على هامش سباق قصر الإليزيه:

هل سيطرت حركة فرنسا المتمردة على اليسار الفرنسي...؟

هل سيطرت حركة فرنسا المتمردة على اليسار الفرنسي...؟

-- للتعبير عن غضبه من اليسار، وتعبيرا عن هوية اليسار، لا يزال بإمكان الناخب المراهنة على ورقة ميلينشون
-- الانتخابات الرئاسـية هي محرك وقيد للمتمردين: التعود على منطقها يمكن أن يفسد خطة سياسية واعدة
-- التشكيك في الامتداد السياسي للملحمة ميلينشونية ليس إهانة لأحد
-- حركة فرنسا المتمردة عملاق رئاسي بأرجل من طين في بقية الحياة السياسية
-- يعتبر التصويت لميلينشون كأكثر تصويت مناهض لماكرون بشكل أصيل
-- تستفيد حركة فرنسا المتمردة وميلينشون من المناعة الكاملة من حيث المسامية مع السلطة الماكرونية


   استطلاع تلو آخر، يتميّز ترشّح جان لوك ميلينشون على اليسار. فهل ستعطي هذه الحملة الجديدة للخطيب المتمرد لليسار اتجاهه ومفاتيح مستقبله؟
   شهدت الولاية المنتهية ظهور العديد من الحركات الأفقية المزعومة، والتي ولدت من عدم، وساهمت في تصفية النظام الحزبي القديم للجمهورية الخامسة، مما تسبّب في تجزئة انتخابية وأيديولوجية جديدة، ثمرة آمال للبعض، وموضوع شك وقلق لآخرين.
   وفي هذا الصدد، يعتبر بروز “حركة فرنسا المتمردة”، التي أصبحت “الاتحاد الشعبي”، حالة رمزية مليئة بالآمال والمخاوف وخيبات الأمل. وبعد الربيع القادم، وفي نهاية فترة الخمس سنوات المدهشة من عدم اليقين والمخاطر، هل ستكون لحركة فرنسا المتمردة -الاتحاد الشعبي إمكانية تحقيق تجانس اليسار؟

ثمانية عشر في قصر بوربون،
 كم مليونًا سيصلون إلى الميناء؟
   من خلال النجاح في تشكيل كتلة في الجمعية الوطنية عام 2017، حققت حركة فرنسا المتمردة نتيجة ملحوظة، بعد نتيجة جان لوك ميلينشون في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2017.
وكان من الممكن توسيع هذه الكتلة بشكل أكبر إذا أقام المتمردون تحالفات مع قوى اليسار الأخرى في الانتخابات التشريعية. لم يفعلوا ذلك، بسبب رفضهم التواطؤ مع القوى القديمة، ولكن أيضًا، بسبب إرادة هذه الأخيرة في عدم التعاون مع اتباع جان لوك ميلينشون.

   واجه العديد من مسؤوليها المنتخبين ليس فقط الحزب الاشتراكي، ولكن أيضًا الحزب الشيوعي الفرنسي، في مونتروي أو أوبيرفيلييه، بطريقة مذهلة. وتبقى الحقيقة أن “المتمردين”، منفردين أو شبه منفصلين، قادمون من أركان فرنسا الأربعة، ثمانية عشر يجلسون على مقاعد الجمعية الوطنية. من أريج إلى سين سان دوني، مرورا بمرسيليا والشمال، حصلت الحركة الشابة على تفويض برلماني، وجذبت الانتباه لبضعة أسابيع.
   لم تكن الخمس سنوات المنتهية سهلة على “المتمردين” وحتى على السبعة ملايين ناخب الذين علقوا آمالهم على هذه “الحركة الغازيّة” الشابة، التي تمكّن مرشّحها من تجاوز مرشحي اليسار الآخرين في ابريل 2017، واقترب من الجولة الثانية.

   ما يسمّى بقضية “التفتيش”، والمظاهرة المشتركة مع التجمّع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا، والانسحابات والإقصاء، والانفعالات المتفرقة لـ جان لوك ميلينشون، فضلاً عن الحوادث الأخرى التي استغلها خصومهم السياسيون بمهارة -وآخرها مقطع فيديو قصير يظهر صخبا بين الكسيس كوربير وراشيل جاريدو من ناحية، والمتحدث باسم أريك زمور من ناحية أخرى، خلف كواليس سي 8 / سي نيوز -تشكل عناصر يتم تقديمها على أنها تدين “المتمردين».

