يدحضه الأرشيف وأبرز الفاعلين:

وعد الناتو لروسيا الذي لم يوجد أصلا...!

وعد الناتو لروسيا الذي لم يوجد أصلا...!

-- يواصل الروس الادعاء بأن الغرب قدم مع ذلك ضمانات غير رسمية
-- عند غزو القرم، كانت روسيا هي التي أخلّت بوعد، وهو وعد حقيقي
-- جورباتشوف: «لم تتم مناقشة موضوع توسع الناتو على الإطلاق خلال تلك السنوات»
-- منذ بداية الحرب: 58 % من الأوكرانيين يرغبون الآن في الانضمام إلى التحالف
-- لم يكن عدم توسع الناتو حتى موضوعًا للنقاش عام 1990


   وفقــــًا لفلاديميـر بوتين وأنصـــــاره في فرنسـا، فإن روســــــيا في حالـــــة دفـــــاع عن النفس فقط ضد الناتو، الذي لم يلتزم بوعد قطعه يقضي بعدم تمدّده شرقا بعد سقوط جدار برلين... كذبة تاريخية.
   «هناك قول مأثور مفاده أن الحقيقة هي الضحية الأولى لأي حرب”، صرح بذلك جان لوك ميلينشون في فرانس 24، في 7 ديسمبر.
 ردا على سؤال حول تصاعد التوترات على الحدود الأوكرانية، حيث تحشد روسيا قواتها منذ عدة أشـــــهر، ألقــــى زعيـــم حركة “فرنســـا المتمردة” ما يتعارض والحقيقة التاريخية: “يجب أن نـدرك أننا تنكّرنـــا للروس ولــــــم نـــــوف بوعدنا...
 قيــل لهم، ‘إذا تركتـــــم جـــــدار “برلين”، فلن يكون الناتــو على أبوابهـــم’ حســـــنًا، لقــد تركوا الجـــدار يســــــقط، وماذا فعلنا: لقد جئنا بالناتو الى أبوابهم “.وكرر إريك زمور نفس الشيء على قناة فرنسا 2، في 9 ديسمبر. ويتفق هذا الاخير وجان لوك ميلينشون على نقطة واحدة: ببساطة، ان تنسحب فرنسا من التحالف.

هذا الوعد المفترض الذي خانه حلف شمال الأطلسي في نهاية الحرب الباردة، يتذرع به أنصار فلاديمير بوتين بمجرد عودة التوترات مع روسيا. إنه يسمح بإعادة النظر في وجود الناتو ذاته، الذي فقد مبرر وجوده منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وحل حلف وارسو.
   هذا الخطاب، هو أولاً خطاب فلاديمير بوتين نفسه. عام 2007، أعلن الرئيس الروسي: “من حقنا أن نطرح السؤال: ضد من يوجّه توسّع “الناتو”؟ وماذا حدث للتأكيدات التي قدمها شركاؤنا الغربيون بعد حلّ حلف وارسو؟ “.
 ومرة أخرى عام 2014، لتبرير ضم روسيا غير القانوني لشبه جزيرة القرم، قال: “كذب علينا الغرب مرارًا وتكرارًا، واتخذوا قرارات من وراء ظهرنا، ووضعوا أمامنا الأمر الواقع. حدث هذا مع توسع الناتو شرقا، وكذلك مع نشر بنية تحتية عسكرية على حدودنا «.

أسطورة ينفيها الأرشيف
   نفى معظم قادة الغرب في تلك الحقبة هذا الادعاء، لكن روسيا استمرت في توجيه الاتهام. انطلق هذا النقاش عام 1998 من قبل المحلل البريطاني مايكل مكجواير. ففي مقال نشرته مجلة الدراسات الدولية، انتقد قرار دعوة جمهورية التشيك للانضمام إلى التحالف عبر الأطلسي، قائلاً إنه في عام 1990، “تلقى ميخائيل جورباتشوف ضمانات عالية المستوى بأن الغرب لن يوسّع الناتو، ووعد بمنطقة عازلة غير منحازة بين الحدود الشرقية للناتو وروسيا «.
   واعتبر المحلل في ذلك الوقت، أن الناتو “ينتهك الصفقة المبرمة عام 1990 والتي تسمح لألمانيا الموحدة بأن تكون جزءً من الناتو”.
 في إشارة إلى المفاوضات الدبلوماسية التي عقدت في ذلك العام بين ألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حول إعادة توحيد ألمانيا.

