200 عام من التاريخ الدبلوماسي الأسترالي لصالحها.
نذكّر هنا أن أستراليا المعاصرة هي نتاج مستعمرة ترحيل من السجون أقامها البريطانيون عام 1788. وتم إنشاء مستعمرات أخرى تدريجيًا، ثم اتحدوا عام 1901، ولا يزالون داخل الإمبراطورية البريطانية، مما أعطى أستراليا الهيكل الفيدرالي الذي نعرفه اليوم. وتحظر القوانين الأولى التي أقرها البرلمان الشاب، الدخول الى الأراضي الأسترالية على الأشخاص الذين تم إعلان أنهم ليسوا من البيض، وهم في الواقع أشخاص غير أنجلو ساكسون.
خلال الحرب العالمية الأولى، قاتلت القوات الأسترالية كجزء من الجيش البريطاني الذي كان يسيطر عليها من البداية إلى النهاية. ونظرًا لكون أستراليا تابعا مخلصًا لصاحبة الجلالة، تظل إليزابيث الثانية رئيسة دولتها حتى يومنا هذا. ومن عام 1788 إلى عام 1941، تم ضمان أمن أستراليا بالكامل من قبل البحرية الملكية وعدد قليل من الفرقاطات الأسترالية الصغيرة.
رجّة عام 1941: تخلى البريطانيون عن القفل العسكري الذي تشكله سنغافورة، وبحكم الأمر الواقع، عن أي التزام في شرق هذه المنطقة، مما فاجأ الأستراليين الذين وجدوا أنفسهم بلا حماية في مواجهة خطر رؤية الزحف الياباني فوق المحيط الهادئ. ومقتنعة “بشكل خطأ، من الواضح” بقرب اجتياح وغزو ياباني، أقامت أستراليا خطًا للتخلي عن أراضيها الشمالية وسحب سكانها، طالبة رسميًا المساعدة من أمريكا عبر موجات الراديو.
بعد إذلال بيرل هاربور، كانت الولايات المتحدة تبحث عن قواعد في المحيط الهادئ. النتيجة: بين 1942 و1945، كان واحد من كل عشرة أشخاص على الأراضي الأسترالية هو جندي أمريكي. ومن بريطانية في الأصل، أصبحت أستراليا أمريكية، وغيّر الأستراليون بسعادة عاداتهم الثقافية والاستهلاكية وخاصة سياستهم الدبلوماسية.
وبعد ثمانين عامًا، لا يزال منعطف 1941-1942 يشكل بعمق خيارات أستراليا الجيوستراتيجية.
في نهاية الحرب العالمية الثانية، بذل الأستراليون قصارى جهدهم لمواصلة الاستفادة من حماية الولايات المتحدة. ولما كان عدد سكان البلاد يبلغ 8 ملايين نسمة فقط، قررت كانبيرا الشروع في سياسة رمزية تسمى “الإعمار أو الموت”، من خلال فتح حدودها أمام غير الأنجلو ساكسون منذ عام 1945 و “لغير البيض” في السبعينات.
عضو مؤسس عام 1951 لـ “أنزوس” “تحالف مع الولايات المتحدة وجارتها نيوزيلندا”، أصبحت أستراليا حجر الزاوية لنظام الدفاع الصاروخي الأمريكي ونظام الاستماع في المحيط الهادئ خلال الحرب الباردة، مما يجعلها هدفًا رئيسيًا لموسكو في حال اندلاع حرب نووية. ولا تزال تستضيف على أراضيها قواعد أميركية رئيسية وعملية، بما يصنّفها منذ أمد بعيد في عيون بكين دولة تدور في فلك واشنطن.
العقيدة الدبلوماسية
لـ “ أصدقاء كبار وأقوياء»
ومن هذا المنطلق، فإن إلغاء العقد العملاق مع مجموعة نافال، لئن كان عنيفا وصادما، فانه ليس مفاجئًا تمامًا، خاصة أن الأستراليين عبّروا، حسب قولهم، عن استيائهم لباريس في عدة مناسبات. إن التصور السائد في فرنسا لتغيير في الاستراتيجية، هو في الواقع نهج متماسك لأستراليا، بما يتماشى مع 200 عام من التقاليد الدبلوماسية الأسترالية التي يدعمها السكان المحليون.
