للخروج من الأزمة الأوكرانية:

يمكن أن يعرض بايدن اتفاقية سرية على بوتين...!

يمكن أن يعرض بايدن اتفاقية سرية على بوتين...!

-- بالموافقة على صفقة خروتشوف، ربما يكون جون كينيدي قد منع بمفرده الحرب العالمية الثالثة
-- الاســـتلهام مـن جون كينيدي في أزمـة الصواريخ الكوبية عــــــام 1962
-- هل من الممكن الحفاظ على سرية هذا الالتزام في عالم اليوم الذي تحاصره وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية؟


   مع استمرار وجود قوات روسية على الحدود الأوكرانية، تظل مخاطر الحرب كبيرة. يتحدث الرئيسان جو بايدن وفلاديمير بوتين عن إمكانية التوصل إلى حل دبلوماسي، من شأنه أن يمنح بوتين وسيلة لحفظ ماء الوجه للخروج من الأزمة التي خلقها.
   السؤال هو ما إذا كانا يستطيعان ويريدان ابتكار اتفاق مقبول للطرفين، بالنظر إلى كثافة تشابك المصالح المتضاربة وراء هذا الصراع. هناك طريقة لنـــزع فتيلهـــا دفعـــة واحدة: يمكن لبايدن أن يستلهم من جون كينيدي ويعرض صفقة سرية على بوتين.

   بعد محادثة هاتفية استمرت ساعة بين بوتين وبايدن يوم السبت 12 فبراير، أظهر بيان البيت الأبيض أنه يبدو لا شيء قد تغير؛ وجاء في البيان أن بايدن حذر مرة أخرى من أن الولايات المتحدة ستجعل روسيا “تدفع الثمن بسرعة وبقسوة” إذا غزت أوكرانيا.
   ومع ذلك، في مؤتمر صحفي في موسكو في وقت لاحق من نفس اليوم، كشف مستشار بوتين يوري أوشاكوف، أن المحادثة قد ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير.

وأشار إلى التاريخ الطويل للتعاون بين البلدين، كما قال، بايدن، وسلط الضوء على العديد من القضايا التي لا تزال بحاجة إلى التعاون بشأنها، وعرض عددًا من التسويات الدبلوماسية لحل الأزمة (هنا، لم يخض أوشاكوف في التفاصيل). وقال بوتين إنه سيفكر في الأمر، بينما اشتكى من أن الغرب يتجاهل مطلبه الرئيسي: ألا تنضم أوكرانيا إلى الناتو أبدًا. (مرة أخرى بعد ذلك بقليل، أكد مؤتمر صحفي عقده “مسؤول كبير في الإدارة” رواية أوشاكوف).

    اتخذ بايدن وبوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مواقف متشددة بشأن هذا الموضوع: يقول بايدن إن سياسة الباب المفتوح التي يتبعها الناتو لا يمكن رفضها بشكل دائم لأوكرانيا؛ ويقول بوتين لا من الممكن ذلك. أما زيلينسكي، فيواصل طلب الانضمام إلى الحلف العسكري بقيادة الأمريكيين. ان أي تراجع عن هذه المواقف سيُنظر إليه على أنه ضعف: ستتعرّض مصداقية الولايات المتحدة لضربة؛ وسيخسر بوتين ما يراه فرصته الأخيرة لإعادة مجال نفوذ روسيا إلى حدودها الغربية؛ وسيتعرض زيلينسكي للمضايقة من قبل القوميين المناهضين لروسيا الذين يعتبرون أي حل وسط خيانة.

   هل هناك طريقة للخروج من هذا مع حفظ ماء الوجه؟ دراسة الحالة الكلاسيكية هنا هي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، رغم أنه حتى اليوم، بعد خمسة وستين عامًا من وقوعها (وخمسة وثلاثون عامًا بعد رفع السرية عن جميع وثائق وسجلات البيت الابيض)، قلة من المؤرخين، ولا صحفي واحد تقريبًا، فهموا بشكل كامل كيف تم نزع فتيل تلك الأزمة.