   لم يتوضّح الأمر بشكل نهائي إلا عام 2009 بفضل رفع السرية عن تقارير الاجتماعات من الارشيف الألماني والأمريكي والروسي. ويوضح الباحث بجامعة هارفارد مارك كرامر في مقال نشرته صحيفة واشنطن كوارترلي، أن عدم توسيع الناتو لم يكن حتى موضوعًا للنقاش عام 1990.
   ولسبب وجيه: في ذلك الوقت، لم يتخيل أحد أن الاتحاد السوفياتي سينهار مع حلف وارسو. لقد كان الرهان الرئيسي إذن، هو معرفة ما إذا كانت ألمانيا، التي ينتمي جانبها الغربي إلى الحلف، ستبقى أم لا ضمن الناتو كدولة موحدة، ووفق أي شروط.
   التزم الغرب حينها بثلاث نقاط. أولاً: الاكتفاء بنشر قوات ألمانية غير تابعة للناتو في ألمانيا الشرقية حتى اكتمال الانسحاب السوفياتي. ثانيًا: يمكن نشر قوات الناتو الألمانية في ألمانيا الشرقية بعد الانسحاب السوفياتي، لكن لا يمكن نشر قوات أجنبية أو منشآت نووية. وأخيرا، ثالثا: عدم زيادة الوجود العسكري الفرنسي والبريطاني والأمريكي في برلين.

جوربي يبصم...
   بعد مفاوضات مريرة، وافق جورباتشوف أخيرًا على هذه الشروط وتم تكريسها في المعاهدة المتعلقة بالجوانب الدولية لإعادة التوحيد، التي وقعتها جميع الأطراف في سبتمبر 1990. ولا يوجد في أي مكان، بما في ذلك الأرشيف الروسي، أي ذكر لأي تعهد رسمي بعدم ضم دول أوروبا الشرقية الأخرى إلى الناتو في المستقبل.
   وحتى بعد عام 2009، استمرت التهمة في الانتشار. وهذا رغم إنكار ميخائيل جورباتشوف شخصيًا، الذي كان في وضع يؤهله لمعرفة ما قيل حقًا في ذلك الوقت. ففي مقابلة عام 2014 مع روسيا هيلدين، كان الرئيس السابق للاتحاد السوفياتي قاطعا: “لم تتم مناقشة موضوع توسع الناتو على الإطلاق، ولم تتم مناقشته خلال تلك السنوات.»
   ويوضح غورباتشوف أن الاتحاد السوفياتي أراد خاصة “ضمان عدم تقدم الهياكل العسكرية للناتو، وعدم نشر قوات مسلحة إضافية على أراضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة بعد إعادة توحيد ألمانيا”.
 ليضيف: “كل ما كان يمكن القيام به وتعيّن فعله لترسيخ هذا الالتزام السياسي قد تم إنجازه».
   ويؤكد جورباتشوف بوضوح، أن توسيع حلف الناتو يشكل خيانة لما يراه “روح” المناقشات في ذلك الوقت، لكنه يؤكد مجددًا أنه لم يتم تقديم أي التزام رسمي. ويواصل الروس مع ذلك الادعاء بأن الغرب قدم ضمانات غير رسمية. نظرية لها ميزة كونها بطبيعتها يستحيل التحقق منها.

معاهدة انتهكت ...
من قبل روسيا
   ومع ذلك، لا تزال أهمية توسع الناتو محل نقاش، بما في ذلك بين الخبراء الغربيين. وكما لاحظ الباحث أوليفييه شميت عام 2018، فإن القضية استعادت أهميتها منذ عام 1993 بدفع من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، رغم أن قسمًا كبيرًا من الإدارة الأمريكية عارضها خوفًا من طريقة الاستيعاب الروسية.
   ولكن، من أجل طمأنة روسيا، اختار الناتو عام 1993 دمجها في الشراكة من أجل السلام. الهدف: “بناء شراكة مع روسيا وإقامة حوار وتعاون عملي في المجالات ذات الاهتمام المشترك”. لم يتم تعليق هذا التعاون حتى عام 2014، عندما قررت روسيا ضم شبه جزيرة القرم.

    إن ما يحرص أنصار فلاديمير بوتين على عدم تحديده، هو أنه عند غزو القرم، كانت روسيا هي التي سخرت وأخلّت بوعد، وهو وعد حقيقي. وقعتها روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين عام 1994، تضمن مذكرة بودابست، لأوكرانيا احترام سيادتها وسلامتها الإقليمية، مقابل انضمامها إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، والتخلي عن مخزونات الأسلحة النووية الموروثة من الاتحاد السوفياتي.

   وخصوصا، بالإضافة إلى ماضيهم المؤلم مع الاتحاد السوفياتي، كانت سياسة روسيا العدوانية تجاه جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ورغبتهم في الارتباط بفضاء ديمقراطي، هي التي دفعتهم جزئيًا إلى أحضان الناتو.
   وهكذا، بينما عارض غالبية الأوكرانيين الانضمام إلى التحالف عبر الأطلسي قبل عام 2014، تحول الرأي العام تمامًا إلى الاتجاه المعاكس منذ بداية الحرب: 58 بالمائة من الأوكرانيين يرغبون الآن في الانضمام إلى التحالف... إن أسطورة روسيا المحاصرة هي نبوءة ذاتية التحقيق.