   وللتعبير عن غضبه اليساري، وتعبيرا عن هوية اليسار، لا يزال بإمكان الناخب المراهنة على ورقة اقتراع ميلينشون، رغم إمكانية الممانعة والتردد.
   ورغم موجة العنف الرمزي على المقاعد الأخرى في الجمعية الوطنية، والهجومات في استوديوهات التلفزيون، فإن هذه الأحداث تتكرر ويعاد بثها حسب الرغبة. إنها لا تخدم “المتمردين”، لكنها تكرس ما يجسدونه -اليسار الراديكالي -كهدف.
  ورغم هذه الحوادث المتعددة، لا تزال حركة فرنسا المتمردة تلعب دورًا استقطابيًا في الحياة السياسية الفرنسية. أولاً من خلال زعيمها، آخر خطيب في الحياة السياسية الفرنسية، ثم من خلال الضعف المروّع لمنافسيها من اليسار، وأخيراً من خلال عدوانية خصومها، وهم في الغالب مدّعون عامون وليسوا مناظرين.

   يتقدم ترشّح جان لوك ميلينشون، حتى اليوم، على المرشحين الآخرين من اليسار. ومن الواضح أن السردية التي تم تقديمها، والتي بموجبها سيكون برنامج “المستقبل المشترك” أساس التصويت لـ حركة فرنسا المتمردة وسيؤدي إلى تعبئة قطاعات كبيرة من المجتمع، هي مثل جميع السرديات السياسية، يجب أن نأخذ منها مسافة. إذا كان هناك فرنسيون قرأوا هذا البرنامج، فإن مفتاح إمكانات حركة فرنسا المتمردة تكمن في الاستثمار في شخص قائدها، جان لوك ميلينشون، والمعنى الذي يعطيه كل واحد للورقة التي ينوي إيداعها في الصندوق.

كل خمس سنوات، دقيقة تحالف مع الناخبين؟
   في هذه الفترة، يميل الناخبون إلى التطرف. في منتصف ديسمبر، بالنسبة للعديد من الناخبين اليساريين، كان الشاغل الأساسي هو إظهار المعارضة الحازمة لماكرون. فصورة رئيس الجمهورية تجمع تأثيرات متناقضة، مع تعبير حيوي وحاد في كثير من الأحيان، وانتقامي في أحيان أخرى. والهدف المنشود من خلال استخدام ورقة ميلينشون هو على الأرجح العثور على هوية سياسية حقيقية، مستمدة من الماضي، تسمح بتخيّل يسار مدفوع نحو المستقبل.
   لقد نالت ولاية فرنسوا هولند من كل اليسار. فمن يسار الوسط إلى أقصى اليسار، رأى الجميع قيمتهم السياسية تتدهور بشكل دائم. بمعنى ما، رغم السياسات التي تم تبنيها، فقد ألقت رئاسة هولاند بعض الأوساخ على القوى الحزبية اليسارية.

   لذلك، يبحث بعض الناخبين عن ورقة اقتراع فعالة من حيث تأكيد الهوية اليسارية، وعلاوة على ذلك، مرشح قادر افتراضيًا على انتزاع الجولة الثانية، كما كان جان لوك ميلينشون عام 2017. لم تنجح ترشّحات هيدالغو ومونتبورغ وروسيل بعد في إثارة الحماس. أما بالنسبة إلى كريستيان توبيرا، فإنها تظل لغزًا عميقًا، فاستحضار ثورة الكانوت، الذين “كانوا عراة تمامًا”، هو، في نفس الوقت، بعيدًا عن علم الاجتماع الحالي لـ “كروا روس” (حي في ليون، تم ترميمه، ومرتبطًا تاريخيًا بـ الكانوت)، وفي قطيعة مع الحياة الاجتماعية الحالية للبلد.

   لقد دلت التصريحات الأخيرة لآن هيدالغو وأرنو مونتبورغ، على عجزهما وتخليهما ضمنيًا، وبالتالي حكما على عائلتهما السياسية، الحزب الاشتراكي، بالانقراض. ويقود فابيان روسيل حملة تستهدف الشعب الشيوعي في محاولة لتوسيعه… قليلاً. وهكذا يصبح الاستثمار في الورقة اليسارية رهانًا محفوفًا بالمخاطر.
  إذن، يتم إعادة الاستثمار في ورقة ميلينشون كتأكيد لهويتها اليسارية، وكأكثر تصويت مناهض لماكرون بشكل أصيل، في حين أن الأحزاب اليسارية، باستثناء الحزب الشيوعي الفرنسي، قدمت جحافل كبيرة إلى حزب الجمهورية الى الأمام، والذي بعد خمس سنوات من انتخاب إيمانويل ماكرون لا يدافع عنهم في السباق الرئاسي.