شرط واحد فقط: السرية
   في خطوة يائسة، أرسل السكرتير الأول للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي نيكيتا خروتشوف سرا صواريخ برؤوس نووية إلى كوبا. قبل ذلك بعام، أعلن مسؤولون أمريكيون أن “فجوة الصواريخ”، أي تقييم وكالتهم الاستخبارية للتفوق السوفياتي الساحق المفترض في الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، هي أسطورة.

  لقد كشفت أقمار الاستطلاع الجديدة أنه لم يكن للسوفيات سوى أربعة من هذه الصواريخ؛ فالولايات المتحدة تجاوزتهم بكثير. لقد روّج خروتشوف لهذه الرواية بالتباهي بأن مصانعه صنعت صواريخ “مثل النقانق”. الآن أدرك أننا عرفنا أن الوضع ليس كذلك. كان يخشى أن تكون الولايات المتحدة تستعد لهجوم نووي ضد الاتحاد السوفياتي. علما أنه لا يملك وسائل للرد. وللتعويض، أرسل صواريخ متوسطة المدى إلى كوبا.
   غير ان الرحلة لم تكن سرية بما فيه الكفاية. في 14 أكتوبر، شاهدت طائرة تجسس أمريكية من طراز U-2 أول شحنة من الصواريخ يتم تركيبها على الجزيرة. بعد يومين، التقى الرئيس جون كينيدي بكبار مستشاريه في غرفة مجلس الوزراء بالبيت الأبيض. وعلى مدار الثلاثة عشر يومًا التالية، التقوا يوميًا لمناقشة القرارات التي يتعين اتخاذها (سجل كينيدي هذه الاجتماعات دون علم مستشاريه. وهذه التسجيلات متاحة الآن في مكتبة جون كنيدي، وتم نشر النصوص).

   في وقت ما، في 18 أكتوبر، تساءل كينيدي عما يدور في رأس خروتشوف حقًا. لابد أن الزعيم السوفياتي يعلم أنه لا يستطيع الانتصار. ربما كان فقط بحاجة إلى طريقة لإخراج صواريخه مع حفظ ماء الوجه. اقترح كينيدي أنه ربما يمكننا إخبار خروتشوف، “إذا بدأت في إخراجهم، فسنقوم بإخراج تلك الموجودة لدينا في تركيا”.
 وكانت الولايات المتحدة قد نشرت حينها صواريخ متوسطة المدى برؤوس نووية هناك يمكن أن تضرب جنوب الاتحاد السوفياتي. لم يول أي من مستشاري كينيدي أدنى قدر من الاهتمام لملاحظاته.

   بعد تسعة أيام، وبعد العديد من اللحظات المتوترة للغاية، قدّم خروتشوف نفس العرض علانية -سيخرج صواريخه من كوبا إذا أزلنا صواريخنا من تركيا. أحب كينيدي الفكرة على الفور. وأوضح “في نظر أي رجل في الأمم المتحدة، وأي رجل عقلاني، سيبدو هذا ترتيبا عادلا».
   لكن جميع مستشاريه -ليس فقط الجنرالات ولكن الوزراء أيضًا -عارضوا هذه الفكرة التي اعتبروها خطيرة.
 “استمرّ في الضغط!” حثه روبرت مكنمارا وزير الدفاع. وحذر مستشار الأمن القومي ماك جورج بوندي، بصوت يرتعش من الغضب: “إذا بدا أننا نبادل الدفاع عن تركيا بالتهديد في كوبا، فسنشهد تراجعاً جذرياً” في السلطة.

