حلّ حرب بالوكالة في أوروبا يلوح في الأفق

أوكرانيا: هل تسعى واشنطن إلى إشعال فتيل الحرب...؟

أوكرانيا: هل تسعى واشنطن إلى إشعال فتيل الحرب...؟

-- هل تصبح أوكرانيا عراقًا جديدًا؟ ألا تخاطر العولمة بدفـــع هـــذا الصـــراع الإقليمـي إلى حريــــق عالمــي؟
-- إن روسيا المعزولة وأوروبا تحت حماية الناتو هي عقيدة السياسة الخارجية الأوروبية للولايات المتحدة
-- اقتصاديا، سيكون الصراع في أوكرانيا مفيدًا للولايات المتحدة
-- التقارب بين روسيا وأوروبا من شأنه أن يجعل هذه القارة الهائلة كتلة أقوى من الصين
-- الصراع يخدم المصالح المحلية الأمريكية «خاصة الاقتصادية»، ولكنه سيسمح أيضًا بإضعاف منافسي واشنطن


   في الوقت الذي يتصاعد فيه التوتر في أوكرانيا، من الضروري العودة خطوة إلى الوراء لفهم سبب أن اندلاع صراع في أوروبا الشرقية يبدو وشيكًا. بعيدًا عن السرد السائد في وسائل الإعلام الغربية عن روسيا العدوانية، تشير بعض العناصر إلى حقيقة مختلفة تمامًا.

 الوضع الاقتصادي للولايات المتحدة
   من الضروري تحليل الوضع المحلي في الولايات المتحدة لفهم الدوافع الأمريكية الكامنة.
   لعقود عديدة، أدت السياسة النقدية الموائمة “التيسير الكمي” إلى رفع الدين القومي للولايات المتحدة إلى 28400 مليار دولار عام 2021، منها 13،950 مليار دولار من الديون الخاصة، متجاوزة الرقم القياسي البالغ 12680 مليار دولار عام 2008.   الهروب الى الامام نحو المزيد الائتمان والتضخم المتسارع من ناحية، وكذلك الارتفاع الضروري في النسب لمعالجة ذلك من ناحية أخرى، يشكلان مخاطرة كبيرة بالتخلف عن السداد على واشنطن في الأشهر المقبلة. وستؤدي هذه الأزمة المالية إلى توقف مفاجئ للاقتصاد، مما يدفع الولايات المتحدة إلى تراجع اضافي عن القوة الصينية وهو ما لا تستطيع تحمله او تسمح به.
  علاوة على ذلك، يمكن للصين، ثاني أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة، والتي تمتلك 1100 مليار من الديون الأمريكية، أن تعمل على هذه الرافعة في الحرب الاقتصادية بين القوتين العظميين. ويضاف إلى ذلك أزمة كوفيد، والتأثير الاقتصادي والاجتماعي اللاحق، أرض خصبة محتملة للعديد من الاحتجاجات.

   وكما أظهر التاريخ في كثير من الأحيان، فإن محاور السياسة الخارجية الأمريكية هي انحراف حاجات تتعلق بالسياسة الداخلية. يجري الخلط بين المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية، وغالبًا ما كانت النزاعات الخارجية فرصة لخدمة مصالح المجمّع الصناعي العسكري القوي للغاية في الولايات المتحدة، مع خدمة أغراضها السياسية وهيمنتها. وهكذا، فإن صراعًا جديدًا سيجعل من الممكن التوصل إلى إجماع حول التهديد الخارجي، مع تحويل الانتباه عن الاحتجاجات الداخلية، وتشديد السيطرة السياسية على أراضيها.

