البريكسيت أشعل فتيل الأزمة

جزر المانش: قطع من فرنسا «التقطتها إنجلترا»...!

جزر المانش: قطع من فرنسا «التقطتها إنجلترا»...!

--  نسي الغزاة الفرنسيون الأرخبيل، وهو اليوم غني واستراتيجي في اللعبة الدبلوماسية
-- تربطهم الجغرافيا بنورماندي لكن التاريخ يربطهم بالملكة
--  تحدثت الأوساط الشعبية الفرنسية حتى الحرب العالمية الثانية
-- إليزابيث الثانية ليست ملكة على خمس عشرة دولة فحسب، بل إنها تحمل أيضًا لقب «دوقة» نورماندي

 
  تربطهم الجغرافيا بنورماندي لكن التاريخ يربطهم بالملكة. كان هذا الوجود الإنجليزي الخفي في نورماندي سلميًا لفترة طويلة... على الأقل حتى البريكسيت...
    صيادون فرنسيون يغلقون ميناء جيرسي؛ سفن حربية بريطانية تقوم بدوريات لإعادة تأكيد حقوقها في هذه المياه؛ تهديدات فرنسية بقطع التيار الكهربائي عن جزر المانش. لا شك في أن البريكسيت أدى إلى كهربة المانش، وأصبح هذا الأرخبيل المسالم يشبه إلى حد ما جبل طارق بالنسبة لإسبانيا: نقطة خلاف دبلوماسية. الجزر نفسها لا تثير أي نزاع. إن مياهها الإقليمية المليئة بالأسماك هي التي تؤدي إلى تفاقم التوترات بين الصيادين الفرنسيين وأرخبيل المانش هذا، والذي كانت فرنسا مجاورة له بسلام حتى ذلك الحين.

إليزابيث الثانية
 “دوقة” نورماندي
   هذه الجزر هي جزء من الأصول النورماندية للنظام الملكي الإنجليزي. لكل من محافظتي جيرسي وجيرنسي حكومتهما الخاصة، ويعترفان بالملكة على أنها صاحبة السيادة. إليزابيث الثانية ليست ملكة على خمس عشرة دولة ورئيسة الكومنولث فحسب، بل إنها تحمل أيضًا لقب “دوقة” نورماندي. يقول المؤرخ كريستوف مانوفرييه، أستاذ وباحث في جامعة كاين: “مسألة غير معروفة كثيرًا لأنها لا تتباهى بها لأسباب دبلوماسية واضحة».
   يعود هذا الارث إلى وليام الفاتح الذي عبر المانش عام 1066 ليضيف تاج إنجلترا إلى لقب دوق نورماندي. وتتقاسم نورماندي وإنجلترا قرن ونصف من المصير المشترك. حتى عام 1204، عندما قام ملك فرنسا فيليب أوغست بدمج مقاطعة فايكنغ السابقة لحزامه الملكي، احتُلت كل نورماندي... كلها؟ لا! بقي أرخبيل قبالة كوتنتين ثابتًا ومرتبطًا دائمًا بدوقه، أي بملك إنجلترا.
   بعد ذلك، حاولت فرنسا، في عدة مناسبات، الهبوط في جزر المانش هذه. للأسف، تحطمت الحملات أمام الحماية الطبيعية التي يمنحها انعزالها. شعاب مرجانية وضحلة في المانش، بحر وصفه الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو بأنه “متمرد”، حيث يجب الحذر من “التغييرات الدراماتيكية للمحيط”. و”إذا لم تكن ربّانا سابقًا ومحنّكا”، فاحذر، “لقد انتهى الأمر، فالسفينة تنهار وتغرق”، حذّر الكاتب عندما كان منفيا في هذه الجزر، في كتابه “عمّال البحر».