 وتوقع آخرون أن الأتراك سيُذلون، وأن مصداقيتنا ستدمر، وأن ذلك سيكون نهاية الناتو. كل هذا بينما لم تكن الصواريخ في تركيا ذات اهمية -كان هناك خمسة عشر صاروخًا –وكان سيتم استبدالها قريبًا بغواصات محملة بصواريخ بولاريس، أكثر موثوقية.
   أخيرًا، أمر الرئيس كينيدي شقيقه، روبرت كينيدي، وزير العدل (الذي عارض أيضًا اتفاقية تبادل الصواريخ) بالذهاب إلى السفير السوفياتي أناتولي دوبرينين وإخباره أننا قبلنا هذا الحل الوسط، ولكن بشرط وحيد أن يظل سراً. وإذا كشف السوفيات عن قبولهم لهذه الاتفاقية، فسيتم إلغاؤها على الفور.
   عهد كينيدي بشروطه لستة فقط من مستشاريه (كان يخشى بشدة العواقب السياسية للتوصل إلى حل وسط مع الكرملين).

وباتجاه الاخرين وبقية العالم، طور قصة مفادها أنه رفض تبادل الصواريخ، ولكنه وافق بدلاً من ذلك على اقتراح من خروتشوف قدمه في اليوم السابق: وافق الأخير على سحب صواريخه إذا وعد كينيدي بعدم غزو الجزيرة الشيوعية كوبا أبدًا.
   في اليوم التالي، الأحد 29 أكتوبر، أعلن خروتشوف سحب الصواريخ، وأكد النسخة المحرّفة للاتفاق.

هل يمكن الدفاع عن
 مثل هذا السر اليوم؟
    المثير للدهشة أن هذا الترتيب ظل سراً لفترة طويلة جدًا. وكان لا بد من انتظار عام 1982، في الذكرى العشرين للأزمة، عندما كان وجود الأشرطة على وشك الظهور، كشف ماكنمارا وبندي ومستشارون آخرون القصة الحقيقية -أو جزء منها (لم يعترفوا بأنهم عارضوا جميعًا هذه الاتفاقية السرية).
   إذا لم يتم التوصل إلى هذا الاتفاق، لكان يجب أن تبدأ الضربات الجوية الأمريكية بعد يومين، يوم الاثنين 30 أكتوبر -500 غارة قصف تقليدية يوميًا طيلة خمسة أيام، يليها غزو بري للجزيرة.
 وكانت بعض الصواريخ السوفياتية مجهزة بالفعل برؤوس حربية نووية؛ وكان من الممكن إطلاقها انتقاما.
 ورغم أنه لم يكن معروفًا في ذلك الوقت، فقد نشر السوفيات سرًا 40 ألف جندي في كوبا لمواجهة غزو أمريكي محتمل. بعبارة أخرى، بالموافقة على صفقة خروتشوف، ربما يكون جون كينيدي قد منع بمفرده الحرب العالمية الثالثة.

   ما علاقة هذا بالأزمة الأوكرانية لعام 2022؟ لقد عرض بوتين حلاً -مخرجا -وهو إبقاء أوكرانيا خارج حلف الناتو -والذي وصفه الجميع، بمن فيهم بايدن، بأنه غير مقبول، مع الاعتراف بأن أوكرانيا لن يُسمح لها بالانضمام إلى الناتو قبل زمن طويل إن لم يكن مطلقا.
   أبسطها هو قبول بايدن اقتراح بوتين -وحظر دخول الناتو على أوكرانيا إلى الأبد. لكن هذا الحل يطرح ثلاث مشاكل. بداية، وعد من المستحيل الوفاء به؛ حتى لو أراد بايدن ذلك، فلا توجد طريقة لاستبعاد انضمام أوكرانيا إلى الأبد. ثانيًا، ستكون نهاية النفوذ الأمريكي في العالم، وسيسعى جميع الحلفاء الآخرين قريبًا إلى حامية جديدة. حتى جون كينيدي عام 1962 كان يعلم أنه لا يستطيع قبول اقتراح خروتشوف علانية. وكان عليه أن يبقي الأمر سراً (حتى أنه كذب على سلفه، دوايت أيزنهاور. عندما أبلغ الجنرال السابق ذي الخمس نجوم بأن الأزمة قد انتهت، سأله أيزنهاور عما إذا كان قد أبرم صفقة سرية. فأجاب كينيدي بالنفي).