لنكن واضحين: التحالف الذي اقترحته فرنسا، لئن كان جديرًا بالثناء، فهو مع ذلك شاذا وغير عادي. لقد كانت تلك اللحظة مجرد قوس، فقد أدت التوترات القوية مع الصين على مدى السنوات الثلاث الماضية، إلى عودة أستراليا إلى الحظيرة الأمريكية على الدوام. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الدبلوماسية الأسترالية تقوم بالكامل على مبدأ “الأصدقاء الكبار والأقوياء”. حتى عام 1942، مع التصديق على قانون وستمنستر من قبل البرلمان الأسترالي، كانت القرارات الدبلوماسية للبلاد تتخذ في لندن لأن أستراليا كانت دومينيون. ومنذ عام 1945، هذه القرارات نفسها تُتخذ دائمًا بالاتفاق مع واشنطن. لقد تبعت أستراليا الأمريكيين إلى كوريا وفيتنام والعراق –1990 ثم 2003-وأفغانستان. ورغم الوحدات المتواضعة للغاية، ولكن المنطقية في ضوء قلة عدد السكان، فإن الدعم الأسترالي يسمح للولايات المتحدة بإخفاء أفعالها كائتلاف دولي.
بين الأمن والسيادة،
اختارت أستراليا
في ظل هذه الظروف، كيف اعتقدت باريس أنها يمكن أن تقلب هذا الولاء وتقلب هذه العقلية الاستعمارية الراسخة بقوة في أستراليا؟
كان مشروع فرنسا العسكري والدبلوماسي مع أستراليا طموحًا رائعًا، ولكن لسوء الحظ يعكس أيضًا نقصًا في الوعي بما يعتبره الأستراليون التحديات الرئيسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ترغب فرنسا في الحفاظ على السلام في المنطقة، وتعتقد أستراليا، عن حق أو خطأ، أن حربًا محتملة للغاية بين الصين وتايوان -وبالتالي بين الصين والأمريكيين، والتي سيقدم الأستراليون دعمهم لها.
بالنسبة لفرنسا، السيادة هي ألفا وأوميغا لجميع تحركاتها الدولية، في تقليد ديغولي يتقاسمه الطيف السياسي الفرنسي بأكمله. ومفهوم السيادة هذا يعتبر إطارًا ضروريًا للعمل بالنسبة للعديد من المسؤولين الفرنسيين. ومع ذلك، فإن أستراليا لم تكن أبدًا ذات سيادة حقيقية بالمعنى الذي نتصور به هذه الفكرة ونفهمها. بل هي لا تريد ذلك، لأن ما يهم الأستراليين ليس السيادة بقدر ما هو الأمن، عن خيال أو حقيقة. وفي هذا الصدد، لا تتمتع فرنسا بالمكانة ولا تملك القدرات العسكرية للولايات المتحدة، لربط أستراليا بسياستها في المحيطين الهندي والهادئ.
يشجع نهب أراضي السكان الأصليين والموقع الجغرافي لأستراليا، مواطنيها على التفكير في أنهم تحت الحصار منذ عام 1788. منذ تلك الحقبة، يصرخ الناس بأن الفرنسيين يريدون غزو القارة، ثم انزعجوا من الميول الروسية واليابانية، وأخيرا الصينية... ان مخيال الغزو لا يزال قويا.
«عقدة مسعدة” هذه، تضعف إلى حد كبير إمكانية أن تصبح دولة مكتفية ذاتيا وغير منحازة، تسعى أستراليا للحماية قبل كل شيء، حتى لو كان ذلك يعني إثارة غضب الحلفاء وتحويلهم إلى أعداء. وسيحدد التاريخ ما إذا كانت أستراليا قد اتخذت القرار الصحيح واحسنت الاختيار. إن الأستراليين، في كل الحالات، مقتنعون بأنه لا يوجد إمكان اخر. وفي الانتظار، من الواضح أن كانبيرا تعزل نفسها في المحيط الهادئ، بعد أن عبرت نقطة اللاعودة من خلال تعزيز تشابك فاعلية أسلحتها مع أسلحة الجيش الأمريكي.