التهديد الصيني
   من الواضح أن هذه الاشكاليات الداخلية تتعارض مع التهديد الخارجي الذي تشكله الصين، والتي لا تزال “المنافس الوحيد القادر على الجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتشكيل تحد طويل المدى”، و”أهم اختبار جيوسياسي” لواشنطن، بحسب رئيس الدبلوماسية الأمريكية أنتوني بلينكين.
   وفي مواجهة الهيمنة الصينية في جنوب شرق آسيا وبحر الصين، وتوسعها الاقتصادي عبر طرق الحرير، وسيطرتها على موارد إفريقيا، تردّ الولايات المتحدة الأمريكية، بمنطق الاحتواء، من خلال تعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في المناطق الاستراتيجية. أولاً، في آسيا، بانتشار الأسطول الأمريكي في بحر الصين وجنوب المحيط الهادئ حيث تُظهر دعمًا قويًا لتايوان، رغم انف الصينيين. ولكن أيضًا من خلال العلاقات الاقتصادية القوية مع الحليف التقليدي في المنطقة، اليابان. ويدعم الرئيسان الصيني والروسي أيضًا فرضية رغبة الولايات المتحدة في زعزعة الاستقرار الإقليمي، كما يتضح من الثورة الشعبية المفاجئة في كازاخستان، وهي الاقتصاد الأكثر كفاءة في آسيا الوسطى، وحجر الأساس لطرق الحرير، والتي كانت حتى ذلك الحين ترتبط بعلاقات جيدة مع روسيا والصين والولايات المتحدة.

   ثم، في منطق الحصار الطاقي، يمكن التساؤل عن سعي الأمريكيين، لضمان تعزيز سيطرتهم على النفط في مناطق مختلفة من العالم، مصدر الطاقة الحيوي للمنافس الصيني. ووفق هذا المنطق، فإن تعريض الصين للخطر على إحدى جبهاتها الأخرى، أي الجبهة الأوراسية مع روسيا ودول كومنولث الدول المستقلة، سيكون رصيدًا مهمًا. وفي ضوء تعزيز تحالف الطاقة بين موسكو وبكين بتوقيع عقد غاز مدته 30 عامًا، سيتم بيعه باليورو، فإن زعزعة استقرار روسيا من شأنه أن يكمل الحصار الطاقي للصين، مما يضعها في موقع اقتصادي صعب.

حلّ الحرب
بالوكالة في أوكرانيا
   ومن ثم يصبح من المستحيل عدم تحليل الأحداث التي تجري على الحدود الروسية الأوكرانية من منظور مختلف تمامًا.
    من وجهة نظر اقتصادية، سيكون الصراع في أوكرانيا مفيدًا للولايات المتحدة، من حيث أنه سيعيد شرعية وسبب وجود حلف الناتو “الذي تهيمن عليه المصالح الأمريكية”، وهي منظمة كانت منذ وقت ليس ببعيد في حالة “موت سريري”. وسينفتح سوق الدفاع الأوروبي بعد ذلك أكثر على الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعدّ اصلا المزوّد الرئيسي للجيش الأوروبي، كما يتضح من اختيار المعدات مع مقاتلات اف-35 باهظة الثمن من قبل معظم الدول الأوروبية، مثل إيطاليا وبلجيكا وهولندا -على حساب رافال داسو، أو يوروفايتر من ايرباص أو الساب جربين.
    وفي هذا الصدد، نلاحظ أن التقارب بين روسيا وأوروبا من شأنه أن يجعل هذه القارة الهائلة كتلة أقوى من الصين. وهذا يعكس تهديدًا كبيرًا يمكن أن يقوض الإمبريالية الأمريكية. وبالتالي، سيكون التكتيك هو تأليب الأول على الثاني من أجل إضعاف كليهما. إن روسيا المعزولة وأوروبا تحت حماية الناتو، هي عقيدة السياسة الخارجية الأوروبية للولايات المتحدة.