   كم عدد الكوادر السابقين في الحزب الاشتراكي وأوروبا البيئة-الخضر صاروا من قوات الماكرونية؟ ان حركة فرنسا المتمردة وجان لوك ميلينشون، تستفيدان من المناعة الكاملة من حيث المسامية مع السلطة الماكرونية، كما هو الحال مع السابقتين. العناد لا يجلب الود والتعاطف، لكنه لا يقلل من قيمة الكلمة السياسية.
   والأكثر حسماً، أن أوروبا البيئة-الخضر، عززت بالتأكيد مواقعها المحلية، ولكن، كما هو الحال في كل مكان في أوروبا، يقتصر جمهورها الانتخابي على مجموعات اجتماعية وحضرية، وعلى الشباب والخريجين. على المستوى الأوروبي، يدرك أنصار البيئة هذا الواقع تمامًا. ورغم بعض التجارب المحلية الناجحة في بلديات شعبية (غراند سينث على وجه الخصوص)، فإن هذا الانغلاق على عالم الخريجين الحضريين يظل هو القاعدة، وقاعدة معيقة، طالما أن الفئات الاجتماعية المعنية لا تتولى قيادة ائتلاف اجتماعي اغلبي. اما الحزب الاشتراكي، فهو يتجرد من بعده الوطني، وفشل في بلورة أي خطة هجومية على المستوى الوطني، مع أن العديد من رؤساء البلديات الذين أعيد انتخابهم مؤخرًا مقربون منه.

بين “الشعبوية اليسارية” وشيطنة اليسار
   وللفوز بالهيمنة على اليسار، منذ مؤتمر يونيو 2018 لحزب اليسار، خفف جان لوك ميلينشون خطابه حول الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن موقفه الراديكالي قد أبعد ناخبين محتملين من بينوا هامون، خاصة عام 2017، ومنع حركة فرنسا المتمردة من نتف ريش العصفور الاشتراكي بالكامل.
    بالتنازل في هذه النقطة، ولكن بإدانة سيريزا وتسيبراس علانا، قطع ميلينشون مع جناحه الأكثر نقدا للاتحاد الأوروبي، منهم جورج كوزمانوفيتش، أحد المقربين منه، وهو شخصية ذات كفاءة عالية في معرفة أوروبا الوسطى والشرقية. لكنه يقلق الذين يرون ان تنازل تسيبراس في اليونان كان قبل كل شيء لتجنب الأسوأ لبلاده. فهل فعل تسيبراس أي شيء آخر، بالتأكيد دون استعداد جيد، غير تفادي الفوضى في اليونان؟

  ولكسب الهيمنة، لا يمكن لـ حركة فرنسا المتمردة الاكتفاء بحركة ترى كل خمس سنوات أن عدد ناشطيها ازداد من 5000 إلى 10000 في كامل فرنسا (وفقًا لتقدير مانويل سيرفيرا مارزال، مؤلف كتاب اليسار الشعبوي -علم اجتماع فرنسا المتمردة) لتصل إلى 100 ألف لبضعة أشهر خلال الانتخابات الرئاسية. ربما تكون هذه الصورة هي الأقل سوءً عندما نضع رئاسة الجمهورية كأولوية. في غضون ذلك، فإن حركة فرنسا المتمردة –الاتحاد الشعبي محكوم عليها بتجاهل الانتخابات الوسيطة.

   باستثناء حملة كليمنتين أوتين في إيل دو فرانس في الانتخابات الإقليمية، التي حققت نجاحًا حقيقيًا بأكثر من 10 بالمائة من الأصوات، قادتها بمفردها وبمساعدة قواعد حركة فرنسا المتمردة والحزب الشيوعي الفرنسي، فان “المتمردين” لم ينجحوا حقًا في ترسيخ أنفسهم في المجالس الجهوية، ولا حتى في مجالس المقاطعات.
   إن المأزق الذي يواجهه التوطين المحلي قد يدفع ثمنه ليس فقط لحظة المواعيد الوطنية، ولكن أيضًا في الاعتراف المحلي بنشطاء حركة فرنسا المتمردة كعناصر قادرة على قيادة الموضوعات والشؤون المحلية. ان الانتخابات الرئاسية هي في نفس الوقت محرك وقيد “للمتمردين”: التعوّد على منطقها يمكن أن يخرّب خطة سياسية واعدة.

