من «حلم الناتو» إلى «معركة البقاء».. أوكرانيا أمام مفترق طرق خطير

من «حلم الناتو» إلى «معركة البقاء».. أوكرانيا أمام مفترق طرق خطير


في أحد أكثر التحولات الدراماتيكية في تاريخ أوروبا الحديث، تجد أوكرانيا نفسها اليوم أمام مفترق لم يكن حاضرًا في مخيلتها خلال لحظات «الحلم» الأولى عام 2014.
بعد 11 عامًا من خروج المواطن الأوكراني بجميع شوارع كييف بآمال الاندماج في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، تقف أوكرانيا الآن على حافة واقع مختلف تمامًا، وهي تُختبر فكرة «البقاء» أكثر مما تُختبر فيه فكرة «النصر».
وبينما كانت وعود الغرب في 2014 تتحدث عن مسار سريع نحو أوروبا، صار الحديث في 2025 يدور حول كيفية منع انهيار الدولة والحفاظ على حدودها المتبقية في ظل حرب أنهكت الجميع.
منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، تشكلت روايتان متناقضتان، أوكرانيا التي طرحت حلم القطيعة مع موسكو والانخراط في أوروبا كخيار نهائي، وروسيا التي رأت في ما حدث تحركًا مدعومًا غربيًا يستهدف أمنها القومي. 
ومع مرور السنوات، تحولت تلك الروايات إلى واقع عسكري واسع منذ مارس 2014 وحتى الغزو الشامل في فبراير 2022، ليتبين أن ما كان يُروج له كطريق سريع نحو الناتو والاتحاد الأوروبي يتحول شيئًا فشيئًا إلى صراع طويل يستنزف الدولة الأوكرانية بشريًا وجغرافيًا واقتصاديًا.
خلال الأشهر الأولى من الحرب، حاول الطرفان خوض مفاوضات أولية في بيلاروسيا ثم إسطنبول، حيث قدمت موسكو عرضًا يتضمن اعتراف كييف بضم القرم وتقليصًا كبيرًا لقوة الجيش، إضافة إلى حياد دائم عن الناتو.  

