قضاء أبوظبي ووزارة العدل تبحثان تعزيز تكامل المنظومة القضائية
سؤال في وضع معقّد بشكل خاص:
بعد تفكك الاتحاد: هل توجد هوية وطنية روسية...؟
-- بلد يتميز بتنوع عرقـي وثقافي كبيـر، وتخترقــه علاقــة ملتبســة مع المـاضي السـوفياتي والإمبراطوري
-- الإجماع المحافظ المفترض ليس العصا السحرية التي تجعل من الممكن التغلب على الانقسامات الداخلية
-- محت الأزمة الأوكرانية نهائيا فكرة مشروع تكامل وطني محتمل بين روسيا وأوكرانيا
-- لقد رأينا الخوف من تفكك الدولة يتلاشى على مر السنين
-- يوجد داخل البلاد العديد من الأقليات، التي تحاول العثور على مكانها في مجموعة يهيمن عليها العرق الروسي
صادف شهر ديسمبر من العام المنقضي الذكرى الثلاثين لحدث عالمي: تفكك الاتحاد السوفياتي. من بين الدول الخمس عشرة المنبثقة عن ذاك التفكك، يظل الاتحاد الروسي استثناءً من نواحٍ عديدة، تتجاوز حجمه أو وزنه الديموغرافي أو نفوذه السياسي في المنطقة. في الواقع، مسارها الاجتماعي والسياسي الفريد، يميّز روسيا عن غيرها من الجمهوريات السوفياتية السابقة.
هل توجد هوية وطنية روسية؟ لقد فشلت السياسات التي نُفِّذت على مدى الثلاثين عامًا الماضية في تقديم إجابة واضحة على هذا السؤال -وهو أمر معقد بشكل خاص، في هذا البلد الذي يتميز بتنوع عرقي وثقافي كبير، ويؤدي إلى تنمية علاقة ملتبسة مع الماضي السوفياتي والإمبراطوري، على أقل تقدير.
الماضي السوفياتي لا يزال حاضرا
على عكس أوكرانيا المجاورة، يواصل الماضي الســــوفياتي توفير مرساة هوية قوية للدولة الروسية.
تمامًا مثل بيلاروسيا التي سعت معها طوال عشرين عامًا الى بناء “دولة وحدة”، لم تمجد روسيا الخروج من الحقبة السوفياتية باعتباره أسطورة تأسيس أو ولادة وطنية جديدة.
يتم الاحتفال هناك بالنصر الكبير في 9 مايو 1945 باعتباره الحدث الموحد الرئيسي، والذي هو يوم وطني، أكثر بكثير من يوم روسيا، الذي يتم الاحتفال به منذ عام 1992 في ذكرى اعتماد إعلان سيادة الجمهورية الاشتراكية الاتحادية السوفياتية الروسية في 12 يونيو 1990، أو يوم الوحدة الوطنية (أو الشعبية). يتم الاحتفال بهذا الأخير، في 4 نوفمبر منذ عام 2005 إحياء لذكرى تحرير الميليشيات الشعبية لموسكو من احتلال القوات البولندية عام 1612، ونهاية زمن الاضطرابات مع الانتخاب اللاحق لأول قيصر من سلالة رومانوف.
لقد رفع الحكام الحاليون لروسيا، المولودون في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ذكرى الفترة السوفياتية المتأخرة تدريجياً -سنوات بريجنيف (1964-1982) -إلى مرتبة المثل الأعلى المعياري، وهي نموذج للاتحاد السوفياتي “الجيد».
وبالنسبة لأستاذ العلوم السياسية فلاديمير جيلمان، هذه صورة منمّقة لنظام سوفياتي خالٍ من العيوب المتأصلة فيه، مثل نقص المواد الاساسية أو الانتهاك المنهجي للحريات المدنية.
ومن خلال التذرع بالحنين إلى هذا “العصر الذهبي” السوفياتي، يواصل فلاديمير بوتين وحاشيته وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه “مأساة” و “كارثة».