الميدان المحلي مهمل
   آلة انتخابية ذات مهمة رئاسية حصرية تقريبًا، وبالتالي فإن حركة فرنسا المتمردة يقودها أقل من 10 الاف ناشط، مرة أخرى وفقًا لمانويل سيرفيرا مارزال. وهذا بالتأكيد عدد كاف للانخراط في هجوم انتخابي رئاسي على رهان يجسده زعيمها، لأن الرقم من المحتمل أن يزداد عشرة أضعاف في وقت الرئاسية، ولكن مع ذلك أقل من أن ينسجم مع الميدان والبناء محليًا على التفوق المكتسب خلال الحملة الرئاسية، والتي تؤدي مع ذلك الى الانتخابات الاساسية في حياتنا السياسية.

   وهكذا، يجد اليسار الراديكالي صعوبة في الاندماج في المؤسسات، وبالتالي تغييرها. كما أنه يرفض، بالتأكيد بدافع البحث عن الطهورية والعذرية، أن تغيّره تلك المؤسسات. ومن هنا جاءت كلمة “المقاومة” بينما حقق مرشحها ما يقرب من 20 بالمائة عام 2017. والمفارقة التي تزداد وضوحًا، أن النواة الرئيسية لـ حركة فرنسا المتمردة هي أساسًا من الجناح اليساري للحزب الاشتراكي، الحزب الحكومي للجمهورية الخامسة.

   إذن، تجد حركة فرنسا المتمردة صعوبة لترسيخ نفسها في عالم أعضاء مجالس المدن اليساريين في المدن الصغرى أو المتوسطة أو الكبرى، الذين يمارسون تعايشا براغماتيا إلى حد ما مع أنقاض الحزب الاشتراكي. في الواقع، من خلال التجاهل المتعمّد للاستثمار المحلي، تسمح حركة فرنسا المتمردة –الاتحاد الشعبي باستمرار حياة سياسية يسارية تفلت تمامًا من هيمنتها الوطنية، وتحرم نفسها من وسائل إعادة تشكّل على المدى الطويل. منطق فترة الخمس سنوات، يعلو على منطق الحياة اليومية الممزوج بطول النفس، باختصار، وحرب المواقع.

   هذه المفارقة يمليها التركيز الذي فرضه تطور نظام الانتخابات الرئاسية. في الواقع، يبدو أن الانقسام يفرض نفسه: على الحركة الغازيّة، الهجوم على السماء؛ وعلى الاحزاب القديمة، ووجهاء إدارة الشأن اليومي المحلي. أليس هذا التناقض، وهذه الفجوة، هي مصدر الضعف النسبي لـ حركة فرنسا المتمردة على اليسار؟

بندقية الطلقة
الواحدة عام 2022؟
   في الواقع، يبرز السؤال الأساسي محمّلا بطاقة انفجارية. أحد أهداف حركة فرنسا المتمردة ومرشحها، هو التغيير السريع للنظام. وحتى مع الأخذ في الاعتبار الفوز بالانتخابات الرئاسية، فإن الأمر يتطلب تحالفات واسعة لتغيير الدستور والانتقال إلى نظام سياسي آخر. النية نبيلة، وسيتعين على الرئيس ميلينشون الإقناع والتجميع وتقديم التنازلات. “الشعب” شيء، والأعيان والوسطاء شيء آخر. وما عاشه ديغول في فجر النظام لا يمكن إنكاره عند غروبه ...
   لا تتمتع الإدارة المحكمة بشكل خاص لحركة فرنسا المتمردة بموهبة ثنائية الاتجاه، ولا التواجد في نفس الوقت في كل مكان، وستحتاج إلى وسائط برأس مال سياسي كافٍ للإقناع محليًا بمزايا كل من الهيئة التأسيسية ونتائج عملها. وحتى لو كانت مستنيرة، فإن قيادة الحزب تعمل كطليعة لا تملك مهارة تثمين انتصاراتها وجعلها مثمرة.