استسلام مقنع
ورغم أن بعض مستشاري زيلينسكي اعتبروا لاحقًا أن الاتفاق كان أقل كلفة مما وصلت إليه الحرب، رفضت كييف العرض معتبرة أن أي تنازل يشكل «استسلامًا مقنعًا»، ومن هناك، دخل الصراع منعطفًا جديدًا مع استمرار المعارك في دونباس واتساع الهجمات الروسية على البنية التحتية.
ومع نهاية 2024، كانت أوكرانيا تواجه واقعًا أكثر صعوبة: تراجع في القدرات العسكرية، خسارة مساحات واسعة من الأراضي، واستنزاف مالي واقتصادي يضغط على مؤسسات الدولة. 
لكن الحدث الأكثر تأثيرًا جاء في 2025 مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، معلنًا نهاية «شهر العسل» الأمريكي الأوكراني، ودافعًا باتجاه «سلام سريع» يعيد رسم أولويات كييف على أساس الضرورة وليس الطموح. وبداية من شهر مايو حتى نوفمبر 2025، دخلت واشنطن على خط التفاوض بشكل مباشر، مقدمة إطارًا جديدًا يقوم على تجميد الخطوط الأمامية كمرحلة أولى، ورفع الحد الأدنى لأعداد الجيش الأوكراني، وضمانات أمنية قابلة للتطوير لاحقًا. 
ورغم محاولة كييف تعديل بنود «الخطة الأمريكية»، ظل المبدأ الذي تطرحه الخطة واضحًا، وهو أن أوكرانيا بحاجة لاتفاق يُبقي الدولة قائمة ولو مؤقتًا، وفي نفس الوقت ترى موسكو أن أي صيغة تُبقي الحكومة الحالية في السلطة «غير مقبولة».
ورغم ذلك تبقى المعضلة الأساسية في أن روسيا لا تزال تعلن بشكل متكرر أن «أهدافها القصوى» لم تتغير منذ 2022، وأنها تريد تسوية تعكس نتائج الحرب على الأرض لا مجرد وقف مؤقت للقتال. 
 أحلام 2014
وفي المقابل، يحاول الرئيس زيلينسكي الحفاظ على ما تبقى من خيارات سياسية داخلية، رافضًا أي تنازل عن الأراضي، ومؤكدًا أن «السلام الحقيقي» يتطلب انسحابًا روسيًا شاملًا.
ومع نهاية نوفمبر 2025، تبلورت القناعة بأن أوكرانيا تتحرك من مرحلة «أحلام 2014» إلى واقعية جديدة تجعل البقاء هدفًا أساسيًا بحد ذاته. 
فبعد أكثر من 3 أعوام من الحرب، ومع خسائر بشرية كبيرة وانهيار اقتصادي متسارع، لم يعد السؤال الآن كيف تنتصر أوكرانيا؟، بل.. كيف تبقى؟ وما هو شكل هذا «البقاء»؟. 
 الانضمام إلى 
الاتحاد الأوروبي
وفي هذا الإطار، قال المحاضر في العلوم السياسية والباحث في مركز البحوث العلمية التطبيقية في موسكو الدكتور ميرزاد حاجم، إن الواقع الممتد من عام 2014 حتى 2025 يبرهن أن «أحلام الميدان» بشأن الانضمام السريع إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لم تكن واقعية، وأن الحقائق الميدانية نسفت تلك الوعود التي اعتُبرت يومًا مسألة وقت.  وكشف حاجم في حديث لـ»إرم نيوز» أن الرهانات الأوكرانية والغربية على الاندماج الكامل، وعلى استحالة التنازل عن القرم أو دونباس، «انكسرت أمام الوقائع الجديدة»، مؤكدًا أن كييف لم تحصد خلال هذه السنوات إلا الخسائر، وأن الالتزام باتفاقية مينسك أو اتفاق إسطنبول كان كفيلًا بأن يجنّبها الكثير ممّا وصلت إليه. 
وأشار إلى أن الحرب المستمرة منذ أكثر من 45 شهرًا أنهكت الدولة الأوكرانية، وأن الغرب بات يسعى فقط إلى إنقاذ ما تبقى من البلاد التي لم تدخل الاتحاد الأوروبي أو الناتو، وخسرت أجزاء واسعة من جغرافيتها، وتعرّض اقتصادها للانهيار. 
ولفت إلى أن وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شكل محطة مفصلية بعدما أعلن أن «شهر العسل مع أوكرانيا انتهى»، في وقت تواصل فيه روسيا عملها «بهدوء وصبر استراتيجي». 
وشدد على أن عدم قدرة الرئيس فولوديمير زيلينسكي على إيقاف الحرب سيضع مستقبل أوكرانيا في مهب الريح بين خيار التقسيم أو الانزلاق نحو حرب أوسع، وأن الواقعية السياسية باتت تفرض على كييف قبول موقعها الحالي وشروط واشنطن للوصول إلى تسوية ممكنة، بعد أن انهار الحلم الوردي بين 2014 و2025.

إرث تاريخي
من جهته، قال مدير شبكة الجيو استراتيجي للدراسات إبراهيم كابان، إن أوكرانيا والرئيس الأوكراني اعتمدوا بشكل كبير على الدور الأمريكي والأوروبي، وعلى حضور الناتو في منطقة تُعد شديدة الحساسية بالنسبة لروسيا بسبب الحدود المتاخمة وإرثها التاريخي. 
وأكد لـ»إرم نيوز» أن المصالح الدولية شهدت تحولًا لافتًا، إذ برزت تفاهمات اقتصادية بين موسكو وواشنطن رغم صداماتهما في ملفات عدة، تمامًا كما لم يمنع خلاف الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان استمرار العلاقات الاقتصادية الواسعة بينهما، ما يعكس أن الاعتبارات الاقتصادية باتت تضغط على الحسابات الاستراتيجية والعسكرية. 
وأشار إلى أن أوكرانيا تحاول اليوم الحفاظ على ما تبقّى من مكاسبها، معتبرًا ذلك «مكسبًا» بحد ذاته، فصمود الدولة أمام الترسانة الروسية الضخمة يُعد شكلًا من أشكال الانتصار في «معركة البقاء». 
وبين كابان أن أوكرانيا صمدت قرابة أربعة أعوام رغم استخدام روسيا مختلف أنواع الأسلحة، بفضل الدعم الأمريكي والأوروبي.  كما أكد، أن المرحلة المقبلة ستدفع كييف إلى البحث عن ضمانات لبقائها بالتوازي مع بدء تنفيذ خطة ترامب وتعزيز الحوار بين الطرفين ودور الحضور الأوروبي. 
وخلص إلى أن أوكرانيا التي حلمت منذ 2014 بالانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، تجد نفسها مع نهاية 2025 في معركة مفتوحة عنوانها الأساسي «البقاء».