بل وأكثر من ذلك، يرمز الاتحاد السوفياتي، في نظر السلطات الروسية، إلى القوة الجيوسياسية التي كانت تمارسها موسكو في الماضي على جزء من العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، فإن الإشارات العلنية إلى الاتحاد السوفياتي تسمح لروسيا المعاصرة بتبرير طموحاتها الحالية، مع الحفاظ على هالة قوتها العظمى، والتي تترجمها على وجه الخصوص مكانة العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
هذه الحالة الذهنية، التي حملها الكرملين لسنوات، تم تكريسها قانونيًا بمناسبة مراجعة الدستور الروسي عام 2020، حيث تنص المادة 67.1 الآن على أن الاتحاد الروسي هو “الوريث” أو “الخليفة قانونا”، للاتحاد السوفياتي.
نهاية امبراطورية؟
وعلى عكس الروايات التاريخية التي طبقتها دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى، فإن روسيا الجديدة تحافظ على علاقة ملتبسة مع تاريخها الإمبراطوري. بعد ثلاثين عامًا من سقوط الاتحاد السوفياتي، وأكثر من قرن على سقوط إمبراطورية رومانوف، بقي السؤال “أين تنتهي الإمبراطورية وأين تبدأ الأمة؟” بدون إجابة نهائية في المناقشات الروسية. وفضّل حكام روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي الترويج لقراءة مستمرة للتاريخ الوطني، والتي تربط الأوقات المعاصرة بالقيصرية والشيوعية باسم الحفاظ على دولة قوية ودائمة في مساحة أوروآسيوية واسعة.
ومع ذلك، صحيح أن روسيا، حتى اليوم، تشكّل دولة بحجم إمبراطورية، رغم “تقلصها”، تشمل مناطق اتحدت سابقًا عن طريق الغزو أو بموافقة طوعية إلى حد ما. هذه المناطق، التي استفادت من وضع مناطق حكم ذاتي في بداية الحقبة السوفياتية وسمّيت منذئذ “جمهوريات”، هي مراكز تركيز عالٍ لمجموعات عرقية بلغاتها وثقافاتها وعاداتها، التي تختلف عن تلك الخاصة بالأغلبيــــة الإثنية في البلاد.
وتنتمي العلاقة بين الزعماء المحليين والكرملين الى نظام الحكم الإمبراطوري بدلاً من النظام الفيدرالي، بما ان ممارسة هؤلاء الزعماء للسلطة دون منازع مشروطة بإعلان الولاء الكامل، إن لم يكن الخضوع للمرشد الأعلى: فلاديمير بوتين.
ويمثل الحفاظ على هذا الفضاء الفسيفسائي، الذي وصفه الرئيس بأنه “عمل بطولي” للروس، مصدرًا مهمًا لشرعية النظام السياسي القائم. خلال “الحرب الشيشانية الثانية” وضع بوتين، الذي عين رئيسًا للوزراء قبل أن يخلف بوريس يلتسين كرئيس للدولة، الأسس لصورته كرجل قوي قادر على احتواء التهديد الانفصالي وضمان النظام والأمن للجميع.
وبالتالي، فإن الانتهاكات السلطوية للنظام مبررة من خلال هذا الاستقرار، والذي سيكون أحد أهدافه تفادي مرحلة جديدة من تفكك البلاد.
إلا أننا رأينا هذا الخوف من تفكك الدولة يتلاشى بمرور السنين، حيث أصبحت وحدة أراضي البلاد “بأي ثمن” موضع جدل تدريجيًا. ولنستحضر شعار “ لنتوقف عن إطعام القوقاز”، الذي أطلقه القوميون الروس في أوائل عام 2010 وبدعم من المعارض أليكسي نافالني للاحتجاج على تحويلات الميزانية التي تتلقاها الجمهوريات المسلمة في شمال القوقاز، وتعتبر غير متناسبة.