مفارقة “ الشعبوية
 اليسارية” الفرنسية
   ومن ثم فإن التناقض بين “الشعبوية اليسارية” على طريقة حركة فرنسا المتمردة، هو أنها تتخلى عن العمل اليومي طويل المدى من أجل طفرات، ومن أجل هدف وحيد تقريبًا الانتخابات الرئاسية. ان وتيرة مؤسسات النظام، بمواعيدها واختباراتها المفروضة، تتغلّب على حرب المواقع، البطيئة وتتطلب الصبر، منطقة منطقة، الهادفة إلى كسب المجتمع. وفي هذه الحالة، تخضع حركة فرنسا المتمردة لروح الجمهورية الخامسة في نسخة الولاية بخمس سنوات أكثر من الكتاب الشهير “الشعبوية اليسارية” الذي كان بصدد الاعداد حينها، الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية، وهو تأليف كاشف لعمل إرنستو لاكلاو وشانتال موف.

   إذا قرأنا هذا الكتاب بعناية، يمكن أن نستنتج أن “الشعبوية اليسارية” كان يجب أن يتم توجيهها في المقام الأول إلى أولئك الذين لم يكونوا موجودين في الجولة الأولى من عام 2017، أي الذين كان بإمكانهم التصويت لميلينشون ولكنهم لم يفعلوا ذلك، واختار كثيرون منهم إيمانويل ماكرون. ومع ذلك، فإن اختيار جان لوك ميلينشون المتعمّد هو محاولة القبض على جميع الراديكاليين في المجتمع الفرنسي، والذين يكونون في بعض الأحيان متغيّرين ومراوغين. “المعتدلون”، الذين تردد الكثير منهم، وفقًا للتحقيقات، بين إيمانويل ماكرون وجان لوك ميلينشون، ليسوا هدفًا لـ حركة فرنسا المتمردة، التي تتخلى عنهم عمدًا... هل هو خطأ استراتيجي فادح؟

أغنية البجعة اليسارية؟
   مفارقة “المتمردين” هي الرغبة في الانفصال عن الجمهورية الخامسة ونظامها بينما يضعون كامل بيضهم في سلّة الرئاسة، ويعتمدون بشكل كبير على شخص وحيد جون لوك ميلينشون. بدون انخراط سياسي على جميع مستويات الحياة السياسية، فإن حركة فرنسا المتمردة هي عملاق رئاسي بأرجل من طين في بقية الحياة السياسية.
   إن الإمكانيات والهشاشة المفترضة، تجعلان ترشّح ميلينشون كمنافس ثانوي في جوهر الحملة الرئاسية. بمعنى ما، يعاني ترشيح ميلينشون من انقسام اليسار الذي يحاول إغراءه، ولكن أيضًا من المحاكمة القاسية التي استهدفت، منذ عام 2017، اليسار وإرثه.
   يتمتع كتاب مانويل سيرفيرا-مارزال بميزة، فمن خلال تحليل دقيق يميّزه كعالم اجتماع، لإظهار كيف أن اداء حركة فرنسا المتمردة هو قوة وضعف على حد سواء، وقدرة على الانفتاح والانغلاق حول نواته القيادية. وقد نجحت هذه الأخيرة في إنشاء منظمة “غير منظمة” تخدم تصوّر طليعة ملتحمة حول زعيم ومتحدث، تجسيدا وموضوعا لعطاء وجهد مبعثر لمجموعات مشتتة في بعض الأحيان، إن لم تكن غير متجانسة.