   لقد امتد الناتو، على وجه الخصوص، بشكل كبير نحو الشرق من خلال الاعتماد على توسيع الاتحاد الأوروبي، حيث فضل الأخير حشد الوافدين الجدد إلى التحالف العسكري “ناهيك عن فرنسا، التي سحبها ديغول من القيادة المتكاملة لحلف الناتو عام 1966 ولم تعد إليه الا عام 2007”. ويتضح هذا بشكل أكبر في دول البلطيق وأوروبا الشرقية، حيث يروّج الأمريكيون لاستقلال الطاقة عن الغاز الروسي للحد من نفوذ موسكو وتأمين منافذ هناك لصادراتهم من الغاز الطبيعي المسال.
   وعلى نفس المنوال، يدفع الغرب روسيا المترددة إلى أحضان الصين، وقد أقامتا تحالفًا عشية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. ومن المحتمل أن يؤدي أي تصعيد في أوكرانيا إلى دعم الروس من جانب شي جين بينغ، الذي يحرص بالتأكيد على عدم سقوط الحدود الغربية للأخيرة تحت النفوذ الأمريكي، الأمر الذي يتطلب جهودًا عسكرية واقتصادية صينية كبيرة. وبالتالي، فإن الصراع يخدم المصالح المحلية الأمريكية (خاصة على المستوى الاقتصادي)، ولكنه سيسمح أيضًا بإضعاف منافسي واشنطن.

    يبدو أن بعض المصادر تعطي لمحة عن هذا الواقع الآخر. مقال في صحيفة المانيفستو اليومية، بالإضافة إلى تحقيق في تايم، يشهدان على وجود إريك برنس في أوكرانيا. مؤسس بلاك ووتر -وهي شركة عسكرية خاصة أعيدت تسميتها الآن بالأكاديمية التي تزود وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية بالمرتزقة -ويقال إنه يشكل جيشًا خاصًا في أوكرانيا من خلال شركته لانكستر 6. هذا إضافة إلى الاستثمارات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في أوكرانيا التي وصلت قيمتها إلى 2.5 مليار دولار منذ عام 2014، مما يدل على مصالح اقتصادية أمريكية واضحة.
    ومع ذلك، يبدو أن التحليل السائد في وسائل الإعلام، في الوقت الحالي، يمرر بشكل منهجي الاستعدادات الروسية على أنها محاولات لغزو أوكرانيا، في حين أن التهديدات المعروفة، مثل فوج آزوف “ميليشيا انفصالية أوكرانية مدعومة من قبل الغربيين عام 2014 ومكونة من النازيين الجدد”، تزوّد الروس بمبررات الدعم العسكري لسكان دونباس الناطقين بالروسية. وفي هذا الحالة، فإن البحث عن شركاء استراتيجيين في المنطقة يدفع الكتلة الأنجلو ساكسونية إلى تفضيل صعود الحركات المتطرفة في بعض الأحيان، وبالتالي المساهمة في التصعيد.

   علاوة على ذلك، تخلق الولايات المتحدة وتدفع بسرديّة ان روسيا تسعى إلى بدء الحرب. وفي مواجهة مزاعمها بأن روسيا ستستخدم ذريعة كاذبة لغزو أوكرانيا، لم يقدم المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أي تفسير واضح. كما نشر موقع بلومبيرج عن طريق الخطأ مقالاً بعنوان “روسيا تغزو أوكرانيا” طيلة 30 دقيقة.

   ومن خلال تغيير الزاوية، نرى أن الصراع الأوكراني يبدو حتميًا. على خلفية التوترات الدولية بين الصين والولايات المتحدة، التي تتباطأ قوتها الاقتصادية، يلوح في الأفق حلّ حرب بالوكالة في أوروبا. لن تكون هذه هي المرة الأولى التي تثير فيها الولايات المتحدة صراعًا بعيدًا عن أراضيها الوطنية لخدمة مصالحها. ويُعدّ التصعيد الإعلامي الحالي من أعراض اقتراب ظهور عنصر محفز. إن تقسيم وإضعاف منافسيها، سواء الروس أو الصينيين أو الأوروبيين، هو جزء من منطق الحفاظ على الإمبريالية الأمريكية.
   هل ستصبح أوكرانيا عراقًا جديدًا؟ ألا تخاطر العولمة بدفع هذا الصراع الإقليمي إلى حريق عالمي؟

*محللة في الذكاء الاقتصادي في إنجي