تنتظرها عزلة لفترة طويلة

بيلاروسيا، «الستار الحديدي» الجديد في أوروبا...؟

بيلاروسيا، «الستار الحديدي» الجديد في أوروبا...؟

- منذ عام 1994، اتسمت العلاقات الأوروبية البيلاروسية بموجات متواصلة من التباعد والتقارب
- تشكل الأراضي الحالية للدولة البيلاروسية، في الواقع، منطقة عازلة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا
- كان دور بولندا ولاتفيا وليتوانيا أساسيًا في خلق مساحة للتفاعل والاتصال مع بيلاروسيا
- هذا السور الجديد سيكمل قائمة الجدران الأخرى التي أقيمت لمنع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا
- خارج أراضيه، يتمتع الاتحاد الأوروبي بقدرات إكراه قليلة، بما في ذلك في جواره القريب


 إن الأزمة غير المسبوقة التي تمرّ بها البلاد منذ عام، والتي تميزت بتصلّب واضح لنظام سلطوي أصلا، باتت تهدد بعزلها لفترة طويلة عن الاتحاد الأوروبي المجاور.  الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، ولا سيما الجزء الذي يفصل بولندا ولاتفيا وليتوانيا عن بيلاروسيا، تتطور تدريجياً إلى ساحة مواجهة.  منذ وصول ألكسندر لوكاشينكو إلى السلطة عام 1994، ظل التوتر مستمرا بين الاتحاد الأوروبي ونظام مينسك. ومع ذلك، ظلت الحدود، عاما بعد عام، نافذة مفتوحة. واليوم يبدو أنها تغلق نهائيا. بعد اثنين وثلاثين عامًا من سقوط جدار برلين، وبعد ثلاثين عامًا من اختفاء الاتحاد السوفياتي، هل نحن على وشك رؤية ظهور ستار حديدي جديد في أوروبا؟

عقود طويلة من التوتر ...
    منذ عام 1994، اتسمت العلاقات الأوروبية البيلاروسية بموجات متواصلة من التباعد والتقارب.
    ترتبط التوترات بشكل أساسي بمواجهة نموذجين متعارضين، ديمقراطي وليبرالي على الجانب الأوروبي (رغم أنه ليس كل شيء مثاليًا على هذا المستوى)، وحكم فردي وتدخلي من الجانب البيلاروسي. ألكسندر لوكاشينكو نفسه يدعي صراحة سلطوية نظامه، فجميع السلطات -التنفيذية والتشريعية والقضائية -تتركز في يديه. اثناء سبعة وعشرين عامًا، قام بتنفيذ إغلاق صارخ للنظام السياسي مع إحكام قبضته على المجتمع المدني، كما يتضح من التقارير المتتالية من منظمة العفو الدولية: “ظلت وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية والتجمعات العامة، تخضع لقيود صارمة يفرضها القانون».

   إن وجود مثل هذا النظام على حدوده الشرقية، هو اختبار للاتحاد الأوروبي، الذي يزعم أنه قوة “ناعمة” أو “ذكية”. إنه يواجه صداعًا حقيقيًا لإيجاد وسائل للضغط على النظام البيلاروسي، وهو مسعى أثبت عدم فعاليته حتى الآن.
   أما التقارب، غالبًا ما يكون مفروضا، وتمليه في جزء كبير المعايير الجغرافية والتاريخية. إن موقع بيلاروسيا في القارة الأوروبية يجعلها دولة محورية -وهي فكرة كانت في قلب الفكر الجيوسياسي المعاصر منذ كتابات إتش جي ماكيندر. وتشكل الأراضي الحالية للدولة البيلاروسية، في الواقع، منطقة عازلة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.
   حالة الالتقاء هذه بين عالمين، توجد، من ناحية، في العديد من خصائص بيلاروسيا (هويتها، ومراجعها الثقافية، وهيكل تجارتها).
ومن ناحية أخرى،
 فإنها تشكل الورقة الجيوسياسية الرئيسية الرابحة لألكسندر لوكاشينكو، كما يتضح من تبادلاته مع كل من الأوروبيين والروس (على سبيل المثال أثناء المفاوضات المتعلقة بعبور الغاز الروسي عبر الأراضي البيلاروسية عام 2006، وعدة مرات منذئذ).