الفتح والطريق المسدود
   لذلك هناك هدفان غير متوافقين تقريبًا في استراتيجية حركة فرنسا المتمردة –الاتحاد الشعبي: تثبيت اليسار الراديكالي كمحور لإعادة بناء اليسار المدمر، ورفض أن تصبح الحركة العضوية لليسار. رفض يتوافق مع الرغبة في استهداف، كأولوية وحصريا تقريبًا، رئاسة الجمهورية، وهو هدف ينطوي على عودة جماعية لمئات الآلاف من الفرنسيين الذين يعيشون في حالة امتناع عن التصويت إلى صناديق الاقتراع.
   لا يمكن تفسير التعنت تجاه قوى اليسار الأخرى، والأصوات المتنافرة داخله، وكذلك وسائل الإعلام اليسارية (التي كانت ذات يوم ضحية صواعق جان لوك ميلينشون) إلا من خلال الإرادة الراسخة في مخاطبة “ المجموعات الاجتماعية “الغاضبة ولكن غير الفاشية” التي من المفترض أن تتجمّع عندما يحين الوقت حول زعيم “المتمردين».
   مع خطر ارتكاب بعض الأخطاء في التفسير، فيما يتعلق بتمثيل بعض الحركات التي تغطيها وسائل الإعلام ولكنها غير مهمة من الناحية العددية، ودون أي تأثير حقيقي على التشكّل البطيء لرؤية عالم المواطنين، فإن حركة فرنسا المتمردة غارقة في معارك ليست غير مؤكدة فحسب، وانما غير قادرة خاصة على توليد دعم شعبي قوي ودائم.
  مخاطرة أخرى، تفضيل البرامج التلفزيونية، مثل تلك التي يقدمها سيريل حنونه، والتي تجرّ السياسيين الذين يشاركون فيها الى القاع، والتي دفع أليكسيس كوربيير وراكيل جاريدو ثمنها مؤخرًا.
      وبينما يبدو ان إبداع صناع الدعاية أو خبراء الاتصال في حركة فرنسا المتمردة لا ينضب، فإن هذه الأخطاء التكتيكية إن لم تكن استراتيجية للحضور تؤدي إلى اتهامات بـ “ووكيزم” أو “اليسار الإسلامي”، وتضع الخطب والأشخاص في نفس رتبة فلتان كرونيكورات تلفزيون الواقع.    نحن نتفهم أن حركة فرنسا المتمردة تهرب من قيادات الحزب الاشتراكي، ولكن ما هو الهدف، إذن، من وضع نفسها في مستوى ماثيو ديلورمو أو بنيامين كاستالدي (لا نعني الإساءة إلى مهنتهما كمقدمي برامج)؟ لغز…

الربح أو الخسارة
   «المتمردون” يراهنون على النجاح أو الفشل خلال هذه الانتخابات. فإما أن يفوزوا بالرئاسة ويغيروا النظام والنظام الحزبي، أو يفشلون ويجدون أنفسهم بلا قوة بعد مسيرة طويلة لم تنقصها الروح ولا السفن المحترقة من ورائهم، تثير الاحقاد.
   الفائدة الوحيدة التي يمكن توقعها على الفور من استراتيجية ميلينشون هي أنه، بتصدرها القوى اليسارية، تفرض حركة فرنسا المتمردة –الاتحاد الشعبي عليهم اتفاقية في التشريعية مواتية، وتمنح نفسها وسائل الادارة السياسية المؤقتة للخيارات الرئيسية لما تبقى من قوى تمتد من يسار الوسط الى اليسار المتطرف، باختصار، الذي كان منذ زمن بعيد حزباً وتحالفاً حكومياً ذا مصداقية.
   إن فخ الشخصنة إلى أقصى حد للانتخابات الرئاسية، التي أصبحت الانتخابات الموجّهة للحياة السياسية الفرنسية، أصبح الآن رهيبا لأي عمل سياسي طويل المدى. في سن السبعين تقريبًا، لا يستعد جان لوك ميلينشون فقط لخوض حملته الأخيرة، ولكن أيضًا لمغادرة معسكر سياسي بأكمله -متجاوزا “المتمردين” -مرة أخرى يتامى نسبيًا ومحرومين من زعيم، وعرضة للغرق في نزاعات بيزنطية شديدة.

  مهما كانت نتيجة جان لوك ميلينشون، وربما تكون مخيبة للآمال في المطلق وواعدة من الناحية النسبية. ومع ذلك، وهذا هو الشيء الرئيسي، فإنه سيترك يسارًا راديكاليًا يتيمًا لقائد، تعذبه خيارات استراتيجية يستحيل الحسم فيها، وجهازًا أكثر استعدادًا للهجوم على الإليزيه أكثر من خوض معركة الخنادق المزعجة في مختلف الطبقات الانتخابية لفرنسا اللامركزية.
   في بداية عام 2022، تجتذب ورقة ميلينشون تصويتًا يساريًا ملتزمًا بالتذكير بهوية اليسار التاريخي وجمهور ناخب يميل إلى بناء قوة معارضة على المدى الطويل. إن التشكيك في الامتداد السياسي للملحمة ميلينشونية ليس إهانة لأحد. فهل هي إنجاز حاسم لليسار الراديكالي أم أرض محروقة سياسيًا؟ الحياة ستقرر وتبتّ.

*عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جان جوريس ، باحث في العلوم السياسية ، متخصص في الحقوق والأبعاد الثقافية للسياسة ، من مؤلفاته “إلى غد غرامشي».