مثال آخر أكثر حداثة: الجدل الحاد بين فلاديمير بوتين والمخرج ألكسندر سوكوروف، عضو المجلس الرئاسي الروسي لحقوق الإنسان، الذي اقترح “التخلي عن” المناطق “التي لم تعد ترغب في العيش معنا في نفس الدولة ووفق نفس القوانين الاتحادية. وقد حذر الرئيس الروسي في رده، من إعادة إنتاج “السيناريو اليوغوسلافي” في روسيا، مشيرًا إلى الحروب العرقية التي دارت في إقليم يوغوسلافيا السابقة في التسعينيات.
التنوع الجوهري
ولئن ظل بناء الأمة في روسيا يتسم بعمق بالماضي الإمبراطوري للبلاد، فإن السلطات تسعى إلى تعبئة القيم التي يفترض أن تجمع أكبر عدد ممكن من الناس. وهذه هي القيم الوطنية والمحافظة أو “التقليدية” التي تروج لها الدولة والفاعلين شبه الحكوميين، بما في ذلك المعارضة البرلمانية الموالية للكرملين أو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أو السلطات الروحية الإسلامية. ومع ذلك، فإن هذا الإجماع المحافظ المفترض ليس العصا السحرية التي تجعل من الممكن التغلب على الانقسامات الداخلية.
أحدها يُرمز إليه بالفجوة المستمرة بين الإثنيات والديموقراطية، المجتمع الإثني-الثقافي ومجتمع المواطنين. هذا التمييز هو أولاً وقبل كل شيء مصطلحي: ما هو “روسي”،” الصفة المتعلقة باللغة والثقافة والعرق “لا تساوي ما هو “من روسيا”،” صفة تتعلق بالدولة والمجال العمومي. “لكنه يعكس أيضًا واقعًا ملموسًا : من بين ما يقرب من 146 مليون نسمة في البلاد ، ينتمي حوالي 30 مليونًا إلى مجموعات عرقية أقلية “أو “قوميات”. وتشير العديد من هذه المجموعات إلى نفسها على أنها أمم، ويمكن في بعض النواحي ، وصفها على هذا النحو.
كما يتم التعبير عن التنوع الجوهري في السياق الروسي على المستوى الديني. فإلى جانب الغالبية العظمى من المواطنين -ما يصل إلى 70 بالمائة، أو مائة مليون شخص -يعلنون أنفسهم كمسيحيين أرثوذكس “رغم أن هذا هو تعريف ثقافي وليس دينيًا”، فإن 20 مليون نسمة من سكان روسيا هم من الثقافة أو الدين الإسلامي. علاوة على ذلك، من المرجح أن تزداد نسبة هؤلاء السكان المسلمين في العقود المقبلة، بسبب الاتجاهات الديموغرافية وعامل الهجرة، مما سيكون له عواقب وخيمة على مناقشات الهوية في البلاد.
إن تعزيز العضوية في مجتمع من المواطنين الروس يمكن أن يساعد في تجاوز هذه الاختلافات العرقية والثقافية. ومع ذلك، من الناحية العملية، فإنه يصطدم باستمرار كره الأجانب “المنتشر” الذي يستهدف ما يسمى بالأقليات المرئية والتي يطلق عليها عادة “الأشخاص ذوي المظهر غير السلافي».