   هل سيكون من الممكن الحفاظ على سرية هذا الالتزام في عالم اليوم المحاصر بوسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية؟ عام 1962، التقى كينيدي ومستشاروه طيلة ثلاثة عشر يومًا في غرفة مجلس الوزراء دون ان يتسرّب أي ذكر لهذه الاجتماعات إلى الصحافة. وهذا امر يستحيل تخيّله اليوم. لكن ماذا عن صفقة سرية مع بوتين، الرجل الذي لا تمثل الأسرار عنده مشكلة؟
   هذه طريقة للقيام بذلك -ربما.

بعض الاحتمالات
   يمكن أن يرسل بايدن مبعوثًا سريًا إلى بوتين. قد يكون مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز اختيارًا جيدًا؛ لقد سبق ان قام برحلات سرية إلى موسكو. يمكن أن يذهب بيرنز إلى هناك ويقدم ما يلي: أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو طالما بايدن في السلطة. من وجهة نظر عملية، هذا هو الحد الأقصى الذي يمكن أن يعد به الرئيس. ومع ذلك، قد يضيف، إذا أعلن بوتين تعهده علنًا، فإن الصفقة ستنتهي -وليكن متأكدًا من انضمام أوكرانيا إلى الناتو بداية من الأسبوع المقبل.

   قد يضيف بيرنز أيضًا، إذا سحبت روسيا قواتها من أوكرانيا وأعادتها إلى قواعدها الأصلية، فإن بايدن سيفعل كل ما قدمه في المحادثات السابقة، ويتخذ خطوات مختلفة لاستعادة الثقة بين البلدين وتحقيق الاستقرار في العلاقات بينهما.
   بعض الاحتمالات: العودة إلى معاهدة الأجواء المفتوحة التي تهدف إلى السيطرة على الأسلحة التي انسحب منها الرئيس ترامب. فليراقب المفتشون جميع التدريبات العسكرية وعمليات نشر الصواريخ في المنطقة.

 وتنظيم مؤتمر حول الأمن الأوروبي، ليشمل الاعتبارات المتعلقة بالمصالح والشواغل الروسية. ومفاوضات مفتوحة لتبديد الغموض في اتفاقيات مينسك، معاهدة وقف إطلاق النار هذه التي وقعتها روسيا وأوكرانيا عام 2015 ولكن الاختلافات في التفسير حالت دون تنفيذها.
وقد تحدث مسؤولون أمريكيون وروس كبار عن استئناف اتفاقات مينسك كطريقة للخروج من الأزمة. وقد حان الوقت لوضع هذا الاقتراح في الاختبار.
    أخيرًا، سيتعين على زيلينسكي الموافقة على التوقف عن طلب الانضمام إلى الناتو، مقابل ضمانات أمنية ومساعدات اقتصادية واسعة النطاق. هذا أيضا يجب أن يبقى طي الكتمان، لمنع الإطاحة به من السلطة من قبل القوميين الأوكرانيين المتطرفين.
    كل هذا سيسمح لبوتين أن يصرخ للعالم: “لقد أخبرتكم أنني كنت أجري تدريبات عسكرية فقط”.
وسيكون راضيا عن أخذ مخاوفه الأمنية في الاعتبار، وقد يتم الإشادة به كرجل سلام.
   هل هذه الاحتمالات ممكنة؟ لا اعرف. يعتمد الكثير على نوايا بوتين.

 إذا كان كل ما يريده هو حل قضية أوكرانيا بالقوة في الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة، فيمكن لبايدن أن يبرم جميع الصفقات التي يريدها، فلن ينجح شيء. وإذا كان يبحث عن مخرج يحفظ ماء وجهه، فقد تكون صفقة سرية كهذه هي السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.