بعد أن أغرتها التعددية القطبية لفترة وجيزة، تراجعت الولايات المتحدة ونفضت الغبار عن الكتلة الأنجلو ساكسونية القديمة التي كانت، في الماضي، قادرة على الإضرار بأوروبا القارية، وعلى وجه الخصوص بتطورها السياسي. لذلك يجب ألا نخطأ الهدف: فكانبيرا هنا ليست سوى بيدق صغير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه فرنسا وخصوصا، الاتحاد الأوروبي.
في الماضي، قامت أستراليا فقط بالانتقال من نفوذ وتأثير إلى آخر. لم تسر كانبيرا بمفردها أبدًا، مدركة أنه لا وزن لها على الساحة الدولية. في الاثناء، وهذا ما يبدو سخيفًا وغير مفهوم لباريس، هي لا تريد أن تمنح نفسها الوسائل للقيام بذلك من خلال تطوير أنظمة دفاع مستقلة خاصة بها. ومن المفارقات، وفيما يتجاوز الخطاب القومي، أن كانبيرا تبدو غير قادرة على اعتبار نفسها “أسترالية”، أي أنها تمتلك مصيرها الذاتي والمستقل في القرن الحادي والعشرين.
وعلى العكس من ذلك، ترى أستراليا نفسها دائما وأبدا كجزيرة تبحث عن حام وحماية، وفي نظرها لا تستطيع فرنسا لعب هذا الدور بين الصين والولايات المتحدة. ولكل هذا، فإن الافتقار إلى الثقة بالنفس، والافتقار إلى الوسائل، وخصوصا، الافتقار إلى الاستثمار وتطوير الصناعات الاستراتيجية الذاتية، هو الذي يحكم اليوم على أستراليا بدور الأمّة -الطفل.
أستاذ محاضر في التاريخ في جامعة فلندرز-أستراليا، وباحث مشارك في مركز التاريخ ساينس بو باريس
-- تستضيف أستراليا على أراضيها قواعد أميركية، وتعتبرهــا بكـين دولـــة تــدور في فــلك واشــنطن
-- كانبيرا هنا مجرد بيدق صغير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه فرنسا وخاصة الاتحاد الأوروبي
-- أدت التوترات القوية مع الصين على مدى السنوات الثلاث الماضية إلى عودة أستراليا إلى الحظيرة الأمريكية
بالنسبة إلى كانبيرا، المعضلة بسيطة: التصرف كدولة ذات سيادة واحترام العقد مع فرنسا، أو إعطاء الأولوية لأمنها وعلاقتها العريقة بواشنطن.
إذا كان إنشاء تحالف اوكوس الجديد -أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة -يمثل “ضربة في الظهر” لفرنسا، و “خيانة” لا يمكن تصورها “بين حلفاء”، فإن إلغاء أستراليا من جانب واحد لعقد شراء الغواصات الفرنسية يشكل، من جانبه، إهانة للدبلوماسية الفرنسية. لكن هل كان هذا الإلغاء غير متوقع؟ الجواب لا، لعدة أسباب تاريخية وثقافية ودبلوماسية.
رهانات العقد لفرنسا
نستحضر بداية، رهانات “عقد القرن” الشهير هذا، الذي تم التصديق على اتفاقيته من حيث المبدأ بين باريس وكانبيرا في أبريل 2016، قبل التوقيع الرسمي في ديسمبر من العام نفسه. رأس حربة هذه السياسة الاستراتيجية، كان على فرنسا أن تزود أستراليا بغواصات باراكودا تعمل بالديزل والكهرباء بقيمة 34 مليار يورو، مع التزام مجموعة نافال على مدى خمسة وعشرين عامًا.
بالنسبة لفرنسا، كان الأمر يتعلق بتطوير شراكة رئيسية مع أهم دولة في جنوب المحيط الهادئ، وهي شراكة كان من المفترض أن تبني توافقا وثيقا ودائما على مدى نصف قرن، وبالتالي تقوية الشبكة الدبلوماسية والاستراتيجية والعسكرية الفرنسية في فضاء في قلب كل التجاذبات.
