بعد أن أصبح النهج التربوي اليوم رقمياً إلى حد مفرط

هل الشاشات هي المسوؤل عن التأخر اللغوي عند الأطفال؟

هل الشاشات هي المسوؤل عن التأخر اللغوي عند الأطفال؟

الاعتماد المفرط على الشاشات يحرم الأطفال من التجارب اللغوية الأساسية، فيُفقد كثيرين منهم القدرة على الكلام في سن الثالثة ويجعل نصف مشكلات النطق الحالية بين أطفال ما قبل المدرسة ناجمة عن هذا النمط التربوي. ومع تزايد إنكار الأهالي وتراجع التفاعل الحقيقي، تتسع فجوة التواصل والتعلم، فتظهر نوبات الغضب، وتأخر المهارات، ومؤشرات متزايدة على اضطرابات لاحقة في المدرسة والصحة النفسية.

عندما وصل أيدن البالغ من العمر ثلاث سنوات إلى العيادة، كان بالكاد قادراً على قول أكثر من كلمة "ماما"، فيما راح والداه يخبراني كم هو ذكي: "يستطيع الدخول إلى تطبيقات الـ(آيباد) لمشاهدة برامجه المفضلة، لكن لا توجد لديه لغة على الإطلاق".
كان أيدن يتواصل عبر الأصوات والإيماءات فيشد ذراع أمه ليعلمها بما يريد، مع أن الأطفال عادة يستطيعون قول مجموعة من الكلمات البسيطة عند بلوغهم 12 شهراً، بالتالي فإن محدودية اللغة في سن الثالثة تبقى مدعاة حقيقية للقلق.
بعد إجراء تقييم مفصل لوضعه، اكتشفنا سريعاً أن الفتى ليس مصاباً بالتوحد كما يعتقد غالباً في مثل هذه الحالات. واتضح أن أيدن وبدلاً من قضاء وقت في اللعب أو ترديد الأناشيد أو التفاعل وجهاً لوجه مع والديه، كان يمضي معظم سنواته أمام الشاشات. لقد أصبح النهج التربوي اليوم رقمياً إلى حد مفرط، وبات تأثيره شديد الخطورة.

تقول متخصصة في  علاج النطق واللغة منذ 13 عاماً: هذا النوع من الحالات نادراً. أما اليوم، فيدخل الأطفال إلى عيادتي واحداً تلو الآخر غير قادرين على الكلام، أو بالكاد يستخدمون كلمات منفردة - وغالبية هؤلاء في عمر الثالثة أو الرابعة. نحن نعالج مختلف مشكلات النطق واللغة، بما فيها المرتبطة بالتوحد، لكن منذ جائحة كورونا أصبحت 50 في المئة من حالات الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة ناجمة عن الاعتماد المفرط على الشاشات.
وبحسب استطلاع أجرته "يوغوف" YouGov خلال مارس (آذار) الماضي، يقول 44 في المئة من معلمي المرحلة الابتدائية إن واحداً من كل خمسة أطفال يعاني صعوبة في التواصل بالمستوى المناسب لسنه، فيما يرى ثلاثة أرباع المعلمين أن الأهالي في حالة إنكار. وعندما يدرك هؤلاء الأهل أخيراً أن أبناءهم مهددون بالتأخر في المدرسة والمجتمع بسبب تقصير غير واعٍ وغير مقصود في أسلوب تربيتهم، ينتابهم شعور عميق بالخزي.
والأطفال خلال السنوات الثلاث الأولى من عمرهم يتشربون المعلومات كالإسفنج، بالتالي لا بد من منحهم ما يتسنى من فرص للتواصل الاجتماعي، كي يطوروا مهاراتهم الكلامية. ومن ثم فإن أنشطة اللعب الجماعي تعد أساساً، شأنها شأن ألعاب التخيل ولعب الأدوار باستعمال أدوات مطبخ مصغرة، أو مجموعات اللعب على صورة مزارع الحيوانات، كونها تساعدهم على تطوير لغة وظيفية. غير أن هذا الجيل من الأمهات والآباء المتمرسين بالتكنولوجيا والمنشغلين بشاشاتهم هم أنفسهم لا يتفاعلون بالقدر الكافي مع أطفالهم، ولا يوفرون لهم اللعب الضروري.
وبصفتي أماً لطفلين صغيرين، أعرف كم هو صعب الجمع بين حياة العائلة والعمل، وخلال الوقت نفسه تدبير شؤون المنزل. وأدت ضرورة العمل من المنزل خلال جائحة كورونا إلى دفع كثير من الأهالي، من دون خيار فعلي، إلى وضع أطفالهم أمام شاشات التلفزيون والأجهزة اللوحية. لكن عندما يظل الوالدان والطفل معاً ملتصقين بالشاشات طوال الوقت، نخسر فرصاً ذهبية للتفاعل مع الصغار عبر ملاحظات صغيرة عابرة من قبيل (انظر، الكلب يهز ذيله)، وهي ملاحظات تساعد الأطفال على تطوير لغتهم.
من جهتها، توصي "الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال" American Academy of Paediatrics بأن يكون وقت الشاشة محدوداً جداً للأطفال دون عمر السنتين. وخلال هذا الأسبوع، دعا الحزب الليبرالي الديمقراطي في بريطانيا إلى وضع تحذيرات صحية شبيهة بتلك الموجودة على علب السجائر على تطبيقات التواصل الاجتماعي المخصصة للأطفال، لحمايتهم من "الخوارزميات المسببة للإدمان". فالأمر لا يهدد صحتهم العقلية فحسب، بل تعليمهم أيضاً.
وبالعودة إلى أيدن، فقد راح يفقد أعصابه ويدخل في نوبات غضب، لأنه لم يكن قادراً على التواصل أو على فهم الحديث. وما حصل أن التحفيز المتسارع الذي تقدمه وسائل الترفيه الرقمية جعله عاجزاً عن التركيز على الأمور الطبيعية التي تجري في عالم الحياة اليومية. وفي مجال اكتساب القدرة على الكلام، تتمثل الخطوة الأولى في الانتباه، والثانية في الإصغاء، والثالثة في اللعب - وكل هذا التسلسل كان مفقوداً في حالة أيدن. لكن بمساعدة العلاج النطقي وأنشطة اللعب التي تتطلب استعمال الخيال، مرفقة بجلسات تفاعل منتظمة مع أمه وأبيه، أصبح اليوم يحقق تقدماً واضحاً.في المدرسة، يميل الأطفال الذين يعانون ضعف القدرة على التواصل إما إلى الانسحاب، أو إلى افتعال المشكلات. وترتبط مهارات التواصل الضعيفة ارتباطاً وثيقاً بتراجع الصحة النفسية، مما يبقي الطفل في حال تأخر دائم عن أقرانه. واليوم، رسالتي للأهالي الجدد واضحة: ضعوا الهواتف والأجهزة اللوحية جانباً.