...الى أزمة غير مسبوقة
  خلال العام الماضي، غرقت بيلاروسيا في أزمة غير مسبوقة في تاريخ البلاد ما بعد الاتحاد السوفياتي.
   الاحتجاج الشعبي في أعقاب التزوير الهائل الذي شهدته الانتخابات الرئاسية في 9 أغسطس 2020؛ عنف شديد وقمع في الأشهر التالية؛ حظر مغادرة الأراضي الوطنية لمواطني بيلاروسيا في ديسمبر الماضي؛ تفاقم التوترات بعد تحويل رحلة تجارية لشركة رايان إير في مايو من أجل القبض على أحد معارضي النظام؛ وفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات في يونيو، وانسحاب بيلاروسيا من الشراكة الشرقية في يونيو أيضًا؛ والموجة الأخيرة من المواجهة المرتبطة بتدفق المهاجرين من دول الشرق الأوسط إلى أوروبا عبر بيلاروسيا ... كانت السنة التي مرت للتو مضطربة بشكل خاص في هذا البلد الذي يوصف عادة بأنه “آخر ديكتاتوريات أوروبا».
   ان الوضع أكثر كآبة حيث تميزت هذه الفترة أيضًا بالاضطراب الاقتصادي والاجتماعي بسبب كوفيد-19 (انكماش الناتج المحلي الإجمالي والتضخم والبطالة والديون) الذي أثّر بشدة على المجتمع البيلاروسي.

من جسر حدودي إلى قلعة حدودية
    رغم التوترات المتكررة، نجحت الحدود الأوروبية البيلاروسية، الممتدة 1،209 كيلومترات منذ “التوسيع الكبير” للاتحاد الأوروبي إلى دول وسط وشرق أوروبا عام 2004، في الحفاظ على دورها كجسر بين المنطقتين المعنيتين.
    يشار إليها بشكل منتظم باسم “ستار شنغن”، كانت “بعيدة عن الحائط كما الجلد بعيد عن ستارة ضيقة”(ريجيس دوبريه): الجدار يمنع المرور، والحدود تنظمه.
   في الواقع، لم تكن هذه الحدود مظلمة ولا محكمة الاغلاق. ظهرت مناطق عابرة للحدود في عمل لاعبين غير حكوميين (إنشاء مناطق أوروبية، ونشاط رابطة المناطق الحدودية الأوروبية، وما إلى ذلك). وساهمت الهجرة عبر الحدود والتبادلات الجامعية ومشاريع التعاون عبر الحدود في نفاذيتها. وكان دور بولندا ولاتفيا وليتوانيا أساسيًا أيضًا في خلق مساحة للتفاعل والاتصال مع بيلاروسيا. بالإضافة إلى ذلك، كانت هذه المساحة مسرحًا لحركة مرور صغيرة على الحدود، وحركة مستمرة للبضائع في هذا الاتجاه أو ذاك.

    اليوم، تبدو الحدود التي كانت مليئة ببؤر ضوء وكأنها خط فاصل جديد. تم نصب سياج من الأسلاك الشائكة على الحدود بين ليتوانيا وبيلاروسيا، وأعلنت وزيرة الداخلية الليتوانية أجني بيلوتيتو، عن بناء جدار حقيقي -وهو إجراء مثير لجدل كبير، ولكنه قانوني تمامًا لأن اتفاقية شنغن تسمح بإعادة المراقبة في حال حدوث أزمة. وسيكمل هذا السور الجديد قائمة الجدران الأخرى التي أقيمت لمنع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا: أسوار سبتة ومليلية في إسبانيا، وأسوار المجر على طول الحدود مع صربيا وكرواتيا، وأسوار اليونان وبلغاريا على حدودهما مع تركيا، إلخ.  

في الحالة الأوروبية البيلاروسية، يبدو أن الواجهة الحدودية تفسح المجال للحاجز الحدودي. ويبدو أن وسائل الحوار السياسي قد استنفدت.   مستفيدًا من دعم الكرملين، يستمر نظام لوكاشينكو في التشدّد (اعتقال الخبيرين المستقلين تاتيانا كوزينا وفاليريا كوستيجوفا، وأعضاء مركز فياسنا لحقوق الإنسان، الخ...) وتجاوز حدودا كانت غير واردة ولا تصدق قبل عام واحد، كما في حلقة الطائرة المخطوفة.  يبدو أن تكتيكات الضغط الأوروبية انتهت فاعليتها، فخارج أراضيه، يتمتع الاتحاد الأوروبي بقدرات اكراه قليلة، بما في ذلك في جواره القريب. نتائج محزنة، ومسار فريد من نوعه لما بعد الاتحاد السوفياتي لهذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه ما يقرب من عشرة ملايين نسمة، والذين يجدون أنفسهم الآن معزولين، أكثر من أي وقت مضى، عن جزء كبير من القارة الأوروبية...
-------------------------
*أستاذ في الجغرافيا السياسية في كلية غرينوبل للإدارة، متخصص في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي