جنوب مضطرب وشرق مشتعل.. العقيدة الدفاعية الإسبانية في قلب الجدل
تعيش أوروبا لحظة إعادة تشكيل عميقة لأولوياتها الدفاعية، في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، وعودة التهديدات التقليدية بقيادة روسيا.
وفي هذا المشهد، تجد إسبانيا نفسها أمام تحديات مركّبة؛ الالتزام بتعهداتها داخل حلف شمال الأطلسي، وفي الوقت ذاته ضمان توازن دقيق بين أولوياتها الخاصة في الجنوب، واستحقاقات الردع في الشرق.
هذا التوازن يشكّل محور الجدل الدائر في مدريد بشأن مستقبل الإنفاق الدفاعي ودور البلاد في الأمن الأوروبي الأطلسي، بحسب تقرير لصحيفة “أوراسيا ريفيو».
أعادت الحرب في أوكرانيا وتعقّد العلاقة بين واشنطن وحلفائها إحياء النقاش حول قدرة أوروبا على حماية نفسها دون الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة.
وتحت ضغط إدارة ترامب، اتفق قادة “الناتو” في قمة لاهاي على رفع الإنفاق الدفاعي إلى 3.5% من الناتج المحلي خلال عشر سنوات، في خطوة اعتبرتها دول شرقية ضرورية لردع موسكو.
لكن إسبانيا اختارت الوقوف خارج هذا الإجماع، مستندة إلى حجتين أساسيتين؛ أولًا، أن التضامن داخل الحلف لا يُقاس بالأرقام فقط، بل بمساهمة الدول الفعلية في العمليات والقدرات.
وتشير مدريد إلى انتشار قواتها الجوية والبحرية في الجناح الشرقي ودعمها المستمر لأوكرانيا كدليل على التزامها.
ثانيًا، أن البلاد تخطّت بالفعل حاجز 2% من الناتج المحلي في الإنفاق الدفاعي، وترى الحكومة أن هذا المستوى كافٍ لتحقيق أهداف “الناتو” من القدرات العسكرية، مع بقاء الباب مفتوحًا لزيادات مستقبلية مدروسة.
ورغم ذلك، اعتبرت بعض العواصم الأوروبية أن الموقف الإسباني غير كافٍ، ما فتح الباب لنقاش أعمق حول كيفية توجيه الموارد الدفاعية بما يخدم المصالح الوطنية ويعزز في الوقت نفسه الأمن الجماعي.
جنوب مضطرب وشرق مشتعل
تواجه إسبانيا وضعًا جيوسياسيًا فريدًا داخل أوروبا: بينما تعتبر دول الشمال والشرق روسيا التهديد الأكبر، تنظر مدريد إلى الجنوب؛ خصوصًا شمال أفريقيا والساحل، بوصفه مصدر التهديد المباشر.
ويكشف أحدث استطلاع لمعهد “إلكانو” أن 55% من الإسبان يعتبرون المغرب التهديد الأكبر, مقابل 33% فقط يرون روسيا كذلك، ما يعكس اختلافًا جوهريًا في إدراك المخاطر بين الرأي العام الإسباني وبقية أوروبا.
ومع ذلك، يظهر الاستطلاع نفسه دعمًا واضحًا لدور إسبانيا في دعم أوكرانيا؛ 75% يؤيدون استمرار المساعدات العسكرية، و52% يوافقون على إرسال قوات للمساهمة في الأمن الأوكراني.
هذا المزاج الشعبي يشكّل أساسًا للتوازن الذي تسعى إليه مدريد: دعم الردع الجماعي في الشرق دون الإخلال بأولوياتها في الجنوب.
ويتطلب هذا التوازن الاستثمار في القدرات “متعددة الأغراض” التي تخدم الهدفين في آن واحد، مثل: الدفاعات الجوية والصاروخية والطائرات بدون طيار، والغواصات، والقدرات السيبرانية.
كما ينسجم هذا النهج مع التحولات العالمية في الحرب الحديثة، حيث باتت الأنظمة منخفضة التكلفة، خاصة المسيّرات، قادرة على إحداث تأثيرات كبيرة، ما يفرض على الدول تطوير مزيج يجمع بين الدقة والكثافة في القدرات الدفاعية.
وتُشكّل الساحة الأوكرانية اليوم أكبر مختبر عملياتي وتكنولوجي في أوروبا.
وإلى جانب البعد التضامني، ترى إسبانيا فرصة لتعزيز خبراتها واكتساب تقنيات ضرورية لردع التهديدات في جوارها الجنوبي؛ فالطائرات بدون طيار منخفضة التكلفة، وأنظمة الحرب الإلكترونية، والدفاعات الجوية، أصبحت عناصر مركزية في أي استراتيجية دفاع حديثة، وهي أدوات لطالما افتقرت إليها مدريد مقارنةً بشركائها.
ويبرز هنا مجال الصواريخ بوصفه فرصة إستراتيجية لإسبانيا؛ فوجود خمس مدمرات “أرلي بيرك” في قاعدة روتا يجعل البلاد ركيزة أساسية للدفاع الصاروخي الغربي.
وتسعى مدريد إلى لعب دور مماثل لذلك الذي لعبته إيطاليا وبريطانيا في برنامج مقاتلات “إف-35”، من خلال قيادة صناعية وتشغيلية في مجال الصواريخ والدفاع الجوي.
وتعزز طموحات مدريد حقيقة أن موقعها الجغرافي يجعلها المكان الأمثل للتمركز المسبق للقدرات الصاروخية لحلف “الناتو” بعيدًا عن تهديدات الجبهة الشرقية.
كما يوفر التعاون المحتمل مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية منصة لبناء قطاع صناعي متطور ينعكس على الأمن القومي والاقتصاد معًا.
وتشهد إسبانيا لحظة مفصلية لإعادة تعريف موقعها داخل المنظومة الأمنية الأوروبية الأطلسية؛ فالنهضة الدفاعية الحالية لن تكون ذات جدوى ما لم تُربط برؤية واضحة تُحدد الأولويات الوطنية، وتوازن بين الالتزامات الجماعية والتهديدات المباشرة في الجنوب، وتستفيد من مساحات الابتكار التي تتيحها الحرب في أوكرانيا.وإذا نجحت إسبانيا في توجيه استثماراتها نحو المجالات التي تُضفي قيمة إستراتيجية، مثل الدفاعات الجوية والصاروخية، والطائرات المُسيّرة، والغواصات، والذكاء الاصطناعي؛ فإنها ستكون قادرة على الجمع بين حماية مصالحها الوطنية والاضطلاع بدور أكبر في أمن أوروبا.
بهذا، يصبح التحدي الأكبر ليس حجم الإنفاق، بل ذكاء توجيهه، ورسم بوصلة دفاعية تستند إلى رؤية جيوستراتيجية شاملة تُدرك موقع إسبانيا الطبيعي كقوة بحرية وجسر بين شمال المتوسط وجنوبه.