هذه الخطة، التي في الوقت نفسه حكيمة -لأنها تقترح طريقا دبلوماسيا ثالثا للمنطقة، متحررا من الكمّاشة الصينية الأمريكية -وطموحة -لأنها تهدف إلى إعطاء قوة غير مسبوقة من الامتداد لفرنسا “وفي فلكها أوروبا” في منطقة المحيطين الهندي والهادئ –تتضمن مع ذلك، نقطتي ضعف نسفتا الخطة والطموحات الفرنسية.
الولايات المتحدة
في المحيط الهادئ
أولاً، تجدر الإشارة إلى أنه لئن تظل أوقيانوسيا أصغر قارة اقتصاديًا وديموغرافيًا حتى يومنا هذا، فقد سيطرت عليها الولايات المتحدة وتراقبها منذ عام 1945، ولديها شبكة من القواعد العسكرية في جميع أنحاء المنطقة، وأقاليم خاصة وجمعيات سياسية قديمة، وولاية تابعة لاتحادها.
مستفيدة من التراجع النسبي لوجودها في المحيط الهادئ تحت إدارة أوباما “التي كان جو بايدن نائبًا للرئيس فيها”، شدّدت الصين إلى حد كبير سياستها التوسعية في المنطقة، مما أدى بدوره، خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى تحوّل أمريكي.
هنا وفي هذا المكان، تدخل الورقة الأسترالية المباراة. يريد الأمريكيون إلغاء العقد الذي وقعته كانبيرا مع فرنسا واستبداله بعقد أبرم مع واشنطن -مما سيسمح لهم بضمان سيطرتهم على أسطول من الغواصات سيتولون بناءه بأنفسهم.
وهكذا تعود الولايات المتحدة إلى عقيدة “معنا أو ضدنا” التي بدأت عام 2001: لم يعد بإمكانها، بالتالي، أن تتسامح مع طريق ثالث في المحيط الهادئ. إن عدم المرونة الأمريكية، لن يؤدي إلا إلى تصعيد التوترات بين واشنطن وبكين. بالإضافة إلى ذلك، سينتج عنه سلوك غير ودي من قبل الولايات المتحدة تجاه حلفائها، بدءًا من فرنسا.
أستراليا البريطانية
تبحث عن الأخ الأكبر
ثانيًا، كان كل من كاي دورسيه والإليزيه، ضحيتين لجهلهما الخاص بذهنيّة الأستراليين من خلال الاعتقاد بأن بإمكان فرنسا تحويل أكثر من 200 عام من التاريخ الدبلوماسي الأسترالي لصالحها.
نذكّر هنا أن أستراليا المعاصرة هي نتاج مستعمرة ترحيل من السجون أقامها البريطانيون عام 1788. وتم إنشاء مستعمرات أخرى تدريجيًا، ثم اتحدوا عام 1901، ولا يزالون داخل الإمبراطورية البريطانية، مما أعطى أستراليا الهيكل الفيدرالي الذي نعرفه اليوم. وتحظر القوانين الأولى التي أقرها البرلمان الشاب، الدخول الى الأراضي الأسترالية على الأشخاص الذين تم إعلان أنهم ليسوا من البيض، وهم في الواقع أشخاص غير أنجلو ساكسون.
خلال الحرب العالمية الأولى، قاتلت القوات الأسترالية كجزء من الجيش البريطاني الذي كان يسيطر عليها من البداية إلى النهاية. ونظرًا لكون أستراليا تابعا مخلصًا لصاحبة الجلالة، تظل إليزابيث الثانية رئيسة دولتها حتى يومنا هذا. ومن عام 1788 إلى عام 1941، تم ضمان أمن أستراليا بالكامل من قبل البحرية الملكية وعدد قليل من الفرقاطات الأسترالية الصغيرة.
رجّة عام 1941: تخلى البريطانيون عن القفل العسكري الذي تشكله سنغافورة، وبحكم الأمر الواقع، عن أي التزام في شرق هذه المنطقة، مما فاجأ الأستراليين الذين وجدوا أنفسهم بلا حماية في مواجهة خطر رؤية الزحف الياباني فوق المحيط الهادئ. ومقتنعة “بشكل خطأ، من الواضح” بقرب اجتياح وغزو ياباني، أقامت أستراليا خطًا للتخلي عن أراضيها الشمالية وسحب سكانها، طالبة رسميًا المساعدة من أمريكا عبر موجات الراديو.
بعد إذلال بيرل هاربور، كانت الولايات المتحدة تبحث عن قواعد في المحيط الهادئ. النتيجة: بين 1942 و1945، كان واحد من كل عشرة أشخاص على الأراضي الأسترالية هو جندي أمريكي. ومن بريطانية في الأصل، أصبحت أستراليا أمريكية، وغيّر الأستراليون بسعادة عاداتهم الثقافية والاستهلاكية وخاصة سياستهم الدبلوماسية.
وبعد ثمانين عامًا، لا يزال منعطف 1941-1942 يشكل بعمق خيارات أستراليا الجيوستراتيجية.
في نهاية الحرب العالمية الثانية، بذل الأستراليون قصارى جهدهم لمواصلة الاستفادة من حماية الولايات المتحدة. ولما كان عدد سكان البلاد يبلغ 8 ملايين نسمة فقط، قررت كانبيرا الشروع في سياسة رمزية تسمى “الإعمار أو الموت”، من خلال فتح حدودها أمام غير الأنجلو ساكسون منذ عام 1945 و “لغير البيض” في السبعينات.
عضو مؤسس عام 1951 لـ “أنزوس” “تحالف مع الولايات المتحدة وجارتها نيوزيلندا”، أصبحت أستراليا حجر الزاوية لنظام الدفاع الصاروخي الأمريكي ونظام الاستماع في المحيط الهادئ خلال الحرب الباردة، مما يجعلها هدفًا رئيسيًا لموسكو في حال اندلاع حرب نووية. ولا تزال تستضيف على أراضيها قواعد أميركية رئيسية وعملية، بما يصنّفها منذ أمد بعيد في عيون بكين دولة تدور في فلك واشنطن.
العقيدة الدبلوماسية
لـ “ أصدقاء كبار وأقوياء»
ومن هذا المنطلق، فإن إلغاء العقد العملاق مع مجموعة نافال، لئن كان عنيفا وصادما، فانه ليس مفاجئًا تمامًا، خاصة أن الأستراليين عبّروا، حسب قولهم، عن استيائهم لباريس في عدة مناسبات. إن التصور السائد في فرنسا لتغيير في الاستراتيجية، هو في الواقع نهج متماسك لأستراليا، بما يتماشى مع 200 عام من التقاليد الدبلوماسية الأسترالية التي يدعمها السكان المحليون.
لنكن واضحين: التحالف الذي اقترحته فرنسا، لئن كان جديرًا بالثناء، فهو مع ذلك شاذا وغير عادي. لقد كانت تلك اللحظة مجرد قوس، فقد أدت التوترات القوية مع الصين على مدى السنوات الثلاث الماضية، إلى عودة أستراليا إلى الحظيرة الأمريكية على الدوام. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الدبلوماسية الأسترالية تقوم بالكامل على مبدأ “الأصدقاء الكبار والأقوياء”. حتى عام 1942، مع التصديق على قانون وستمنستر من قبل البرلمان الأسترالي، كانت القرارات الدبلوماسية للبلاد تتخذ في لندن لأن أستراليا كانت دومينيون. ومنذ عام 1945، هذه القرارات نفسها تُتخذ دائمًا بالاتفاق مع واشنطن. لقد تبعت أستراليا الأمريكيين إلى كوريا وفيتنام والعراق –1990 ثم 2003-وأفغانستان. ورغم الوحدات المتواضعة للغاية، ولكن المنطقية في ضوء قلة عدد السكان، فإن الدعم الأسترالي يسمح للولايات المتحدة بإخفاء أفعالها كائتلاف دولي.
بين الأمن والسيادة،
اختارت أستراليا
في ظل هذه الظروف، كيف اعتقدت باريس أنها يمكن أن تقلب هذا الولاء وتقلب هذه العقلية الاستعمارية الراسخة بقوة في أستراليا؟
كان مشروع فرنسا العسكري والدبلوماسي مع أستراليا طموحًا رائعًا، ولكن لسوء الحظ يعكس أيضًا نقصًا في الوعي بما يعتبره الأستراليون التحديات الرئيسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ترغب فرنسا في الحفاظ على السلام في المنطقة، وتعتقد أستراليا، عن حق أو خطأ، أن حربًا محتملة للغاية بين الصين وتايوان -وبالتالي بين الصين والأمريكيين، والتي سيقدم الأستراليون دعمهم لها.