كره الأجانب هذا، لا يستثني مواطني روسيا عرقيًا من غير الروس، الذين يتعرض ممثلوهم بشكل منهجي للوصم والتمييز. ان الأقليات، أكانت أصلية أم هاجرت مؤخرًا “على سبيل المثال من بلدان آسيا الوسطى”، هي أهداف لأعمال شغب عرقية أو عنصرية، كما كان الحال في كوندوبوجا، كاريليا، عام 2006، أو بيريوليوفو، إحدى ضواحي موسكو الجنوبية الغربية، عام 2013. ويصعب أيضًا الحديث عن مجتمع وطني يلتزم بوعي بالدولة وقوانينها، لاستخدام التعريف الكلاسيكي للأمة الذي اقترحه مارسيل موس، في سياق لا يثق فيه الكثير من الروس بالمؤسسات العامة. وهكذا، فإن أكثر من 50 بالمائة من المستجوبين لا يثقون بالشرطة والسلطات الإقليمية والمحلية، في حين أن نسبة انعدام الثقة في الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية، تتجاوز 60 بالمائة.
الاختيارات الملتبسة
للسلطات الروسية
تجد هذه الديناميكيات المتضاربة صدى في التباس الاستراتيجيات التي تتبناها السلطات الروسية للتعاطي معها.
أولاً، تدين السلطات الروسية علناً أي تعبير عن كره الأجانب، لكنها في الواقع تساهم في إضفاء الشرعية على المواقف المعادية للأجانب من خلال استخدام مفاهيم مثل “الجريمة العرقية” أو نشر خطاب مناهض للهجرة. على سبيل المثال، يعتبر عمدة موسكو سيرجي سوبيانين، أن “الجريمة العرقية” هي “إحدى المشاكل الرئيسية” للعاصمة الروسية، ويريد استبدال العمال المهاجرين في مواقع البناء بأشخاص “بجودة أعلى”، أي مواطنين روس من المناطق المحيطة بموسكو.
ومع ذلك، منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قامت السلطات الروسية بقمع الجماعات القومية المتطرفة الصغيرة، وتسعى، في السياق الجيوسياسي الجديد الذي يتميز بمواجهة حادة بين روسيا والغرب، إلى توجيه الكراهية التي يشعر بها العديد من سكان البلاد تجاه المهاجرين والأقليات العرقية، على الدول الغربية. في الواقع، تسبّب ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا عام 2014 في انخفاض كبير في كراهية الأجانب الداخلية، والتي أعيد توجيهها جزئيًا إلى الولايات المتحدة وأوكرانيا.
ثانيًا، يبرز القادة الروس بشكل منهجي الخطاب حول روسيا كدولة “متعددة الأعراق والأديان”، ويصرون على المساواة بين المواطنين من مختلف الانتماءات العرقية أو الدينية. لكن في نفس الوقت، يستثمرون اليوم أكثر في الترويج لمصطلح “الروس”، وليس “من الاتحاد الروسي”، بهدف تعزيز سياسة تأثيرهم في الشتات الروسي في فضاء الاتحاد السوفياتي السابق، وما بعده. إن قرار فلاديمير بوتين بإنهاء التعليم الإجباري للغات الأقليات في المدارس العامة الواقعة في أراضي الجمهوريات المستقلة، يتناقض مع هذا الخطاب الرسمي ويزرع بذور النزاعات المستقبلية.
أخيرًا، وضعت الأزمة الأوكرانية، التي لا تزال نتائجها غير محددة، حدا، وبشكل نهائي، لفكرة مشروع تكامل وطني محتمل بين روسيا وأوكرانيا. لقد تحررت الثانية من الأولى، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو حتى الروحاني -مع إنشاء الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، في ديسمبر 2018، الملحقة ببطريركية القسطنطينية.
وهذا الانفصال بين بلدين قريبين تاريخياً وثقافياً يمكن أن يعطي دفعة جديدة لبناء الدولة في روسيا، كما هو الحال في أوكرانيا. ومع ذلك، منذ ضم شبه جزيرة القرم، وجد الاتحاد الروسي نفسه في موقف دولة كانت حدودها وستظل متنازع عليها من خارج البلاد.
يمكننا أن نلاحظ أيضًا أنه بعد ثلاثين عامًا من نهاية الاتحاد السوفياتي، لا تزال هياكل هوية المجتمع الروسي غير محددة، والعقبات التي تحول دون التوحيد الوطني لا تزال عديدة.
*دكتور في العلوم السياسية من المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، واستاذ مساعد وباحث مؤقت في الحضارة الروسية، جامعة السوربون.
-- الإجماع المحافظ المفترض ليس العصا السحرية التي تجعل من الممكن التغلب على الانقسامات الداخلية
-- محت الأزمة الأوكرانية نهائيا فكرة مشروع تكامل وطني محتمل بين روسيا وأوكرانيا
-- لقد رأينا الخوف من تفكك الدولة يتلاشى على مر السنين
-- يوجد داخل البلاد العديد من الأقليات، التي تحاول العثور على مكانها في مجموعة يهيمن عليها العرق الروسي
صادف شهر ديسمبر من العام المنقضي الذكرى الثلاثين لحدث عالمي: تفكك الاتحاد السوفياتي. من بين الدول الخمس عشرة المنبثقة عن ذاك التفكك، يظل الاتحاد الروسي استثناءً من نواحٍ عديدة، تتجاوز حجمه أو وزنه الديموغرافي أو نفوذه السياسي في المنطقة. في الواقع، مسارها الاجتماعي والسياسي الفريد، يميّز روسيا عن غيرها من الجمهوريات السوفياتية السابقة.
هل توجد هوية وطنية روسية؟ لقد فشلت السياسات التي نُفِّذت على مدى الثلاثين عامًا الماضية في تقديم إجابة واضحة على هذا السؤال -وهو أمر معقد بشكل خاص، في هذا البلد الذي يتميز بتنوع عرقي وثقافي كبير، ويؤدي إلى تنمية علاقة ملتبسة مع الماضي السوفياتي والإمبراطوري، على أقل تقدير.
الماضي السوفياتي لا يزال حاضرا
على عكس أوكرانيا المجاورة، يواصل الماضي الســــوفياتي توفير مرساة هوية قوية للدولة الروسية.
تمامًا مثل بيلاروسيا التي سعت معها طوال عشرين عامًا الى بناء “دولة وحدة”، لم تمجد روسيا الخروج من الحقبة السوفياتية باعتباره أسطورة تأسيس أو ولادة وطنية جديدة.
يتم الاحتفال هناك بالنصر الكبير في 9 مايو 1945 باعتباره الحدث الموحد الرئيسي، والذي هو يوم وطني، أكثر بكثير من يوم روسيا، الذي يتم الاحتفال به منذ عام 1992 في ذكرى اعتماد إعلان سيادة الجمهورية الاشتراكية الاتحادية السوفياتية الروسية في 12 يونيو 1990، أو يوم الوحدة الوطنية (أو الشعبية). يتم الاحتفال بهذا الأخير، في 4 نوفمبر منذ عام 2005 إحياء لذكرى تحرير الميليشيات الشعبية لموسكو من احتلال القوات البولندية عام 1612، ونهاية زمن الاضطرابات مع الانتخاب اللاحق لأول قيصر من سلالة رومانوف.
لقد رفع الحكام الحاليون لروسيا، المولودون في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ذكرى الفترة السوفياتية المتأخرة تدريجياً -سنوات بريجنيف (1964-1982) -إلى مرتبة المثل الأعلى المعياري، وهي نموذج للاتحاد السوفياتي “الجيد».
وبالنسبة لأستاذ العلوم السياسية فلاديمير جيلمان، هذه صورة منمّقة لنظام سوفياتي خالٍ من العيوب المتأصلة فيه، مثل نقص المواد الاساسية أو الانتهاك المنهجي للحريات المدنية.
ومن خلال التذرع بالحنين إلى هذا “العصر الذهبي” السوفياتي، يواصل فلاديمير بوتين وحاشيته وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه “مأساة” و “كارثة».
بل وأكثر من ذلك، يرمز الاتحاد السوفياتي، في نظر السلطات الروسية، إلى القوة الجيوسياسية التي كانت تمارسها موسكو في الماضي على جزء من العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، فإن الإشارات العلنية إلى الاتحاد السوفياتي تسمح لروسيا المعاصرة بتبرير طموحاتها الحالية، مع الحفاظ على هالة قوتها العظمى، والتي تترجمها على وجه الخصوص مكانة العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
هذه الحالة الذهنية، التي حملها الكرملين لسنوات، تم تكريسها قانونيًا بمناسبة مراجعة الدستور الروسي عام 2020، حيث تنص المادة 67.1 الآن على أن الاتحاد الروسي هو “الوريث” أو “الخليفة قانونا”، للاتحاد السوفياتي.
نهاية امبراطورية؟
وعلى عكس الروايات التاريخية التي طبقتها دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى، فإن روسيا الجديدة تحافظ على علاقة ملتبسة مع تاريخها الإمبراطوري. بعد ثلاثين عامًا من سقوط الاتحاد السوفياتي، وأكثر من قرن على سقوط إمبراطورية رومانوف، بقي السؤال “أين تنتهي الإمبراطورية وأين تبدأ الأمة؟” بدون إجابة نهائية في المناقشات الروسية. وفضّل حكام روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي الترويج لقراءة مستمرة للتاريخ الوطني، والتي تربط الأوقات المعاصرة بالقيصرية والشيوعية باسم الحفاظ على دولة قوية ودائمة في مساحة أوروآسيوية واسعة.
ومع ذلك، صحيح أن روسيا، حتى اليوم، تشكّل دولة بحجم إمبراطورية، رغم “تقلصها”، تشمل مناطق اتحدت سابقًا عن طريق الغزو أو بموافقة طوعية إلى حد ما. هذه المناطق، التي استفادت من وضع مناطق حكم ذاتي في بداية الحقبة السوفياتية وسمّيت منذئذ “جمهوريات”، هي مراكز تركيز عالٍ لمجموعات عرقية بلغاتها وثقافاتها وعاداتها، التي تختلف عن تلك الخاصة بالأغلبيــــة الإثنية في البلاد.
وتنتمي العلاقة بين الزعماء المحليين والكرملين الى نظام الحكم الإمبراطوري بدلاً من النظام الفيدرالي، بما ان ممارسة هؤلاء الزعماء للسلطة دون منازع مشروطة بإعلان الولاء الكامل، إن لم يكن الخضوع للمرشد الأعلى: فلاديمير بوتين.
ويمثل الحفاظ على هذا الفضاء الفسيفسائي، الذي وصفه الرئيس بأنه “عمل بطولي” للروس، مصدرًا مهمًا لشرعية النظام السياسي القائم. خلال “الحرب الشيشانية الثانية” وضع بوتين، الذي عين رئيسًا للوزراء قبل أن يخلف بوريس يلتسين كرئيس للدولة، الأسس لصورته كرجل قوي قادر على احتواء التهديد الانفصالي وضمان النظام والأمن للجميع.
وبالتالي، فإن الانتهاكات السلطوية للنظام مبررة من خلال هذا الاستقرار، والذي سيكون أحد أهدافه تفادي مرحلة جديدة من تفكك البلاد.
إلا أننا رأينا هذا الخوف من تفكك الدولة يتلاشى بمرور السنين، حيث أصبحت وحدة أراضي البلاد “بأي ثمن” موضع جدل تدريجيًا. ولنستحضر شعار “ لنتوقف عن إطعام القوقاز”، الذي أطلقه القوميون الروس في أوائل عام 2010 وبدعم من المعارض أليكسي نافالني للاحتجاج على تحويلات الميزانية التي تتلقاها الجمهوريات المسلمة في شمال القوقاز، وتعتبر غير متناسبة.
مثال آخر أكثر حداثة: الجدل الحاد بين فلاديمير بوتين والمخرج ألكسندر سوكوروف، عضو المجلس الرئاسي الروسي لحقوق الإنسان، الذي اقترح “التخلي عن” المناطق “التي لم تعد ترغب في العيش معنا في نفس الدولة ووفق نفس القوانين الاتحادية. وقد حذر الرئيس الروسي في رده، من إعادة إنتاج “السيناريو اليوغوسلافي” في روسيا، مشيرًا إلى الحروب العرقية التي دارت في إقليم يوغوسلافيا السابقة في التسعينيات.
التنوع الجوهري
ولئن ظل بناء الأمة في روسيا يتسم بعمق بالماضي الإمبراطوري للبلاد، فإن السلطات تسعى إلى تعبئة القيم التي يفترض أن تجمع أكبر عدد ممكن من الناس. وهذه هي القيم الوطنية والمحافظة أو “التقليدية” التي تروج لها الدولة والفاعلين شبه الحكوميين، بما في ذلك المعارضة البرلمانية الموالية للكرملين أو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أو السلطات الروحية الإسلامية. ومع ذلك، فإن هذا الإجماع المحافظ المفترض ليس العصا السحرية التي تجعل من الممكن التغلب على الانقسامات الداخلية.
أحدها يُرمز إليه بالفجوة المستمرة بين الإثنيات والديموقراطية، المجتمع الإثني-الثقافي ومجتمع المواطنين. هذا التمييز هو أولاً وقبل كل شيء مصطلحي: ما هو “روسي”،” الصفة المتعلقة باللغة والثقافة والعرق “لا تساوي ما هو “من روسيا”،” صفة تتعلق بالدولة والمجال العمومي. “لكنه يعكس أيضًا واقعًا ملموسًا : من بين ما يقرب من 146 مليون نسمة في البلاد ، ينتمي حوالي 30 مليونًا إلى مجموعات عرقية أقلية “أو “قوميات”. وتشير العديد من هذه المجموعات إلى نفسها على أنها أمم، ويمكن في بعض النواحي ، وصفها على هذا النحو.
كما يتم التعبير عن التنوع الجوهري في السياق الروسي على المستوى الديني. فإلى جانب الغالبية العظمى من المواطنين -ما يصل إلى 70 بالمائة، أو مائة مليون شخص -يعلنون أنفسهم كمسيحيين أرثوذكس “رغم أن هذا هو تعريف ثقافي وليس دينيًا”، فإن 20 مليون نسمة من سكان روسيا هم من الثقافة أو الدين الإسلامي. علاوة على ذلك، من المرجح أن تزداد نسبة هؤلاء السكان المسلمين في العقود المقبلة، بسبب الاتجاهات الديموغرافية وعامل الهجرة، مما سيكون له عواقب وخيمة على مناقشات الهوية في البلاد.
إن تعزيز العضوية في مجتمع من المواطنين الروس يمكن أن يساعد في تجاوز هذه الاختلافات العرقية والثقافية. ومع ذلك، من الناحية العملية، فإنه يصطدم باستمرار كره الأجانب “المنتشر” الذي يستهدف ما يسمى بالأقليات المرئية والتي يطلق عليها عادة “الأشخاص ذوي المظهر غير السلافي».
كره الأجانب هذا، لا يستثني مواطني روسيا عرقيًا من غير الروس، الذين يتعرض ممثلوهم بشكل منهجي للوصم والتمييز. ان الأقليات، أكانت أصلية أم هاجرت مؤخرًا “على سبيل المثال من بلدان آسيا الوسطى”، هي أهداف لأعمال شغب عرقية أو عنصرية، كما كان الحال في كوندوبوجا، كاريليا، عام 2006، أو بيريوليوفو، إحدى ضواحي موسكو الجنوبية الغربية، عام 2013. ويصعب أيضًا الحديث عن مجتمع وطني يلتزم بوعي بالدولة وقوانينها، لاستخدام التعريف الكلاسيكي للأمة الذي اقترحه مارسيل موس، في سياق لا يثق فيه الكثير من الروس بالمؤسسات العامة. وهكذا، فإن أكثر من 50 بالمائة من المستجوبين لا يثقون بالشرطة والسلطات الإقليمية والمحلية، في حين أن نسبة انعدام الثقة في الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية، تتجاوز 60 بالمائة.
الاختيارات الملتبسة
للسلطات الروسية
تجد هذه الديناميكيات المتضاربة صدى في التباس الاستراتيجيات التي تتبناها السلطات الروسية للتعاطي معها.
أولاً، تدين السلطات الروسية علناً أي تعبير عن كره الأجانب، لكنها في الواقع تساهم في إضفاء الشرعية على المواقف المعادية للأجانب من خلال استخدام مفاهيم مثل “الجريمة العرقية” أو نشر خطاب مناهض للهجرة. على سبيل المثال، يعتبر عمدة موسكو سيرجي سوبيانين، أن “الجريمة العرقية” هي “إحدى المشاكل الرئيسية” للعاصمة الروسية، ويريد استبدال العمال المهاجرين في مواقع البناء بأشخاص “بجودة أعلى”، أي مواطنين روس من المناطق المحيطة بموسكو.
ومع ذلك، منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قامت السلطات الروسية بقمع الجماعات القومية المتطرفة الصغيرة، وتسعى، في السياق الجيوسياسي الجديد الذي يتميز بمواجهة حادة بين روسيا والغرب، إلى توجيه الكراهية التي يشعر بها العديد من سكان البلاد تجاه المهاجرين والأقليات العرقية، على الدول الغربية. في الواقع، تسبّب ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا عام 2014 في انخفاض كبير في كراهية الأجانب الداخلية، والتي أعيد توجيهها جزئيًا إلى الولايات المتحدة وأوكرانيا.
ثانيًا، يبرز القادة الروس بشكل منهجي الخطاب حول روسيا كدولة “متعددة الأعراق والأديان”، ويصرون على المساواة بين المواطنين من مختلف الانتماءات العرقية أو الدينية. لكن في نفس الوقت، يستثمرون اليوم أكثر في الترويج لمصطلح “الروس”، وليس “من الاتحاد الروسي”، بهدف تعزيز سياسة تأثيرهم في الشتات الروسي في فضاء الاتحاد السوفياتي السابق، وما بعده. إن قرار فلاديمير بوتين بإنهاء التعليم الإجباري للغات الأقليات في المدارس العامة الواقعة في أراضي الجمهوريات المستقلة، يتناقض مع هذا الخطاب الرسمي ويزرع بذور النزاعات المستقبلية.
أخيرًا، وضعت الأزمة الأوكرانية، التي لا تزال نتائجها غير محددة، حدا، وبشكل نهائي، لفكرة مشروع تكامل وطني محتمل بين روسيا وأوكرانيا. لقد تحررت الثانية من الأولى، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو حتى الروحاني -مع إنشاء الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، في ديسمبر 2018، الملحقة ببطريركية القسطنطينية.
وهذا الانفصال بين بلدين قريبين تاريخياً وثقافياً يمكن أن يعطي دفعة جديدة لبناء الدولة في روسيا، كما هو الحال في أوكرانيا. ومع ذلك، منذ ضم شبه جزيرة القرم، وجد الاتحاد الروسي نفسه في موقف دولة كانت حدودها وستظل متنازع عليها من خارج البلاد.
يمكننا أن نلاحظ أيضًا أنه بعد ثلاثين عامًا من نهاية الاتحاد السوفياتي، لا تزال هياكل هوية المجتمع الروسي غير محددة، والعقبات التي تحول دون التوحيد الوطني لا تزال عديدة.
*دكتور في العلوم السياسية من المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، واستاذ مساعد وباحث مؤقت في الحضارة الروسية، جامعة السوربون.