أرخبيل غير استراتيجي لفترة طويلة
    على الجانب الفرنسي، لم يتحول انتزاع هذه الجزر النورماندية من ملك إنجلترا إلى هوس. في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كان هناك عدد قليل من الغارات الفرنسية خلال حرب المائة عام، ولكن لم يكن هناك شيء دائم، فلا توجد في جيرسي وجيرنسي أي ثروة يمكن أن تثير الجشع. و”الرهان الاستراتيجي للجزر معدوما تقريبًا منذ أن مرت الطرق البحرية الرئيسية شمالًا”، يحلل كريستوف مانوفرييه. حتى نابليون، العدو الكبير لإنجلترا، لم يكن يميل إلى الاستيلاء عليها.
   «لم تكن هناك جدوى من إرسال جيش كبير لغزو ثلاث حصوات، خاصة أن أسطولها البحري كان في حالة سيئة بعد ترافالغار”، يضيف المؤرخ. الوحيدون الذين احتلوا مؤخرًا أرخبيل المانش هم الألمان عام 1940، توقّيا حينها من إنزال للحلفاء نحو كوتنتين، لكن هدفهم لم يكن عسكريًا فقط.
   من الناحية الرمزية أيضًا، قاموا بغزو أرخبيل مرتبط بإنجلترا شديدة المقاومة لهتلر. كان الاحتلال مرهقا، واستمر الى ما بعد عمليات الإنزال في نورماندي بما أن تحريره تم بعد استسلام ألمانيا في 8 مايو 1945. في غضون ذلك، لم تبذل قوات جلالته أي محاولة لاستعادته. ومرة أخرى يثبت الأرخبيل ضعف اهمّيته الاستراتيجية.

   لم ينعطف الأرخبيل نحو الجزر البريطانية الا في مرحلة متأخرة. متجهة منذ فترة طويلة نحو القارة، جذبت الجزر إلى أراضيها الهوغونوتس، غير المرغوب فيهم في فرنسا بعد إلغاء مرسوم نانت (1685)، وكهنة فارين من الثورة.
    عندما أقام فيكتور هوغو هناك، انتبه للقرب الثقافي لهذه الجزر من فرنسا. وفي “عمّال البحر”، كتب “جزر المانش هي قطع من فرنسا سقطت في البحر والتقطتها إنجلترا”. ويشير إلى أن “الزنابق كثيرة”، وأن “جيرنسي تنسخ باريس في الموضة”. ويشير الكاتب أيضًا إلى أن “الأرخبيل النورماندي يتحدث الفرنسية، مع بعض الاختلافات “...” ويحترم هوغو هذه “اللهجة العامية”، “لغة حقيقية، غير مستهجنة على الإطلاق”. وقام بنشر النورماندية التي اكتشفها على عين المكان: الأخطبوط، كما ينطق في الارخبيل، وكان نجاح الكلمة كبيرًا الى درجة أنها حلت جزئيًا محل كلمة أخطبوط باللغة الفرنسية الاصلية.

    كان مجتمع الجزيرة الذي اكتشفه هوغو ثنائي اللغة، حيث تتعايش الصحف الإنجليزية مع الصحافة الفرنسية. “ذهبت النخب للدراسة في إنجلترا، لكن الطبقات العاملة كانت تتحدث الفرنسية حتى الحرب العالمية الثانية”، يُذكّر كريستوف مانوفرييه. اليوم، هذه الفرنسية تحتضر هناك ... حتى لو انهم لا يرغبون في أن أقول ذلك! «.
   في الواقع، لئن تحوّل الأنجلو نورمان إلى اللغة الإنجليزية، فقد ظلوا مرتبطين بشدة بهويتهم النورماندية، وإلى محافظاتهم، وقوانينهم العرفية، وأسمائهم الجغرافية الفرنسية. الشيء نفسه ينطبق على الألقاب: لن يربك ناطق بالفرنسية وجود رئيس وزراء في جيرسي يُدعى جون لو فوندريه، أو وزير في غيرنسي يُدعى جوناثان لو توك.

عشرات السنين
من التقارب
    لقد أُهمل الأرخبيل فترة طويلة، وكاد أن ينساه الغزاة الفرنسيون، وها هو اليوم غني واستراتيجي في اللعبة الدبلوماسية. لقد مضى وقت طويل منذ أن امتنعت باريس عن المطالبة بجيرزي أو غيرنسي أو سارك أو هيرم أو ألديرني، لكن البر الرئيسي نورماندي يحاول الاقتراب من هذه الجزر، التي تتحدث الإنجليزية ولكن سكانها يعتبرون أنفسهم نورمانديين.
   “يأتي المحافظ كثيرًا إلى كاين، ويزور رئيس منطقة نورماندي الجزر أيضًا”، يؤكد كريستوف مانوفرييه، وهناك اتفاقية جامعية بين ولاية جيرسي وجامعة نورماندي في كاين لاستقبال الطلاب. لذلك فإن البريكسيت الذي وقع علينا يتعارض مع عقود من التقارب!”. والأزمة الصحية، التي جعلت الاتصالات البحرية مع القارة نادرة طيلة عامين تقريبًا، لم تسعف الوضع...