بالنسبة لفرنسا، السيادة هي ألفا وأوميغا لجميع تحركاتها الدولية، في تقليد ديغولي يتقاسمه الطيف السياسي الفرنسي بأكمله. ومفهوم السيادة هذا يعتبر إطارًا ضروريًا للعمل بالنسبة للعديد من المسؤولين الفرنسيين. ومع ذلك، فإن أستراليا لم تكن أبدًا ذات سيادة حقيقية بالمعنى الذي نتصور به هذه الفكرة ونفهمها. بل هي لا تريد ذلك، لأن ما يهم الأستراليين ليس السيادة بقدر ما هو الأمن، عن خيال أو حقيقة. وفي هذا الصدد، لا تتمتع فرنسا بالمكانة ولا تملك القدرات العسكرية للولايات المتحدة، لربط أستراليا بسياستها في المحيطين الهندي والهادئ.
يشجع نهب أراضي السكان الأصليين والموقع الجغرافي لأستراليا، مواطنيها على التفكير في أنهم تحت الحصار منذ عام 1788. منذ تلك الحقبة، يصرخ الناس بأن الفرنسيين يريدون غزو القارة، ثم انزعجوا من الميول الروسية واليابانية، وأخيرا الصينية... ان مخيال الغزو لا يزال قويا.
«عقدة مسعدة” هذه، تضعف إلى حد كبير إمكانية أن تصبح دولة مكتفية ذاتيا وغير منحازة، تسعى أستراليا للحماية قبل كل شيء، حتى لو كان ذلك يعني إثارة غضب الحلفاء وتحويلهم إلى أعداء. وسيحدد التاريخ ما إذا كانت أستراليا قد اتخذت القرار الصحيح واحسنت الاختيار. إن الأستراليين، في كل الحالات، مقتنعون بأنه لا يوجد إمكان اخر. وفي الانتظار، من الواضح أن كانبيرا تعزل نفسها في المحيط الهادئ، بعد أن عبرت نقطة اللاعودة من خلال تعزيز تشابك فاعلية أسلحتها مع أسلحة الجيش الأمريكي.
بعد أن أغرتها التعددية القطبية لفترة وجيزة، تراجعت الولايات المتحدة ونفضت الغبار عن الكتلة الأنجلو ساكسونية القديمة التي كانت، في الماضي، قادرة على الإضرار بأوروبا القارية، وعلى وجه الخصوص بتطورها السياسي. لذلك يجب ألا نخطأ الهدف: فكانبيرا هنا ليست سوى بيدق صغير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه فرنسا وخصوصا، الاتحاد الأوروبي.
في الماضي، قامت أستراليا فقط بالانتقال من نفوذ وتأثير إلى آخر. لم تسر كانبيرا بمفردها أبدًا، مدركة أنه لا وزن لها على الساحة الدولية. في الاثناء، وهذا ما يبدو سخيفًا وغير مفهوم لباريس، هي لا تريد أن تمنح نفسها الوسائل للقيام بذلك من خلال تطوير أنظمة دفاع مستقلة خاصة بها. ومن المفارقات، وفيما يتجاوز الخطاب القومي، أن كانبيرا تبدو غير قادرة على اعتبار نفسها “أسترالية”، أي أنها تمتلك مصيرها الذاتي والمستقل في القرن الحادي والعشرين.
وعلى العكس من ذلك، ترى أستراليا نفسها دائما وأبدا كجزيرة تبحث عن حام وحماية، وفي نظرها لا تستطيع فرنسا لعب هذا الدور بين الصين والولايات المتحدة. ولكل هذا، فإن الافتقار إلى الثقة بالنفس، والافتقار إلى الوسائل، وخصوصا، الافتقار إلى الاستثمار وتطوير الصناعات الاستراتيجية الذاتية، هو الذي يحكم اليوم على أستراليا بدور الأمّة -الطفل.
أستاذ محاضر في التاريخ في جامعة فلندرز-أستراليا، وباحث مشارك في مركز التاريخ ساينس بو باريس